إلى أيّ حدّ تفرض لعبة الجدال ومتطلّباتها أفقا وسقفا لممكنات التّفكير؟ هل يمكن أن نحاكي قولة أبي حيّان التّوحيديّ “كما تكونون يُولّى عليكم” للحديث عن العلاقة بين الخصم وخصمه، بحيث نقول: “كما تكونون يكون خصمكم”؟ هل أضعنا وقتا طويلا في الحجاج ضدّ الإسلاميّين؟ هل فرضت علينا ظروف المرحلة، مرحلة المدّ الأصوليّ، خصوما من درجة فكريّة دنيا فانسقنا رغم كلّ شيء إلى فخّ ما أو سهولة ما، أو نقص في التّفكير عوّضته متعة ما لم نفكّر فيها، لأنّ المتعة هي ما لا يقبل التّفكير وما يحول دون التّفكير؟ وفي الوقت نفسه، هل كان بالإمكان عدم الدّفاع عن المكاسب المدنيّة السّياسيّة التي حقّقتها الحداثة والتي ثبت عداء أغلب الإسلاميّين لها أو عداؤهم لأغلب مظاهرها؟ هذه الأسئلة أطرحها على المجادلين للإسلاميّين، وأطرحها على نفسي، لأنّني منذ بضعة سنوات طويت الكثير من دفاتري، وعلّقت جانبا من مشاريعي في البحث لأدخل حلبة الصّراع مع الإسلاميّين كالكثير ممّن رأوا في الإسلام الأصوليّ، وهم محقّون في ذلك، عدوّا أساسيّا للحرّيّة والمساواة.
ربّما يتعيّن علينا اليوم القيام بوقفة تأمّل للتّراكم الذي حصل في الجدل بين الإسلاميّين وغيرهم من العلمانيّين أو المتديّنين المجتهدين في الأحكام، ممّن يشتركون مع الإسلاميّين في منطلقاتهم الإيمانيّة، ولكن يختلفون معهم في أطروحات تخصّ أحكام الشّريعة وإمكانيّات التّأويل، وعلاقة الدّين بالدّولة. وربّما يتعيّن علينا طرح أسئلة أخرى لم نطرحها بعد ولا أملك شخصيّا جوابا كافيا عنها، وهي تندرج أوّلا في إطار التّقييم و“قياس الأثر”، والنّقد الذّاتيّ، وتندرج ثانيا في إطار العلاقة بين الخصم وخصمه وفي اللّعبة التي قد تنشأ بينهما، وفي مخاطر متعة الخصام التي تمثّل عائقا دون التّفكير.
فهل حقّق الجدل مع الإسلاميّين التّراكم المعرفيّ المطلوب الذي من شأنه أن يخلق تديّنا مختلفا عن تديّن الأصوليّ والمتعصّب والإرهابيّ، وما مساحة هذا التّديّن من المنظومات الإعلاميّة والتّربويّة في كلّ بلد؟ كيف يمكن عمليّا أن “نقيس الأثر”؟ وما العلاقة بين هذا التّديّن المختلف والتّديّن التّقليديّ الذي كان عليه آباؤنا وأجدادنا وجعلهم عموما غير أصوليّين وغير إرهابيّين؟ ما دور الدّعاة الجدد في خلق هذا التّديّن الجديد أو في المزيد من إنتاج “هذيان اللّجوء إلى الأصل” (والعبارة لفتحي بن سلامة في كتابه “الإسلام والتّحليل النّفسيّ”)؟ هل تحقّق شيء ممّا يسمّيه فرويد بـ“عمل الثّقافة”، أي الإنتاج اللّغويّ والفكريّ الذي يجب أن يواكب تحوّلات الذّات في لحظات “طفرة الحضارة” ويسدّ الثّغرات التي تنتجها القطيعات، حتّى لا تتحوّل الذّات الخارجة من التّقليد إلى فرد أعزل من كلّ تماهيات إيجابيّة، ولا تضطرّ إلى الحلول القصوى التي تنفلت فيها الغرائز وتظهر فيها الهذيانات الجماعيّة بديلا عن الفهم والتّعقّل والعلاقة التّأويليّة؟
