في صائفة 2004 كان جاك درّيدا يصارع الموت، وكان مقبلا على “موت الفلاسفة”، أي موت الإنسان الأعزل من كلّ وهم. إنّه كما يقول “مطلق الموت”، أي الموت عندما يكون عاريا بلا «خلاص ولا بعث ولا شفاعة“. في تلك الأثناء نشرت له صحيفة لومند الفرنسيّة آخر حوار له، وكان يحمل عنوان”أنا في حرب مع نفسي“. تحدّث في هذا الحوار عن هذا الموت العاري من الوهم، وعن ضرورة إيجاد”عالميّة جديدة“، وعن قضايا شتّى، وبقيت في ذاكرتي من هذا النّصّ ما اعتبرته في ما بيني وبين نفسي، ولأسباب تخصّني، وصايا سياسيّة لدرّيدا، أو كلاما ذا طابع وصائيّ، بما أنّه كلام أخير. ربّما نسيت هذه”الوصايا"، ولكنّني عدت إليها وأنا أعدّ للنّشر مقالا كنت كتبته عن الإرهاب والإعلام منذ سنة، ولم أقدر على نشره اليوم كما هو.
ممّا جاء في هذا الحوار قوله: “... اليوم، وفي الوضعيّة الجغراسيّة التي هي وضعيّتنا الرّاهنة، أوروبّا، أوروبّا أخرى ولكن لها نفس الذّاكرة يمكن لها (هذه على الأقلّ أمنيتي) أن تتجمّع في الوقت نفسه ضدّ سياسة الهيمنة الأميركيّة (تقرير فولفيتز، تشيني، رمسفيلد، إلخ) وضدّ الهيمنة اللاّهوتويّة العربيّة الإسلاميّة التي لا أنوار لها ولا مستقبل سياسيّا.” ولكنّه لم يتمّ هذه الجملة دون أن يتحفّظ ويحفظ فكره من التّبسيط والابتسار كعادته: “ولكن علينا أن لا نهمل التّناقضات والاختلافات داخل هاتين المجموعتين، ولنتحالف مع كلّ من يقاوم داخل الكتلتين”. وأعتقد أنّ أمنية درّيدا لما يمكن أن تنتهجه أوروبّا، أوروبّا الأخرى الآتية، يمكن أن يكون نهجا للمثقّف الموجود في العالم، مهما كانت الكتلة التي ينتمي إليها بحكم مولده وحياته، لما سنعود إليه من تعقّد قضيّة الانتماء، ولما ذكره درّيدا في هذا الحوار-الوصيّة من ضرورة إيجاد عدالة على النّطاق العالميّ. إنّ حديث درّيدا عن الهيمنتين اللاّهوتويّة الإسلاميّة والأميركيّة يعيدنا إلى ضرورة الوعي بأهمّيّة النّقد المزدوج، باعتباره وضعيّة إيطيقيّة يمكن أن تكون مخرجا لنا من منطق العنف والعنف المضادّ، ومنطق التّعصّب والتّعصّب المضادّ، ومن منطق صراع الحضارات كما تريد ترسيخه الإيديولوجيا الإرهابيّة وضديدها في خطابات الحرب على الإرهاب. أقول هذا رغم أنّ “التّفكيك” مختلف عن النّقد، ولكنّني لا أريد الدّخول في تفاصيل دقيقة لا يتّسع لها المجال في هذا المقال.
وصايا درّيدا السّياسيّة وأقواله في الإرث والانتماء عادت إلى ذاكرتي وأنا أفكّر في موضوع الإرهاب الإسلاميّ، وأفكّر في الوقت نفسه في ما تلقّيته من رسائل وجّهها إليّ عرب مسيحيّون، منهم من يريد أن يعرف ما إذا كنت مؤمنة بالإسلام أم لا، لتطمئنّ نفسه أو ليتّخذ قرارا بشأن ما أكتب، ومنهم من أرسل إليّ آيات وأحاديث تثبت تأصّل العنف في الإسلام وفي نصّه المقدّس بالذّات. يطلب هؤلاء القرّاء من الكتّاب المتواضعين القلقين أمثالي موقفا واضحا صريحا يصنّف في خانة مع أو ضدّ، مع الإسلام أو ضدّه، مع الحرب على الإرهاب أو ضدّها، مع اعتبار الإسلام دين إرهاب أم لا. وكان عليّ أن أتعلّم من درّيدا فعل المقاومة لرغبتي ورغبة غيري في الآراء الجازمة المبسّطة وفي الثّنائيّات الواضحة وضوح الشّمس. ولكنّ إخواننا المنزعجين عن حقّ من العنف الإسلاميّ، والذين عانوا ولا شكّ الأمرّين من التّعصّب في بلدانهم الأصليّة، يطرحون علينا سؤالا جادّا متعلّقا بالذّاكرة وبالإرث والانتماء، وبعلاقة الإرهاب الإسلاميّ المعولم اليوم بالعنف الحربيّ الذي مارسته المجموعة الإسلاميّة النّاشئة في غزواتها التي سمّيت “فتوحات”، وعلاقة مسلم اليوم بالعنف الذي ارتبط بالأصل وبالمقدّس.
