من الأطياف المرفرفة التي ستظلّ تحوم بنا طيف لابواسّي، ذلك الفتى الفرنسيّ الذي كتب سنة 1548، وهو لم يبلغ سنّ العشرين، مقالة في “العبوديّة المختارة”. فضْلُ لابواسّي هو أنّه نبّه النّاس في زمانه، وينبّهنا اليوم إلى ما نميل إلى الغفلة عنه، وهو أنّ للضّحيّة الباكية أو المتباكية قسطا من المسؤوليّة في نظم الاستبداد وفي الكثير من سيناريوهات العنف المتكرّر. نبّهنا إلى ذلك بلغة بسيطة فريدة، فيها الكثير من حميّة الشّباب وتوهّج الفكر، وفيها شيء من الغضب، عندما يكون الغضب طاقة مولّدة للتّفكير، لا مجرّد “هوى” من الأهواء التي تحول دون التّفكير (لعلّه غضب آخر غير الغضب الذي يبدو أنّ ياسين الحاج صالح غاضب منه في “خواطر مرسلة في شأن السياسة والثّقافة”، وليسمح لنا بهذه الدّعابة).
أدهش كتيّب لابواسي النّاس وشدّهم على مرّ العصور، لأنّه يتجاوز السيّاق التّاريخيّ الذي أراد بعضهم اختزاله فيه، وهو سياق احتجاج البرجوازيّة النّاشئة على إكراهات النّظام الإقطاعيّ الأوروبّيّ، ففي كلّ نصّ نابع من شوق تترجمه الكتابة، يوجد بالضّرورة بعد يتجاوز مقتضيات التّاريخ والسّياق، كثيرا ما تضيّعه المقاربات المستلهمة من الماركسيّة. وربّما تمثّل فكرة العبوديّة المختارة اليوم أداة مهمّة لتحليل دوائر الاستبداد وأشكاله المختلفة، أو ربّما تمثّل منفذا لإدخال نفحة من الهواء الجديد على طرحنا لإشكاليّات السّلطة والهيمنة لا في المستوى السّياسيّ فحسب، بل في مستويات أخرى.
ولقد أصاب لابواسّي المقتل عندما قلب النّظرة السّائدة للهيمنة، مبيّنا أنّ العبد هو الذي يبني في خياله السّيّد ويسلم إليه مقاليد نفسه في واقعه، وليس السّيّد الذي يتغلّب على مصارعه فيحوّله إلى عبد كما في الجدليّة الهيجليّة الشّهيرة. يقول لابواسي حسب التّرجمة العربيّة البديعة التي خصّه بها مصطفى صفوان (صدرت سنة 2005) : “من أين له (الطّاغية) العيون التي يتبصّص بها عليكم إن لم تقرضوه إياها؟ وكيف له بالأكف التي بها يصفعكم إن لم يستمدّها منكم؟ ومن أين له بالأقدام التي يدوسكم بها إن لم تكن من أقدامكم؟ كيف يقوى عليكم إن لم يقو بكم؟ كيف يجرؤ على مهاجمتكم لولا تواطؤكم معه”.
ولكن لا حدّ لإمكانيّات التّأويل والتّصريف التي يفتحها حدس لابواسي هذا في تفسير إماتة الشّوق إلى الحرّيّة والاستكانة إلى الآخر. فما العبوديّة المختارة سوى السّادومازوشيّة الممارسة على نطاق اجتماعيّ وسياسيّ في عصرنا هذا الذي يعدّ عصر إنسان الجموع سليب الإرادة، وفي السّياق العربيّ الرّاهن الذي لا يعيش فيه العربيّ عبوديّة البضاعة والصّورة والاستهلاك المعولم فحسب، بل يعيش عبوديّات أخرى: عبوديّة تخضعه إلى أنظمة تحتكر السّلطة والثّروة ولا يبتعد زعماؤها كثيرا عن صور الطّغاة كما رسمها لابواسّي منذ حوالي أربعة قرون ونصف، وعبوديّة تخضعه إلى رجال الدّين في دين ليس فيه كنيسة ولا بابا، ولكن كلّ جماعة فيه وكلّ فرد يمكن أن ينتصب كنيسة وبابا.