ثمّ هل حصل تفاعل بين الإسلاميّين وغير الإسلاميّين أم بقي كلّ في مكانه؟ ألا يمكن أن نبرح موقع المجادل من حين لآخر، لنتبيّن وجوه التّفاعل هذه؟ ما الذي جعل مفتيا مثل القرضاوي يطوّر فتاواه بخصوص تولّي المرأة الحكم، وبخصوص قتل المدنيّين؟ فلا شكّ أنّ الانتهازيّة السّياسيّة وحدها لا تفسّر هذا التّطوّر، بل يفسّره تعقّد الخطاب الأصوليّ نفسه، بحيث أنّه ليس خطابا دينيّا تقليديّا محيلا إلى ذاته auto-référentiel، بل هو خطاب يعتمد من حيث يعي أو لا يعي مرجعيّتين في نفس الوقت : مرجعيّة دينيّة ومرجعيّة مدنيّة ديمقراطيّة حديثة، وهو ما يجعلنا إزاء خصم أكثر تعقّدا من كونه “ظلاميّا” و“ماضويّا” و“سلفيّا”، وما يدعونا إلى عدم تغليب لحظة الحكم على لحظة الفهم والمعرفة. فهذا الخصم، إلى أيّ حدّ يشبهنا أو يريد أن يشبهنا رغم اختلافه عنّا؟
ثمّ هناك أسئلة تتعلّق بجانب آخر من التّقييم وقيس الأثر. فما مدى قابليّة الفتاوى للتّطبيق، وما نصيب الخطاب وما نصيب الواقع في التّحوّلات التي تفرض على أهل الإفتاء والمستهلكين للفتوى؟ فمن الواضح اليوم أنّ الكثير من الفتاوى المنشورة والمتاحة على الإنترنت لا يمكن أن ينظر إليها الكثير من المؤمنين بعين الجدّ، ولا نحتاج حتّى إلى تفنيدها، من ذلك على سبيل المثال فتوى ابن باز بتحريم القول بدوران الأرض حول الشّمس، فهي تتطلّب من العامل بها درجة عالية من الأمّيّة العلميّة، أو درجة أعلى من إنكار ما ثبت للبشريّة جمعاء منذ عدّة قرون، أو درجة أعلى من الطّاعة العمياء لرجال الدّين. ومّما لا شكّ فيه أنّ الفتاوى الكثيرة التي منعت عمل المرأة أصبحت غير مؤثّرة إن لم نقل لاغية، وربّما لا يعود ذلك إلى أنّ الجدل مع الإسلاميّين أتى أكله بقدر ما يعود إلى أنّ الواقع بقواه المادّيّة أخرج النّساء من بيوتهنّ وفعل فعله حتّى في البلاد التي تُمنع فيها المرأة من اقتياد السّيّارات. كما أنّ منع المرأة من اقتياد السّيّارات لم تفلح معه الحجج التي قدّمت في بيان بطلان حجّة “درء الشّبهات” التي تعلّل بها فقهاء الوهّابيّة لتضييق الخناق على حركة النّساء، وربّما أفلحت معه الضّرورات الاجتماعيّة التي ستؤدّي حتما إلى إلغائها. فالخطاب عن الأصوليّة يفكّك إيديولوجيّتها، ولكنّ للواقع أثرا في هذا التّفكّك، وأتذكّر هنا أحد تعريفات جاك درّيدا للتّفكيك، عندما قال “يتفكّك” ça déconstruit ناسبا ما اعتُبر “منهجا” وفلسفة له إلى قوى الحياة والواقع.
لننتبه إذن إلى ما يتفكّك بمعزل عن تفكيكنا، ولنتواضع قليلا، حتّى لا نتحوّل إلى دعاة أو هداة يمكنهم تبديل العقائد بعصا سحريّة. فلعلّ الضّربة الأقوى التي تلقّاها خطاب الإفتاء لم تكن ناتجة عن الخطاب المناهض لها، بل كانت ثمرة انهياره الدّاخليّ نتيجة تناقضات مزمنة أخرجت فتاوى البول والغائط ورضاع الكبير وتحريم الإنترنت على النّساء بدون محرم، وجعلت الكثير من المؤمنين يشعرون بالعار ويراجعون علاقتهم برجال الدّين.