الإرهاب فعل لاأخلاقيّ لا أفق سياسيّ له لأنّه عنف مناف للسّياسة، بل إنّه يمثّل نقلة نوعيّة في العنف لأنّه لا يواجه الدّولة فحسب، بل يريد أن يحلّ محلّها، ليقيم إماراته الإسلاميّة وشرائعه هنا وهناك. ولكن انعدام أفقه لا يعني زوال قدرته التّدميريّة، بل كلّ المؤشّرات تدلّ على أنّه لن يضمحلّ بسرعة، ومن هذه المؤشّرات ما يحصل في العراق، ومنها الإعلان مؤخّرا عن قيام تنظيم القاعدة في “المغرب الإسلاميّ”.
يقول أحد الفلاسفة المعاصرين إنّه “لا يوجد شيء أكثر بشريّة من هروب الإنسان أمام نفسه”، وهذا ما ينطبق تماما على علاقتنا بالإرهاب. يكاد الكلّ يجمع على أنّ الإرهاب أمر مدان في النّهاية، ولكن يكاد الكلّ يجمع على عدم إدانته. والنّتيجة هي أنّنا في غضون السّنوات السّتّ الأخيرة، لم نشرع حقّا في بناء ثقافة اللاّإرهاب واللاّعنف، ولم نشرع في إصلاح منظوماتنا التّربويّة والإعلاميّة والدّينيّة في هذا الاتّجاه، بل لقيت دعوات الإصلاح المزيد من الحيطة والحذر.
فبعض الفضائيّات العربيّة تواصل فتح منابرها لشيوخ الإرهاب وتتعامل مع خطاباتهم الهذيانيّة على أنّها فكر يحمل مشروعا قابلا للاحترام والنّقاش والتّمجيد. وقد نجحت هذه الفضائيّات إلى حدّ ما في تحويل فاعلي الإرهاب إلى رموز يتماهى معها بعض الشّباب الإسلاميّ، عبر التّرغيب في لقاء نفس المصير البطوليّ الأضحويّ ونفس الجزاء الآخرويّ. بل ارتكبت بعض هذه الفضائيّات أخطاء أخلاقيّة أرجو أن تحاسب عليها في يوم من الأيّام، تمثّلت في تكرار بثّ الأشرطة التي يرسل بها الإرهابيّون، ممّا يخلق وضعيّة تأثير تنويميّ suggestion معروف في علم النّفس، وقد يؤدّي فعليّا إلى تنفيذ أفعال إرهابيّة. وإلى اليوم يعدل بعض إعلاميّينا عن تسمية الإرهاب إرهابا، باللّجوء إلى تسميات تمجيديّة من قبيل “عمليّات استشهاديّة”، أو إلى عبارات من قبيل “ما يسمّى بالإرهاب” أو “ما يعرّف بالإرهاب”.
