تناقلت بعض الصّحف والمواقع العربيّة سنة 2003 رسالة لفرويد أبدى فيها تحفّظه على المشروع الصّهيونيّ، وظلّت نتيجة لذلك محجوبة عن الأنظار طيلة سبعين عاما ونيّفا. كتب فرويد هذه الرّسالة سنة 1930 مخاطبا بها حاييم كوفلر، عضو “مؤسّسة إعادة توطين اليهود في فلسطين”، ليعتذر له عن عدم توقيعه النّداء الذي وجّهه إليه من أجل دعم القضيّة الصهيونية في فلسطين ومساندة حقّ اليهود في إقامة شعائرهم بحائط المبكى.
إليكم نصّ هذه الرّسالة، وقد اجتهدت في ترجمته من الفرنسيّة، مستفيدة من ترجمة سابقة يبدو أنّها من الإيطاليّة، آملة أن تصدر ترجمة أخرى لها من لغتها الأصليّة، تكون أكثر دقّة واقترابا من ألفاظ فرويد وتعابيره :
“لا يمكنني النزول عند رغبتكم. لا يمكنني أن أقاوم تحفّظي على لفت انتباه الجمهور إلى شخصي، لا سيّما أنّ الظّروف الحرجة الحاليّة لا تشجّعني على ذلك. من يريد التّأثير في الجموع عليه أن يقول لهم شيئا مدوّيا وباعثا على الحماسة، وهذا ما لا يسمح لي به رأيي المتحفّظ على الصّهيونيّة. إنّني بلا ريب أتعاطف مع كلّ الجهود التي تبذل من تلقاء النّفس، كما أنني فخور بجامعتنا في أورشليم، وأبتهج عند رؤية الازدهار الذي تشهده منشآت مستوطنينا. لكنّني من ناحية أخرى، لا أظنّ أنّ فلسطين يمكن أن تصبح يوما ما دولة يهوديّة، ولا أظنّ أنّ العالمين المسيحيّ والإسلاميّ على حدّ سواء سيبديان في يوم ما استعدادا لجعل أماكنهم المقدّسة في عهدة يهود. كان من الأجدى، فيما يبدو لي، بناء وطن يهوديّ على أرض غير مشحونة تاريخيّا. لكنّني أعرف أنّ فكرة عقلانيّة من هذا القبيل لا يمكن أن تستدرّ حماسة الجموع ولا معونة الأثرياء. وأقرّ أيضا، وبكلّ أسف، أنّ تعصّب مواطنينا غير الواقعيّ يتحمّل نصيبه من المسؤولية في إثارة الارتياب لدى العرب. لا يمكن لي أن أبدي أيّ تعاطف ممكن مع تديّن مؤوّل بطريقة خاطئة، يحوّل جزءا من حائط هيرودوت إلى شيء عتيق مقدّس، ويتحدّى بسبب هذا الشّيء مشاعر سكّان البلد. ولكم النّظر فيما إذا كنت بمثل هذا الموقف النقديّ، الشّخص المؤهل لمواساة شعب يزعزعه أمل لا مبرّر له.”
ورغم أنّ هذه الرّسالة لم تسرّ الصّهيونيّين من معاصري فرويد إبّان كتابتها، واتّخذها بعضهم بعد صدورها دليلا على خطإ تشكيك فرويد في إمكان قيام دولة يهوديّة على “أرض الميعاد”، فإنّها لم تسرّ العرب إلاّ من حيث هي وثيقة إدانة للصّهيونيّة. يقول مقدّم الرّسالة في نصّ غير مُمضى تناقلته مواقع عديدة: “وحكاية هذه الرسالة يمكن اعتبارها حدثاً ليس بسبب مضمونها فحسب، والذي من شأنه أن يبلبل خواطر أوساط يهودية كانت تجيز لنفسها إشراك مؤسس التحليل النفسي في عملية الكفاح من أجل إقامة دولة إسرائيل والذود عن حياضها، بل كذلك وخصوصاً بسبب حجبها واحتجازها الطويلين كما لو أنها تنطوي على أسرار تطاول المصلحة العليا والقصوى لدولة أو لمشروع دولة.”
لا شكّ أنّ في مصادرة الرّسالة مظهرا من مظاهر الجهاز السّلطويّ الذي ضغطت وتضغط به الحركة الصّهيونيّة على كلّ من يشكّك في المشروع الصّهيونيّ، بمن في ذلك المفّكرون اليهود أو من ذوي الأصول اليهوديّة. ولكنّ الإشكال الأوّل يكمن في ضيق الرّؤية التي وَضعت أفكار الرّسالة وما تنطوي عليه من مواقف إيطيقيّة بين قوسين، واكتفت باعتبارها وثيقة إدانة للصّهيونيّة أو محاكمة فجّة لفرويد. والمطّلع على سياقات إيراد هذه الرّسالة والتّعاليق التي كتبت عليها في مواقع الإنترنت يفاجأ بأنّ هذه الوثيقة لم تبرّئ ساحة فرويد من الصّهيونيّة التي يتّهمه بها العرب، بل حملت المزيد من الإدانة. فكأنّ العرب في تعاملهم مع هذه الوثيقة أرادوا أن يعرفوا ما يعرفون، ويزدادوا إدانة لما يدينون، وارتيابا في من يرتابون فيه من المفكّرين ذوي الأصول اليهوديّة. حجب الصّهيونيّون الرّسالة لمدّة سبعين عاما. وعندما ظهرت الرّسالة، أخضعها العرب إلى المحاكمة، ليحجبوا مضمونها على نحو من الأنحاء.