ولو أردت أن أساهم اليوم في إعداد نوع من “الحساب الختاميّ”، لقلت أوّلا في مجال تصنيف أنواع المجادلين للإسلاميّين :
— هناك من جادل الإسلاميّين وهو يشترك معهم في نفس المنطلقات، ليوسّع دائرة الحلال التي يضيّقونها، وليقوم باجتهادات فرعيّة في اتّجاه التّحديث الاجتماعيّ وإدماج حقوق الإنسان داخل المنظومة الإسلاميّة. وسأتّخذ مسألة الحجاب مثالا، فهؤلاء لا يرون أنّ القرآن فرض لباسا معيّنا على المرأة، بل طالبها بالاحتشام، وبإسدال الثّوب على فتحة الصّدر، أي “الجيوب” المذكورة في آية “الخمار”، وهناك من رأى أنّ الحجاب كان يُقصد منه التّمييز بين الحرائر والإماء، وبما أنّ هذا التّمييز لم يعد قائما، فإنّ حكم الخمار يبطل ببطلان علّته.
— هناك من جادل الإسلاميّين انطلاقا من مرجعيّة علمانيّة، هي مرجعيّة حقوق الإنسان من النّاحية القيميّة، ومرجعيّة المعرفة التّاريخيّة من النّاحية المعرفيّة. ومن هؤلاء من بيّن وجود الحجاب قبل الإسلام وعدم ارتباطه العضويّ بالأديان، ومنهم من بيّن ارتباط الحجاب بوضعيّة المرأة الدّونيّة، باعتباره آليّة من آليّات مراقبتها والهيمنة عليها في نظام اجتماعيّ تكون فيه المرأة ملكا للرّجل، على نحو مغاير لملكيّة الأشياء.
وقد كنت ولا أزال من أنصار الموقف الثّاني، وكنت أرى من واجبي تكذيب المنكرين للوضعيّة الدّونيّة للمرأة في الإسلام، انطلاقا من قيميّة استلهمتها من التّحليل النّفسيّ، وهي ضرورة تذكّر المكبوت، حتّى ننتقل من التّكرار إلى الفعل المختلف، وضرورة القيام بحداد على الماضي، حتّى لا يتحوّل الأسلاف إلى أشباح تطاردنا لأنّها ليست حيّة ولا ميّتة، فتكون نصيرة لأنا أعلى جبّار وباعث على التّاثّم المستمرّ، وضرورة تسمية الأشياء بأسمائها وعدم الانسياق في الأوهام التي تغذّي فكر الجموع، وتحول دون الإنسان وتحقيق شوقه الدّفين إلى الحرّيّة والكرامة.
إلاّ أنّني اليوم أتساءل عمّا تسوقنا إليه المجادلة رغم كلّ شيء من تشبّه بالخصم، ومن بقاء في دائرة ردّ الفعل السّلبيّ.
فبالنّظر إلى الأسئلة التي طرحتها في أوّل المقال، وهي هواجس حقيقيّة، أرى أنّ الخصم كلّما اقترب من دائرة خصمه، دخل في لعبة مرآة بينه وبينه، وشابهه وخضع إلى قواعد منطقه، لا سيّما إذا كان الجدل مباشرا وكان نوعا من التّراشق بالحجارة يثير العواطف والانفعالات من الجانبين أكثر ممّا يثير التّفكير.