ويصرّ الكثير من مثقّفينا ومحلّلينا السّياسيّين على الخلط بين الحكم المعياريّ على الإرهاب والموقف المعرفيّ، بحيث أنّ لحظة تحليل أسباب الإرهاب تؤدّي عندهم إلى رفع المسؤوليّة عن مقترفي جرائم الإرهاب. ويصرّ هؤلاء أيضا على تجاهل التّعريف الذي اعتمدته المجموعة الدّوليّة للإرهاب، وهو تعريف لا يهتمّ بنوعيّة القضيّة المدافع عنها ولا بوسيلة الدّفاع، بل يهتمّ بنوعيّة الضّحايا، بحيث أنّ العمل الإرهابيّ يشمل كلّ استهداف للمدنيّين وغير المحاربين. ويمكن أن أقدّم مثالا على ذلك البيان الذي وقّعته نخبة من المثقّفين العرب، في مايو 2003، وعنوانه “مفهوم المقاومة والإرهاب: رؤية عربيّة-إسلاميّة”. فقد جاء في هذا البيان: “الإرهاب هو استخدام غير مشروع للعنف أو تهديد باستخدامه ببواعث غير مشروعة، يهدف أساسا إلى بثّ الرّعب بين النّاس، ويعرّض حياة الأبرياء للخطر، سواء قامت به دولة أم مجموعة أم فرد، وذلك لتحقيق مصالح غير مشروعة، وهو بذلك يختلف كلّيّا عن حالات اللّجوء إلى القوّة المسلّحة في إطار المقاومة المشروعة.”
عندما يذكر هؤلاء المثقّفون “اللّجوء إلى القوّة في إطار المقاومة المشروعة”، فإنّهم لا يبالون بنوعيّة الضّحايا لما يعدّونه مقاومة مشروعة. فالقضايا التي يدافع عنها الإرهابيّون هي مشروعة في أذهانهم، ويمكن أن تكون مشروعة في أذهان غيرهم، ولكنّ المشكل لا يكمن في نوعيّة القضيّة بل في نوعيّة الضّحيّة. فهذا التّعريف “العربيّ الإسلامي”ّ يشكو من خطإ تحصيل الحاصل، ويفضي إلى تبرئة كلّ عمل إرهابيّ. والحال أنّه لا توجد قضيّة في العالم يمكن أن تبرّر قتل المدنيّين الأبرياء في مطعم أو مرقص أو محطّة قطار أو مدرسة أو سوق، لمجرّد أنّهم ينتمون إلى معسكر مرتدّ أو محتلّ أو غاشم، والمواثيق الدّوليّة التي يستشهدون ببعضها لا كلّها تؤكّد الحقّ في المقاومة المشروعة، ولكنّها تؤكّد في الوقت نفسه واجب عدم استهداف المدنيّين وغير المحاربين.
هذا الإصرار على عدم تسمية الإرهاب وعدم إدانته وعدم مناهضته لا يعود في رأيي إلى مجرّد النّقص في الثّقافة المدنيّة السّياسيّة، بل يعود إلى وجود بؤرتين تغذّيان الإرهاب وثقافة الإرهاب، أو تحولان دون إبداع إيجابيّ لثقافة اللاّعنف.
البؤرة الأولى تتمثّل في الحرب على الإرهاب كما تقوم بها الولايات الأميركيّة المتّحدة وكما تقوم بها الحكومات العربيّة. إنّ المعالجة الأمنيّة للإرهاب ضروريّة، ولكنّها يجب أن تكون مشروطة باحترام افتراض البراءة والمحاكمة العادلة، ونبذ التّعذيب. فالقوّة في حدّ ذاتها ليست عنفا، إنّما تكون عنفا عندما تنتهك القوانين المعمول بها دوليّا وداخل البلد الواحد. والرّدّ على الفعل اللاّأخلاقيّ يجب أن يكون أخلاقيّا، ولذلك فإنّ من أسباب فشل الولايات المتّحدة الأميركيّة في “حربها” على الإرهاب هو عدم احترامها للمواثيق الدّوليّة، وعدم اعترافها بالمحكمة الجنائيّة الدّوليّة، ورفضها تقديم مسؤوليها للمحاكمة الدّوليّة، وعدم إغلاقها معتقل غوانتانمو، وتصرّفها وكأنّها الوصيّ الأمنيّ على العالم، واعتمادها التّعذيب. لا شكّ أنّ الولايات المتّحدة فتحت التّحقيق في بعض الانتهاكات وحاكمت بعض مسؤوليها، ولكنّ المشكل الأخلاقيّ والقانونيّ يكمن في أنّها تريد أن تكون خصما وحكما، تريد أن تكون خصما وبوليسا عالميّا، ولا تريد أن تعترف بحكَم يمثّل طرفا ثالثا، أي يمثّل الهيئات الأمميّة. وهذه الوضعيّة هي المؤجّجة للغضب والشّعور بالظّلم. فكلّ وضعيّة يكون فيها الخصم حكما، وكلّ وضعيّة يكون فيها الثّالث مقصى هي وضعيّة مضادّة للأخلاق وللقانون وللسّياسة، مؤدّية إلى انتشار “الطّاعون الانفعاليّ” بدل تحكيم العقل. ولهذا كان لسان حال العرب في إنكار وجود الإرهاب: “الإرهابيّون صنعتهم أميركا، ما تعدّونه إرهابا نعدّه مقاومة، إن كنتم تمارسون إرهاب الأقوياء، فدعونا نمارس إرهاب الضّعفاء اليائسين، لسنا وحدنا إرهابيّين، الحرب على الإرهاب هي الإرهاب، المقاربة الأمنيّة للإرهاب هي الإرهاب...”
