كانت ديناميكية الرأسمالية المتشكلة حديثاً نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر تفرض تأثيرها على العالم من ثلاث زوايا، أولها الاستعمار وبالتالي تصادمها مع الأمم المتخلفة التي باتت هدف سيطرتها لأسباب متعددة اقتصادية واستراتيجية، الأمر الذي كان يستثير التكوينات التقليدية في تلك الأمم، ويفرض عليها خيار إما المقاومة أو التكّيف. وثانيها انتشار الأفكار التي تبلورت مع نشوئها (أفكار النهضة والتنوير والحداثة التي كانت الرأسمالية ذاتها في تناقض معها)، وبدء «تشرّبها» في الأمم المتخلفة، وبالتالي تحوّلها إلى حركة رفض للأفكار التقليدية السائدة فيها، ونشوء ما يمكن أن يسمى «حرب أيديولوجية» أو «معركة فكرية» أو «صراع ثقافي» بين «القديم والجديد». وثالثها تحوّل الرأسمالية كتكوين اقتصادي اجتماعي وفكري سياسي إلى طموح تمَلَّك فئات حداثوية، هي في الواقع فئات سعت لتحويل المجتمع رأسمالياً، فدخلت في تناقض مزدوج، مع الاستعمار (الذي هو الرأسمالية الغربية) من جهة، والبنى التقليدية من جهة أخرى. حيث كانت البنى التقليدية تدافع عن مواقعها وعن سيطرتها وتسعى لإعادة إنتاج ذاتها.
وكان الاستعمار الرأسمالي، ولكي يحقق مصالح الرأسمالية الأوروبية، يسعى لمنع تحوّل "المثال الرأسمالي» إلى واقع في «بقية العالم»، لهذا دعم البنى التقليدية بعد أن «عقد مساومة» مع ممثليها، يقوم على أساس تكيّف تلك البنى مع مصالح الرأسمالية الاستعمارية.
كان الصراع الفكري هو مظهر صراع عميق يهدف إلى تجاوز البنى التقليدية و«استلهام» الحداثة، أي تحقيق «المثال الرأسمالي» واقعياً، بما هو صيرورة انتقال إلى «عصر الصناعة». وإذا كانت الرأسمالية الأوروبية أوّل من رفض هذه الصيرورة، فكانت عنصر إعاقة وقوّة تدمير لها، فإن البنى التقليدية كانت تقاومها كذلك، الأمر الذي أسس لما أسمي معركة الأصالة/الحداثة، المستمرة منذ قرنين.
ففي بداية القرن الماضي، والأفكار الحديثة تتسرّب إلى الوطن العربي، حاولت قوى تعتقد بأنها الدين ذاته، أو أنها حامي حماه، أن تواجه هذه الأفكار انطلاقا من فكرة أن لنا «خصوصيتنا» ولنا «ديننا الحنيف»، وبالتالي انطلاقا من أن تلك الأفكار مستوردة، وأنها غريبة عن «تكويننا»، وضارة بـ«ديننا».
بمعنى أن هذه القوى المتمسكة بالماضي، وبالنظام الاقتصادي الاجتماعي والسياسي القائم آنئذ، عملت على أن تظل منظومة من الأفكار متوارثة من عصور الانحطاط، ومعبّرة عن بنى اقتصادية اجتماعية إقطاعية، أن تظل هذه المنظومة هي السائدة، لكي تظل مجمل البنى الاقتصادية الاجتماعية والسياسية تلك هي السائدة. لهذا ردّت أيديولوجياً، أي عبر خطاب أيديولوجي يحّلل ويحرّم، ويحكم بالردة، وكانت السلطة هي الحكم في ذلك. ولقد توضح ذلك في المعركة ضد كتابي «الإسلام وأصول الحكم» لعلي عبد الرازق، و«في الشعر الجاهلي» لطه حسين، حيث ترافق الهجوم الفكري مع تدخل السلطة عبر القضاء ومؤسسة الأزهر، خصوصاً وأن هذه الأيديولوجيا هي أساس القانون الناظم للمجتمع.