من منطلق المحاكمة هذا، لم يتأمّل المعلّقون العرب موقف فرويد النّقديّ من فكرة إقامة دولة يهوديّة على الأراضي الفلسطينيّة، ولم يتدبّروا معاني صونه نفسه عن الإثارة الجماهيريّة، وعدم توظيفه علمه ومركزه العلميّ لخدمة الإيديولوجيا، وعدم تقمّصه دور الضّحيّة المطاردة المضطهدة، رغم أنّه اضطهد فعليّا بسبب أصله وحرم طويلا من بعض المناصب العلميّة قبل أن تحرق كتبه ويضطرّ إلى الهجرة إلى بريطانيا. ولم يكن بوسع قرّاء الرّسالة وهم أسرى لنرجسيّاتهم القوميّة والدّينيّة أن يقرؤوا فيها نقد فرويد للنّرجسيّة الجماعيّة التي استسلم إليها الكثير من اليهود، ورفضه لمجاراة الانغلاق على الهويّة ورفضه للأوهام التي تتبنّاها الجموع، وللتّعصّب غير الواقعيّ، وللأمل “الذي لا مبرّر له”.
لم يقرأ المعلّقون هذه المعاني، ولم يتحمّسوا أيضا لها، لأنّهم ربّما كانوا يتمنّون لو لم يكتف فرويد بإبداء تحفّظه إزاء الصّهيونيّة، ولم يبد تعاطفه مع اليهود الذين استوطنوا فلسطين في زمنه. كان عليه أن يتنبّأ أو يكون فوق التّاريخ من أجل إرضاء العرب. كان عليه أن لا يتملّص من الصّهيونيّة فحسب، بل ومن كلّ اليهود، وأن يناصر القضيّة الفلسطينيّة بالطّريقة نفسها التي يناصر بها العرب اليوم القضيّة الفلسطيّنيّة. فعندما كتب إدوارد سعيد منتصفا لفرويد، وعندما ذكّر بالبديهيّات، قائلا إنّ الرّجل: “لم تكن لديه أية فكرة على الإطلاق عما كان يمكن أن يحدث بعد عام 1948”، كتب أحدهم مشكّكا: “هل صحيح أنه لم تكن لديه أية فكرة على الإطلاق عما كان يمكن أن يحدث بعد عام 1948 كما يذهب ادوارد سعيد في محاضرته المذكورة أعلاه (...)؟ تلك أسئلة يصعب أن نتكتمها على الرغم من محبتنا الكبيرة لفقيد الفكر الإنساني ادوارد سعيد.”
هكذا توجّه صاحب المقال باللاّئمة على إدوارد سعيد، واعتبر ما كتبه عن فرويد من باب “كبوة الجواد”، لأنّه حسب رأيه ارتكب خطأ الدّفاع عمّن لا يمكن الدّفاع عنه.
توفّي فرويد سنة 1939، ولكنّ العرب يطلبون منه إدانة ما حصل سنة 1948. لم يكن فرويد مناصرا للفكرة الصّهيونيّة، ولم يكن مؤمنا بالعقيدة اليهوديّة، وكان أكثر ما يزعجه اعتبار التّحليل النّفسيّ علما يهوديّا وخاصّة بعد ترويج النّازيّين لهذه الفكرة، وكان يناهض النّسبويّة الثّقافيّة التي اتّجه إليها خصمه يونغ... ومع ذلك، فكلّ هذا لا يكفي. لأنّ على فرويد لكي يحظى بثقة العرب أن يعلن تملّصه التّامّ من اليهود واليهوديّة، أو أن يتنبّأ بمصير القضيّة الفلسطينيّة ويتبنّاها كما تبنّاها العرب بعد موته بعدّة عقود. يضع هؤلاء العرب فرويد على الميزان، ولكنّ الميزان هو ميزانهم الخاصّ، والمنظار منظارهم الخاصّ، ولا يريدون أن يروا شيئا من خارجه.
ويقول أحد المعلّقين المتحيّرين على الرسالة وقد نشرت في أحد منتديات الإنترنت: فرويد "كان يعتبر نفسه منعتقاً من الأديان جميعاً ولكنه في أماكن أخرى كان يعتزّ بجذوره اليهودية ، من وجهة نظر خاصة لم يفصح عنها . كيف سنوفّق بين القولين؟ لا أعلم وحده الله
من يعلم" .