والبؤرة الثّانية المغذّية للإرهاب والمانعة من بناء ثقافة مقاومة له، هي علاقة إرهاب اليوم بعنف الغزوات الإسلاميّة، وعلاقة مسلمي اليوم بمسلمي الأمس. وهنا نجد ممانعة وإنكارا من نوع آخر، ونجد حربا كلاميّة أخرى، أحد أطرافها ينكر علاقة الإسلام بالإرهاب، والطّرف الآخر يجعل الإسلام مرادفا للإرهاب. لسان حال العرب المسلمين في هذا النّوع من الإنكار هو: “الإرهابيّون ليسوا من الإسلام في شيء، الإرهابيّون شرذمة ضالّة لا تمثّل مجتمعاتها، الإسلام دين محبّة وتسامح...”
إنّ الظّاهرة الإرهابيّة ككلّ الظّواهر البشريّة لا يمكن أن تفسّر بعامل واحد، بل إنّها تفسّر بتضافر عدّة عوامل وفقا للمبدإ البنيويّ المعبّر عنه بـ“التّضافر البنيويّ الحتميّ” (principe de surdétermination structurale. فلا يمكن أن ننكر علاقة الإرهاب بالبؤس الاقتصاديّ، والحرمان السّياسيّ وسوء إدارة قضايا الشّرق الأوسط، واحتلال العراق، ممّا يؤجّج بدوره “الطّاعون الانفعاليّ”. ولكنّنا لا يمكن أن ننكر علاقة الإرهاب بالإيديولوجيا الاستشهاديّة الجهاديّة التي تستند إلى نصوص من القرآن والسّنّة وإلى مقرّرات فقهيّة منها واجب الجهاد وقتل المرتدّ وحدّ الحرابة وأحكام أهل الذّمّة والولاء والبراء. لا يمكن أن ننكر ما يعجّ به القرآن من آيات تحضّ على القتل والتّرهيب من قبيل : “وأَعِدُّوا لَهُم ما استطعْتُم من قوَّةٍ وَمِن رباطِ الخيلِ تُرهِبُونَ بهِ عَدوَّ الله وعدوَّكُم وآخرينَ من دونِهِمْ لا تعْلَمونَهُم الله يَعْلَمُهم وما تُنفِقوا من شيْءٍ في سبيلِ الله يُوَفَّ إِلَيْكم وأنتُم لا تُظْلَمونَ” (الأنفال 60). لا يمكن أنّ ننكر أنّ نبيّ الإسلام استند إلى مؤسّسة الغزو البدويّة لينشر رسالته، واقتصّ من أعدائه ومثّل بهم أحيانا. لا يمكن أن ننكر أنّه كان في المرحلة المدنيّة رجل سياسة وكانت أعماله تبعا لذلك خاضعة لمقتضيات السّياسة الماكيفيليّة والتّاريخ، رغم أنّ نمذجته تجعله في الوقت نفسه فوق السّياسة والتّاريخ، ممّا يخلق تناقضا يبعث على الحيرة والألم. ولكنّ ما لا نقرّ به هو أنّ كلّ مسلم مؤهّل لأن يكون محاربا عنيفا. هناك مسلمون معاصرون أرادوا أن يحيّنوا آيات العنف، وهناك مسلمون لا يحيّنونها، بل يجمّدون العمل بها، كما نفعل عندما نضغط على زرّ الكمبيوتر الذي يعني “إهمال” (cancel) ، وهناك مسلمون لا يعملون بآيات العنف بل يعملون بآيات من قبيل “لا إكراه في الدّين”. فالمهمّ ليست النّصوص في حدّ ذاتها بل علاقة المؤمنين بها. ومن العنصريّة بمكان أن نعتبر آيات العنف قابلة لأن تتوارث بصفة جينيّة بين المسلمين. ومن العنف بمكان أن نحوّل الإسلام إلى بصمة تسم كلّ مسلم بالتّعصّب والعنف، ومن التّعصّب أن نعتبر أنّ حلّ مشكلة العنف الإسلاميّ يكمن في خروج كلّ المسلمين من دينهم، وفي اعتناقهم أديانا أخرى لا تجيز العنف.