لكن توسّع الميل نحو التحديث، وتصاعد الصراع من أجل الاستقلال والتحرر، كانا يجعلان الفكر الحديث حاجة موضوعية، لأن التقدم يستلزم التأسيس انطلاقا من الفكر الحديث. حيث أن تحوّل البنية الإقطاعية السائدة نحو التصنيع والرسملة، كان يفرض تسرب وعي حديث يستطيع أن يكون المطابق لبنية جديدة، يلحّ الواقع على أن تتشكل، وتفرض تناقضات الواقع أن تتشكل. لهذا تحوّل ميزان القوى لمصلحة الفكر الحديث، رغم استمرار المعركة ضده، ورغم نشوء أحزاب أصولية حاولت أن تهيمن على قطاعات من الشعب. لكن أيضا، تحوّل الفكر الحديث إلى حركة سياسية فاعلة ومؤثرة، وأصبح التحديث هدفاً عاماً، قاد إلى حدوث تحوّلات هامة منذ بداية الخمسينات.
لكن إذا كانت هذه التحوّلات قد هدمت الجذر الاقتصادي الاجتماعي لذاك الفكر القديم، عبر تصفية الإقطاع وفتح الأفق لتحقيق التطور الرأسمالي، فإن «اختلاط» فكر الفئات التي قادت هذا التحوّل كان يجعل «الانتصار» غير حاسم، بل ومجزوء. حيث تشرّبت هذه الفئات من ذاك «التراث» ما جعلها لا تعيد إنتاج الفكر فقط، بل تتعلق كذلك باستمرار تأكيد دور الأيديولوجيا التقليدية كأساس للقانون، وبالتالي إبقاء سطوتها في مجال التشريع، وهو ما أصبح مدخل تحويل الدولة إلى أداة ضد الفكر الحديث، دون أن تحكم الأيديولوجيا التقليدية مباشرة.
لهذا، وحالما تصاعدت أزمات الحركة القومية العربية، وانكسرت أحلام معتنقيها، عادت الأيديولوجيا التقليدية تتمدّد، وتتحوّل إلى قوة فعل. ومن ثَمّ عادت تنتج الأساليب ذاتها بدءاً من التحريم إلى التكفير إلى القتل، وضمن ذلك استخدام السلطة التي تملّكها الرعب من «عودة المارد»، ليصبح قضاؤها أداة بيد الأصولية. وهذا الأمر يوّضح بأن «حداثة» الفئات الوسطى التي سيطرت على السلطة لم تقطع مع «التراث»، أي لم تصل مرحلة تحقيق العلمنة. لهذا ظلّت الشريعة جزءاً من القانون. ليصبح هذا «الوصل» مدخلاً لفرض الأيديولوجيا التقليدية على المجتمع، وكشكل من أشكال تصفية الفكر الحديث، وملاحقة تمظهراته حتى في الأدب، بعد أن بدأ يعاني من مشكلات عجزه.
نلمس هنا أثر «عدم الحسم» الذي سكن الفكر القومي، خصوصاً فيما يتعلق بالعلمانية. حيث تبلور هذا الفكر في اختلاط مع «الوعي التقليدي». وبالتالي في تنافر مع أخصّ عناصره، أقصد العلمانية. وهذا ما قاد إلى أن تتأسس دولة لها مستند ديني، كون الشريعة ظلّت مصدراً أساسياً فيها. وبالتالي لتصبح أصولية على المجتمع. وبهذا يتزاوج «إرهاب» القانون والإرهاب الأصولي. وتتحد السلطة والقوى الأصولية، رغم تنافرهما العام، وتناحرهما كذلك. بمعنى أن «نقص العملنة» قد جعل السلطة مطيّة للقوى الأصولية، و«أداتها» في قمع الفكر والإبداع، وكذلك في إعادة تكريس قيم «أصولية» جاهد الفكر لأكثر من قرن لكي يتجاوزها ، ولكي يؤسس مبادئ أولية ضرورية لكي تقلع عجلة التقدم، من مثل نسبية الحقيقة، وسلطة العقل، والتعددية والحوار والتنوع، والإبداع والتحرر و... الخ.