وهنا أيضا تتواصل عمليّة القراءة بالمنظار الخاصّ جدّا: لا يعرف المعلّق كيف يمكن التّوفيق بين الإلحاد والاعتزاز بالجذور، لأنّه يُسقط على العالم عجز المسلمين الحاليّين عن التّمييز بين الانتماء إلى الإسلام باعتباره دينا، والانتماء إليه باعتباره حضارة أو ثقافة أو ذاكرة. فلا يوجد في العربيّة مقابل لمفهوم الانتماء الثّقافيّ لليهوديّة والنّصرانيّة، أي لما يعبّر عنه في الفرنسيّة بـjudéité وchrétienté، وهما لفظتان تعنيان طريقة الإنسان في أن يكون يهوديّا أو نصرانيّا بقطع النّظر عن عقيدته وعلاقتها بالمعتقد المكرّس. إنّها خانة فارغة في ثقافتنا ولغتنا لسبب بسيط هو أنّ الدّين الإسلاميّ لم يتعرّض إلى حركة الإصلاح التي تسمح للمسلم بأن يكون له انتماء ما إلى ثقافة الإسلام وأن يكون في الوقت نفسه ملحدا أو لاأدريّا، في حين أنّ هذه النّقلة حصلت في الدّيانتين الأخريين. المسلم عندنا يولد مسلما وإذا لم يعد مؤمنا بعقيدة الإسلام، فإنّ له وضعا واحدا يواصل الوصاة على الدّين فرضه، هو وضع المرتدّ الذي يجب أن يقتل. المسلم إمّا أن يكون مسلما أو مرتدّا أو في حكم المرتدّ الذي نجا من القتل نتيجة تعطيل حدود اللّه، ولا يمكن له أن يعتزّ بجذوره الإسلاميّة أو يبدي تعاطفا مع المسلمين وهو غير مؤمن بعقيدة الإسلام. و
لا مكان في الإسلام الحاليّ لمن يولد مسلما ويصبح ملحدا، ولكنّه يبقى على صلة ما بثقافة الإسلام وحضارته، ويظلّ قارئا لبعض نصوصه ومسائلا إيّاها.
وعندما أردت البحث عن ترجمة عربيّة لهذه الرّسالة، وأنا أعدّ دراسة مطوّلة عن تقبّل العرب للتّحليل النّفسيّ، عثرت على مقالات وتعليقات هالتني من فرط ما تنبني عليه من كره لمؤسّس التّحليل النّفسيّ، وجهل بأبسط ما كتب، وحقد على اليهود لمجرّد أنّهم يهود. فقد نسب الكتّاب والمعلّقون العرب لفرويد الدّعوة إلى انتهاك تحريم نكاح الأقارب، ونسبوا إليه التّآمر على العرب والرّغبة في إثبات حقّ اليهود في الاستيطان بمصر، نتيجة فرضيّته الجريئة عن الأصل المصريّ للنّبيّ موسى.
وأنا متأكّدة أن هذا الكمّ من تشويه فرويد ومن الجهل بحياته وكتاباته لا نجده في أيّ لغة وأيّ ثقافة من الثّقافات.
لم يغتفر الكثيرون لفرويد اكتشافه لأهمّيّة الدّفع الجنسيّ، وللحياة الجنسيّة بالمعنى الواسع للأطفال، ولم يغتفروا له اكتشافه للاشعور في علاقته بالكبت، أمّا نحن فلم نغتفر له كلّ هذا، رغم أنّنا لم نكد نترجمه ولم نكد نقرأه، ولم نغتفر له أمرا آخر على غاية البساطة هو أنّه يهوديّ الولادة والمنشأ. فنقدنا إيّاه يقع في دائرة ما قبل العلم وما قبل الأخلاق وما قبل كلّ شيء... فاليهوديّ مهما كان موقفه من الصّهيونيّة ومن دولة إسرائيل، ومهما كان دوره في بناء المعارف والقيم الكونيّة يظلّ غريب الوجه واليد واللّسان في عالم العرب المسلمين.
مرّة أخرى يثبت العرب أنّهم لا يرون أبعد من قيد أنملة، ولا ينظرون إلى العالم إلاّ باعتبارهم ضحايا مطلقين وجرحى نازفين، ويثبتون أنّهم أقدر على المحاكمة والإدانة منهم على التّفكير والاحتكام إلى القيم الإنسانيّة، وأقدر على البحث عن النّوايا منهم على تحليل الأفكار. ثقافة “فلان في الميزان” أو “تحت المجهر”، أو “أمام المنظار” أو “هذا على الحساب قبل قراءة الكتاب”... ما زالت متواصلة، والميزان الذي وضعوا فيه فرويد ليس ميزان التّفكير في النّفس البشريّة، وليس ميزان المعرفة التي تهتمّ بالألم البشريّ، بل ميزان القضيّة الفلسطينيّة وقد تمّ مزجها بشيء من الإسلام وشيء من العروبة، وشيء من العنصريّة، وكثير من الجهل.
الخميس ديسمبر 19, 2013 1:05 am من طرف هرمنا