لا شكّ أنّ للمقدّس خطورة تتطلّب وساطة بينه وبين المؤمنين. فليس لكلّ النّاس قدرة على الدّخول في علاقة مع “الآخر الأكبر” في صيغته الدّينيّة المخيّلة، دون واق يحفظ الذّات من التّلاشي.

ولكنّ المتأمّل في دور رجال الدّين عبر التّاريخ يمكن أن يدرك الرّهان السّلطويّ الذي تقوم عليه الأديان المؤسّسة، على نحو يعيد إلى الأذهان التّحليل الماركسيّ للوعي الزائف الذي يجعل الفقراء يقبلون العيش في “وادي الدّموع” أملا في الفراديس الموعودة، ويعيد إلى الأذهان أدبيّات ميشال فوكو عن التّلازم بين المعرفة والسّلطة.

فسلطة رجال الدّين تتعدّى الوساطة الطّقوسيّة بين الإنسان والمقدّس إلى بناء منظومات الهيمنة السّياسيّة والاقتصاديّة والمعرفيّة. منظومات الهيمنة السّياسيّة هي التي تؤدّي إلى شتّى أشكال الخلط بين الدّين والّسياسة، لإنتاج وسائل “شرعنة” غير ديمقراطيّة، وأنظمة تيوقراطيّة توهم بأنّ البشر قادرون على الحكم باسم الإله ونيابة عنه على الأرض. ومنظومات الهيمنة الاقتصاديّة هي التي يبني بها رجال الدّين ممالكهم وثرواتهم وهم يوهمون النّاس بأنّهم يعملون من أجل الآخرة، لا من أجل متاع الدّنيا. ومنظومات الهيمنة المعرفيّة هي المتمثّلة في كلّ مظاهر احتكار الكلام على النّصّ المقدّس، واحتكار الحقيقة عموما.

ولهذه الأسباب، فإنّ تحييد الدّين عن السّياسة والتّجارة، وفكّ احتكار رجال الدّين للنّصوص المقدّسة ولتأويلها، وتحرير الفرد من التّعويل على رجال الدّين بدل إعمال عقله، هي أولى خطوات التّنوير والإصلاح الدّينيّ في الوقت نفسه.
أيّ خطوة قطعناها في العالم الإسلاميّ في هذا الاتّجاه؟ وفي اتّجاه الحدّ من سلطة رجال الدّين تحديدا؟

لقد فقدت الأديان التّقليديّة قدرتها على أن تكون نظاما شاملا يحكم حياة الإنسان. لم يعد الدّين منظومة كبرى تشمل الأخلاق والقانون والاقتصاد والسّياسة والعلاقات الدّوليّة. لكنّ رجال الدّين التّقليديّين، والمتديّنين الحركيّين الذين يمثّلون دائرة موسّعة لحلقة رجال الدّين يردّون الفعل بقوّة على فقدان هذه المكانة. ونحن نرى أنّ الإسلام السيّاسيّ بحركاته المختلفة هو انتفاضة من انتفاضات رجال الدّين على فقدان هذه المركزيّة، اتّخذت شكل البكاء على الدّين في أسطورة سياسيّة قوامها : حصلت الكارثة، وعدنا إلى الجاهليّة، والآن يجب أن نحيي الإسلام. الإسلام هو الحلّ.

لذلك لم يكن من الغريب أن ينتفض رجال الدّين الجدد والقدامى إثر انتفاضات الشّباب في العالم العربيّ، ليطرحوا تطبيق الشّريعة من جديد، وليحاولوا إعادة مؤسّسات القرون الوسطى من جديد. في تونس كان ميزان القوى في صالح المجتمع المدنيّ فلم تعتمد الشّريعة مصدرا للتّشريع في الدّستور القادم، ولكنّ قوى الإسلام السّياسيّ تحاول إيجاد سبل أخرى تؤدّي إلى تحقيق الوهم الإحيائيّ : اعتماد بعض آليّات ما يسمّى بالماليّة الإسلاميّة، والمطالبة بإعادة نظام الأوقاف بعد أن ألغاه الحبيب بورقيبة سنة 1957، ومحاولة تمرير قانون يعيد إلى المساجد، وتبعا لذلك إلى رجال الدّين، مكانة هامّة في التّعليم والإدارة والحياة اليوميّة.
هل ينجح الإحيائيّون في إعادة السّلطة إلى رجال الدّين؟ وهل يمكن أن يعيد التّاريخ نفسه إلاّ في قالب مهزلة؟ وإذا كان أطراف المهزلة هم من ينتصبون في مكان الإله ويدّعون حمايته، فإنّ المهزلة تتحوّل إلى مأساة دمويّة يكون فيها الدّين قناعا لكلّ الدّوافع والمصالح البدائيّة. وهذا ما نشهده في بعض أرجاء هذا العالم الإسلاميّ البائس.