وإذا كان الفكر القومي قد تفكّك، وكذلك بدأ دور الدولة يتحوّل منذ بداية سبعينات القرن الماضي. وإذا كان الفكر اليساري عموماً قد بدأ ينحدر منذئذ نتيجة عوامل مختلفة. فإن «مساحة الفراغ» التي نتجت عن ذلك كانت بدأت تملأ عبر انتعاش الأيديولوجيا التقليدية. وكذلك إذا كان الفكر الحديث قد بدأ ـ وهو يتهاوى ـ يهادن هذه الأيديولوجيا، ومن ثَمّ بدأ يمجدها بصفتها «تراثنا» و«تاريخنا»... وبالتالي «خشبة خلاصنا»، فإن الأيديولوجيا التقليدية بدأت الهجوم، فانتقلت من السياسة إلى الفكر، ومن التحريم إلى القتل، وأصبحت الردة حكماً قيمياً يوصل إلى التشريع بالقتل، وأساساً لتعميم قيم ومفاهيم الأيديولوجيا القديمة ذاتها.
لكأن «ساعة الحساب» قد أزفت، وبالتالي فإن «ركام» قرنين من الفكر التنويري يجب أن يشعله عود ثقاب من أجل التخلّص من أرث «وسخ»، لكي تعود الأيديولوجيا القديمة سيّدة، وبالتالي تعيد أمجاد أساسها الاقتصادي الاجتماعي المندثر، فتتهمّش في النظام العولمي، ويطفو سماسرة البورصات والمخدرات وتبييض الأموال مادامت هذه الإعادة لا تأتي سوى بهؤلاء، أو لا تأتي سوى على أكتاف هؤلاء، أو لمصلحتهم.
لقد تأسلمت قطاعات من القوميين والماركسيين. وعملت بعض الفئات القومية على أسلمة الفكر القومي، فعادت به من علمانيته الصريحة أو الملتبسة أو المثلومة، إلى أحضان الأيديولوجيا التقليدية. كما عملت بعض الفئات الماركسية، وبحجة «فهم وعي الشعب»، على أن تخلط الماركسية بهذه الأيديولوجيا كذلك. وعملا معاً على «كسب ود» التيار الأصولي، أو بعض قطاعاته، بدلاً عن أن يدافعا عن الفكر الحديث (الذي هو هما بالذات)، ويعملا على تعميقه وتطويره. وهذه الخطوة «الارتدادية» جعلت التيار الأصولي يتقدم في الهجوم، الهجوم الهادف إلى «كم الأفواه»، ليفتح معركة الفكر والأدب والتكنولوجيا الحديثة (لدى بعض إتجاهاته)، فتبدأ مرحلة المصادرات والحكم بالردة، وبالتالي «فرض القيم» بالقوة، وأقصد فرض الأيديولوجيا التقليدية ذاتها.
أشير هنا إلى أن «جرأة» التيار الأصولي، ارتبطت بتراجع الفكر القومي واليساري عموماً، وتهافت بعض دعاته، وبالتالي شعور التيار الأصولي بأن عليه أن يضع «حجر الشاهد» على قبر الفكر الحديث. هذه المعركة آخذة في التوسع لتطال كل ما هو حديث، لأن الهيمنة الأيديولوجية هي الهدف، بغض النظر عن الأسباب المطروحة وبغض النظر عن موقع الدين فيها، ولا شك في أن الهيمنة باتت تقتضي الهجوم الشامل، ليطال الدين والفكر والسياسة وحتى الأدب.
إننا في مرحلة إعادة تأكيد قيم الفكر الحديث، وهذا يقتضي إعادة بناء المفاهيم على أساس علماني وديمقراطي وحديث، لأن التقدم يفرض أن يتأسس على أساس حديث، لكي نستوعب منجزات الحضارة و نحن نعمل من أجل استقلال الذات و تأكيد وضعها العالمي و دورها الفاعل في عالم إنساني ومتكافئ.