ولكنّ عدم وجود صلة مباشرة وآليّة بين عنف الأمس وإرهاب اليوم لا يجعلنا في غنى عن مواجهة المشكل التّأويليّ. فرجال الدّين الإسلاميّ ممثّلين في هيئاته المحلّيّة والدّوليّة يجب أن يتركوا الخطابات الورديّة عن المحبّة والتّسامح ليواجهوا الآيات التي تذهب في اتّجاه معاكس، وليقرّروا بشجاعة أنّ أساليب الحرب ونشر الدّعوة كما مورست في زمن الرّسول لا يمكن أن تمارس اليوم، وعلى الهيئات الفقهيّة أن تعلن إبطال العمل بأحكام الجهاد والرّدّة والحرابة والذّمّة، كما أبطل التّاريخ العمل بالآيات التي تقنّن الرّقّ، لكي يغلقوا الباب أمام من يريدون تحيين هذه الآيات وهذه الأحكام.
وحتّى نعود إلى درّيدا وإلى تعقّد مسألة الانتماء، نقول لإخواننا من العرب غير المسلمين، ومن العرب اللادينيّين، ولكلّ من يرعبهم العنف القداسيّ الحربيّ المرتبط بنشأة الإسلام، إنّ مسلم اليوم يمكن أن يجتهد ليكون مؤمنا ومسلما ونابذا للعنف والإرهاب في الوقت نفسه. فالتّأويل قرار وليس اكتشافا لمعنى، ويمكن للمسلم أن يقرّر ترك العمل بآيات مغرقة في البشريّة، وأن يعمل بآيات أخرى يرى فيها تجسيدا لقيم مطلقة كالرّحمة والمغفرة والعفو. يمكن لمسلم اليوم أن يكون قارئا لابن عربيّ، نابذا لشريعة الفقهاء، ويمكن له أن يكون مثل بعض المصلحين من أصحاب المقاصد إذ يرون أنّ قيم العدل والمساواة والرّحمة أهمّ من الأحكام الظّرفيّة التي لم تسر بما فيه الكفاية في اتّجاه الرّقيّ بمعان إنسانيّة يعتقدون أنّها رغم كلّ شيء موجودة في القرآن. هؤلاء المسلمون، علينا أن لا نستهين بتجربتهم. إنّهم لا ينتمون إلى الإسلام بقدر ما ينتمي الإسلام إليهم، عبر فعل إبداعيّ تأويليّ امتلاكيّ يجب أن نساعدهم على تطويره. وهذا الفعل التّأويليّ الذي يطرح قضيّة الانتماء على نحو جديد هو ممّا تعلّمته من جاك درّيدا.
هناك إمكانيّات كثيرة في أن يكون الإنسان مسلما، وهناك إمكانيّة أخرى هي أن يكون الإنسان مسلما لا مسلما، كما كان درّيدا “يهوديّا لا يهوديّا”، بمعنى أنّه لا ينكر جذوره اليهوديّة ولكنّ فكره ليس ذا مرجعيّة يهوديّة إيمانيّة، ولذلك أقبل على موته وهو فاقد لكلّ الأوهام المطمئنة.
وبعد كلّ هذا، أقول للمؤمنين من أهل الإسلام والمسيحيّة إنّ كلّ الأديان أبنية من الوهم، من حيث أنّ الوهم ليس الخطأ وليس الحقيقة بل الشّوق الذي يقود الإنسان إلى البحث عن قوّة حامية مطمئنة. وأقول لهم أيضا إنّ موت الفلاسفة لا يقدر عليه كلّ النّاس، وأنّه توجد أديان أكثر عنفا من أديان أخرى، ولكن لا يوجد دين أكثر إيغالا في الوهم من دين آخر. فمن باب آداب الحوار بين أهل الأديان ومن باب نبذ التّعصّب أن يحترم كلّ منهم أوهام الآخر وعجزه البشريّ، وأن يحترم كلّ منهم قدرة الآخر على أن ينتمي على طريقته الخاصّة، وعلى أن ينتمي دون أن ينتمي.