تمفصل العنف والكلام في السياسة والشعر والفلسفة عند بول ريكور0ترجمة وتقديم د زهير الخويلدي ” مشكل الكلام في مواجهة العنف ليس مشكل بنية ، إنما مشكل معنى”1[1]
تمهيد إشكالي:
كيف تدرك العلاقة بين العنف والكلام وبين القوة والحق وبين الحرب والسلم وبين التنازع والتكاتف ؟ هل يبدو التعارض واضحا والاختيار بينهما من الأمور السهلة ؟ وكيف يتخيل المرء إمكانية الاختيار بين وضعيتين قصوويتين تتميزان برفضهما للتواصل بين الذوات والمجموعات بروز التوتر والتباعد في وجهات النظر والتصورات الكبرى للعالم ؟ وبماذا يضع الإنسان معايير قابلة للتطبيق للتفرقة بينهما؟
الجواب عند بول ريكور على هذه الأسئلة صعب ويقتضي المرور بطريق طويل من التدقيق والتقصي وزيارة الكثير من المرجعيات المتنوعة والتجارب المتعددة والتحلي بالحذر الفلسفي والنقد المنهجي. إذ تبدو اللغة بوصفها المسرح الذي يتجلي من خلاله العنف ويأتي إلى العالم ويتعلق بالشأن الإنساني من جهة أولى ولكن الكائن البشري بوصفه كائن الكلام والتفكير والاجتماع هو الوحيد الباحث عن معنى حياته والمتفهم لوضعيات وجوده وهو المبدع الوحيد لاستراتيجيات التنظيم وإعادة البناء وتسخير أشياء الكون لتحقيق مصالحه المادية والمعنوية والساعي إلى الحياة الجيدة والوجود الأصيل ولذلك يضع حدا للعنف من ناحية أخرى عن طريف أفعال الكلام ولغة الحوار وجدلية السؤال والجواب وصنع تاريخه المشرق. ما يسترعي الانتباه هو الإقرار الريكوري التالية: “لا مشروع ثوري بلا وعي وبلا امتلاك الوعي، إذن بلا تمفصل للمعنى”. فهل تتوقف عملية انجاح المشروع الثوري على تقاطع فعل التكلم في السياسة والشعر والفلسفة؟ ألا يمنح العنف اللاّمعنى للكلام الثوري؟
ـ ترجمة النص ـ
” ما يجعل موضوعنا هاما، هذا المساء، هو أن المواجهة بين العنف واللغة تغطي مجموع المشاكل التي نقدر على طرحها بالنظر إلى الإنسان. أي نفس ما نتصوره. إذ تغطي المواجهة بينهما حقلا شاسعا بما أن العنف واللغة يحتلان كل واحد منهما مجموع الحقل البشري. بالفعل ينتج المرء فكرة رهيفة جدا ومبهرة جدا عن العنف لو قام باختزاله إلى واحد من الأشكال القصووية حيث يكون جذريا وواضحا في حد ذاته: من جهة القتل أي الموت الذي يسببه الإنسان إلى الإنسان، ومن جهة ثانية ، قوة الطبيعة ، عندما تمنح إلى الإنسان فائضا معينا لا يقدر على التحكم فيه: عنف النار، عنف العاصفة ، عنف الفيضان، عنف الانجراف ،عنف الألم ، وعنف الوباء. لكن بين القتل والعاصفة توجد المملكة القائمة بين الاثنين وربما تشكل العنف في حد ذاته والعنف البشري والفرد من حيث هو عنف، وعنفه ينظر إليه من جهة العاصفة ومن جهة القتل: انه عنف الرغبة وعنف الكراهية من ناحية العاصفة ، و انه إرادة إخضاع الإنسان الآخر ومحاولة خوصصة حريته أو تعبيره من ناحية القتل ، انه العنصرية والامبريالية. ألا نقول لا المرء يجني شيئا حينما يعالج العنف من بعيد وأنه بالفعل يدرك كل الأشكال بطريقة حاذقة عندما يعالج المشاكل النوعية التي يطرحها الاضطهاد أو الثورة أو تلك التي تطرحها الكراهية الخاصة للإنسان تجاه الإنسان؟
بالرغم من ذلك أرى أن مهمة الفيلسوف هنا هي أن يأخذ مسافة عريضة جدا من مملكة العنف، منذ الطبيعة الخارجية التي ندخل معها في مواجهة ، مرورا بالطبيعة التي توجد فينا ونحملها، والى حد إرادة القتل التي، لنقل، يتغذي منها كل وعي بالتضاد مع كل وعي آخر. لأن الذي يمثل وحدة مشكل العنف ليس تعبيراته المتعددة التي تتفرع من هذا الشكل أو من الآخر لما ينظر إليه بوصفه شكلا أساسيا، إن ما يمثل وحدة مملكة العنف هو أنه يمتلك كلاما في الوجه لوجه. يصير العنف بالتكلم معه بوصفه مشكلا بالنسبة إلى إنسان يتكلم والذي يلاحق المعنى، وبالنسبة إلى كائن قام بخطوة سلفا في النقاش ويعرف شيئا ما عن العقلانية. هكذا يمتلك العنف معناه في آخره أي الكلام. وبالتعادل يتأتى القول والنقاش والعقلانية على وحدة معناها من كونها مشروع لاختزال العنف. إن العنف الذي يتكلم هو العنف الذي يبحث سلفا عن امتلاك المعقولية ، انه عنف يتنزل ضمن فلك العقل ويبدأ سلفا في سلب نفسه باعتباره عنفا.