كنت أعتقد دائما أنّ شأن المجادلين للإسلاميّين من داخل المنظومة العقائديّة والفقهيّة هو شأن النّائميْن في فراش واحد ولهما غطاء واحد، فكلّ منهما يجذبه إلى نفسه. وهذا الغطاء هو غطاء الحلال والحرام أساسا. مثل هذا الجدل ينتج الاختلافات الطّفيفة التي تبدو مع ذلك هامّة، ولذلك لم أستغرب أن يطال التّكفير أكثر ما يطال من كان هذا شأنهم، ومن أعلنوا إيمانهم على رؤوس الملأ. إنّها الاختلافات الصّغيرة التي تظهر بارزة على سطح التّشابه، فتنتج عداء جوهريّا. فالقتال لا يشتدّ إلاّ بين الإخوة أو الأقارب أو الأشباه، ولا ننسى أنّ أوّل جريمة قتل حسب الأسطورة التّوراتيّة والقرآنيّة كانت بين أخوين شقيقين.
وكنت أعتقد أنّ العلمانيّ الذي لا يحلّ مع الإسلاميّين في دائرة التّنازع على الغطاء، ولا يخفي اختلاف منطلقاته عن منطلقات الإسلاميّين، ولا يراوغ، ينتج ترجمة وتأويلا مختلفا، وأعتقد اليوم انّه أفضل حالا وأبعد عن خصمه الإسلاميّ من غيره، ولكنّني أعدّل اليوم رأيي، لأقول إنّ المجادل العلمانيّ أيضا قد يحلّ رغم ذلك مع مجادله الإسلاميّ في دائرة ما، ليست دائرة الفراش والغطاء الواحد، بل دائرة أخرى. وسأقدّم مثالا واحدا على الأمر.
فعندما اشتغلت على حجاب النّساء في سياق الجدل، واستقصيت ما جاء في القرآن في هذا الموضوع، اعترضتني هذه الآية : “وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ” (الآية 51 من سورة الشّورى). ولأنّني كنت مشغولة بهذا الجدل، طرحت هذه الآية من مجال نظري، أي أنّني جعلتها في حكم المكبوت، لأتفرّغ إلى الحجاج على المنزلة الدّونيّة للمرأة، رغم أنّ اللفظة الواحدة (الحجاب) تنسب إلى الله وإلى النّساء في الكتاب الواحد، ورغم أنّ مقتضيات البحث البنيويّ غير التّجزيئيّ، والفرضيّة التي أتبنّاها إلى اليوم عن هيمنة الدّوالّ على المدلولات تتناقضان مع هذا الإقصاء.
ماذا فعلت إذن في هذا السّياق، سوى أنّني تركت الحديث عن غيريّة الله المطلقة خارج مجال البحث في غيريّة المراة، ولم أتساءل عن العلاقة بين “حجاب الله” و"حجاب النّساء، أي أنّني اهتممت كالأصوليّين بآيات الأحكام، وتركت غيرها، وجعلت مثلهم الفقه لبّ الإسلام، ولم أربط بين هذا النّصّ القرآنيّ ونصوص أخرى شعريّة وفلسفيّة تتحدّث عن الغيريّة والآخريّة، أي أنّني ضحّيت بالعمق النّظريّ والإشكاليّ خدمة لمقتضيات الجدل، ولبلاغة الخصام.
والخلاصة هي أننّي لا أدعو إلى ترك مناهضة الإسلاميّين وترك تفكيك خطابهم، بل أدعو أوّلا إلى الانتباه إلى تفاعل الخطابات المختلفة فيما بينها وتفاعلها مع الواقع، وأدعو ثانيا إلى الحذر من المتعة التي يولّدها الخصام مع الإسلاميّين، والانتباه إلى لعبة المرآة التي يولّدها الجدال معهم، وإلى ما نجحوا إلى حدّ ما في فرضه علينا، وهو اختزال القرآن في آيات الأحكام، واختزال الدّين في الفقه، واختزال التّراث الإسلاميّ في الدّين والتّديّن، رغم انّه تراث زاخر بشتّى التّجارب التّحرّريّة التي يعكسها الأدب والتّصوّف والفلسفة، وتعكسها صور المجّان والظّرفاء والعشّاق والمتشكّكين والسّاخرين، وكلّ ما أنتج من إبداع بشريّ على هامش التّديّن المتجهّم والأحكام المتكلّسة.