يمكن أن يفيدنا لابواسّي في تعرية لعبة عبادة “الواحد” الذي “يكفي النّطق باسمه لإيقاع الفتنة والسّحر” كما يقول، الواحد الذي نجعله فوق القانون وفوق كلّ شيء، والذي لا نكتفي بعبادته، بل نعيد إنجابه، أو نؤبّد النّظام الذي يعيد إنجابه. فالسّؤال الذي يمكن أن نطرحه على أنفسنا ليس فحسب : لماذا نواصل إحلال من نولّيهم أمورنا محلّ الآلهة التي تحاسبنا وتعاقبنا دون أن نحاسبها ونعاقبها، بل: لماذا ينهل الكثير من معارضي عبادة الأشخاص من المعين الاستبداديّ والجموعيّ نفسه، فيخلقون في دوائرهم الخاصّة زعماء آخرين يستولون على سدّة الحكم في الدّائرة الضّيّقة، بحيث تفقد مطالبتهم بالدّيمقراطيّة كلّ مصداقيّة، وتفقد تنظيماتهم كلّ طابع مؤّسّسيّ مدنيّ؟ لماذا تتحوّل كلّ تجارب الحرّيّة الجميلة إلى بوتيكاتات لقضاء المصالح وبناء التّحالفات وإنتاج “الواحد” المتألّق في صيغة مفردة أو متعدّدة، المتألّق بمجرّد النّطق باسمه أو عرض صورته؟
وهناك أسئلة أخرى من وحي لابواسّي يمكن أن نطرحها: لماذا تتواصل سلطة رجال الدّين على النّفوس والعقول رغم ما اتّضح من خواء فتاواهم وصغر نفوسهم وعقولهم في الأغلب الأعمّ؟ ألم تعل أصوات المكفّرين بصمتنا وخوفنا؟ ألم نشلّ أيدينا لنساعدهم على توجيه أصابع الاتّهام نحونا كما في صورة لابواسي؟ إذا كان غير المؤمن لا ينهض بعبء “كفره”، بالمعنى الضّيّق الأوّليّ للكلمة، أي عدم إيمانه، فيتكلّم لغة المؤمنين، ويتظاهر بالعبادة مثلهم، ويحشر نفسه في زمرتهم، ويبسمل ويحوقل مثلهم، ولا يريد أن يحلّ في موقع غير المؤمن الذي هو موقعه، ألا يترك المجال لمن يتّهمه بما هو عليه في حقيقته، أي لمن يكفّره؟ أليس جهر غير المؤمنين بمعتقداتهم هو إحدى الوسائل المدنيّة الرّاقية لمواجهة التّعصّب والأصوليّة التي لم تنتشر إلاّ لأنّها وجدت السّاحات قفراء صامتة؟
ويسمح لنا لابواسّي بتعرية لعبة احتمال ما لا يحتمل وبطرح أسئلة من هذا القبيل: لماذا تحتمل النّساء ما لا يحتملنه، وتدافع الكثيرات عن خصوصيّات تأسرهنّ وتفقدهنّ ذواتهنّ وفرادتهنّ ووجوههنّ؟ لماذا ينتشر حجاب النّساء وهو الوسم الدّالّ على عبوديّتهنّ العتيقة، ويتحوّل إلى علامة على التّحرّر والإرادة الشّخصيّة؟ لماذا تواصل النّساء الالتحاف بالسّواد في حرّ القيظ ولماذا يواصلن جرّ عباءاتهنّ وخمرهنّ كما جرّ المسيح صليبه؟
تبقى صيحة لابواسي الشّابّ جديدة متجدّدة رغم القرون الطّويلة التي تفصلنا عنه، وأهمّ دليل على ذلك عودة بعض المحلّلين النّفسانيّين إلى هذا الكتاب لينظروا إلى العبوديّة المختارة على أنّها تنظيم مرضيّ يوجد في الكثير من الأبنية الذّاتيّة، ويتجسّد في الكثير من المصائر الفرديّة والجماعيّة. فهذا الكتاب حسب آخر دراسة من هذا القبيل (عياديّة العبوديّة، جاك فليسيان، باريس، 2007) “يربط بين السّياسيّ واللاّشعور فاتحا الباب لإيطيقا الشّوق”، لأنّ الحرص على خدمة الآخر في نطاق العبوديّات المختارة ليس شوقا للذّات “بل استعمالا لما بقي لها من متعة لكي تضمن متعة الآخر”. فلا يوجد أمر لا يحتمل، إلاّ وتوجد لعبة أحد أطرافها يحتمل ما لا يحتمل، ويكلّف نفسه ما لا طاقة به خدمة لآخر خياليّ أكثر منه رمزيّا، وهو في ذلك إمّا يتظاهر بالشّكوى ويستمتع بها، أو يعلن أنّ قدره المحتوم أو منيته وضالّته واجب احتمال ما لا يطاق، والنّتيجة في كلتا الحالتين هو أنّه يغترب عن ذاته، ويغطّي ما لا طاقة له به بكوكبة خطابات الواجب والهويّة والوفاء الخادع، ويواصل بناء صروح العادة، وهي أوّل سبب من أسباب العبوديّة المختارة حسب لابواسّي.
الإنسان يولد حرّا نعم، ولكن علينا أن نضيف إنّه يولد وبين جوانحه شوق دفين إلى الحرّيّة، والعبوديّات المختارة هي كلّ ما تراكم من حجب تحول دون الوعي بهذا الشّوق ودون مسايرة حركته.
الخميس ديسمبر 19, 2013 1:01 am من طرف هرمنا