هذه هي بالتحديد نقطة انطلاقنا : العنف والكلام يقيسان معا كامل الحقل الذي يشقانه بما أنهما نقيضين مطابق كل واحد منهما للأخر بالضبط مع كامل الامتداد. على المرء أن يتوقف هنا وبوجه معين، لا يتخطى نقطة الانطلاق هذه، ولا يقوم سوى باللقاء به وبشكل أقل تجريدا وأكثر واقعية، لأنه لا يقدر أحد على التذمر من العنف دون أن يتناقض معه، وعندما يتذمر هذا الأخير يرغب في أن يكون على حق ومن هنا يدخل إلى حقل القول والنقاش تاركا في الباب سلاحه.
ينبغي أن يكون التعارض الشكلي بين الكلام والعنف ممنوحا بشكل مؤقت إلى كل متكلم ولكن قد قلنا عبثا أن هذا الأمر يثير الإحساس بأن هذا التعارض الشكلي لا يخترق المشكل وإنما يمنحه فقط بعدا هاما والذي يؤدي إلى احتواء الفراغ. لماذا؟ لأن التعارض الذي نفهمه والذي ننطلق منه ليس بالتحديد بين الكلام والعنف وإنما هو ـ حسب العبارات ذاتها لإريك فايل في منطق الفلسفة ، الذي قد اعترفت له بالفضل في مقدمتي ـ التعارض بين الخطاب والعنف ، وبأكثر دقة بين الخطاب المتماسك والعنف. في حين أن لا أحد يعلن هذا الخطاب المتماسك ولا أحد يبقى متمسكا به ، أي لو زعم أحدهم التمسك به فإنه يصبح من جديد العنيف الذي يسعى إلى تثمين بشكل مسبق خصوصيته الفلسفية تحت غطاء تضليل الخطاب المتماسك.
لقد قمت بالإعلان عن كلمة: تضليل imposture. تكشف هذه الكلمة الفجائية عن عالم مظلم من الأقوال الكاذبة التي تجعل من الكلام فعلا عنيفا. لقد قمنا بالانطلاق من الأطروحة المضادة، بوضوح وجلاء، للخطاب وللعنف، وهاهي الجملة ، التي تنفلت من عمق هذا التعارض الشكلي والذي لا يلتحم بنظامه الخاص، انه العنف يتكلم. من يتكلم قاصدا المعنى هو العنف. نحن بالفعل مدعوون إلى استثمار كل بينية بين العنف والخطاب، وهي الحقل ذاته للكلام البشري أي المختلط بين الخطاب والعنف. من البديهي جدا أن مشكلا مثل هذا لن يتأتى أبدا لو بقينا في المقارنة العلمية للغة. ولا تدرك مثل هذه المسألة إلا إذا مررنا إلى فزيولوجيا معينة للكلام وليس بإعطائها جوابا بل ببساطة أن يتم طرحها. اللغة بريئة ـ اللغة أداة ـ شفرةـ لأنها لا تَتَكَلم بل هي متكَلَمَة. انه الخطاب المرسل ، وليس البيانات المشوهة والمتناهية والمغلقة التي تحمل جدلية المعنى والعنف. ينبغي إذن أن نعيد تموضعنا في ديناميكية الكلام لكي نلتقي بهذا الصراع من أجل المعنى في مواجهته مع التعبير عن العنف. ينبغي أن يعبر أحدا ما ـ ليس بالضرورة أنا معينا ، بل شعبي وطبقتي وجماعتي ، الخ.ـ لكي يعبر العنف عن نفسه.
ينبغي أن يشق قصد قول شيء معين هذا التعبير لكي يتمكن مقصد المعنى من التعارض مع التعبير عن العنف. ثمة إذن في القول ـ وليس في اللغة ـ مكان مضبوط جدا أين يلتقي فيه التعبير وإرادة المعنى ويتواجهان. في هذه النقطة يخضع الكلام المتكلم parole parlante للجذب الأكثر حدة من العنف ومن المعنى المعقول. لقد جعل الكلام من حيث هو قول بالفعل مكانا يأتي فيه العنف إلى التعبير، وفي نفس الوقت يجد قصد المعنى المعقول مرتكزا من الاهتمام بالمرجع الذي يغذي قولنا.
أريد أن أقرب بطريقة أكثر ملموسة هذا الالتقاء في التعبيرـ الذي يعطي صوتا إلى العنف ـ ولإرادة المعنى ـ والذي يعطى صوتا إلى الخطاب المتماسك. أبحث في الكلمات، أو بأكثر تحديدا في شغل التسمية، الذي لا ينتمي إلى اللغة في حد ذاتها وإنما إلى إنتاج القول. ربما يستغرب المرء من حديثي هنا عن الكلمات بوصفها انتماء إلى نظام القول والى الجملة إذن، وليس عن اللغة ومنتجيها. ألا تنام الألفاظ هادئة في معاجمنا؟ كلا بتاتا. ليس ثمة أو لن تكن كلمات في معاجم وإنما يوجد فقط علامات متاحة ومحدودة بواسطة علامات أخرى داخل نفس النسق نفسه بواسطة شفرة مشتركة. هذه العلامات تصبح كلمات معبأة بالتعبير والإشارة حينما تساهم في بناء جمل وحينما تستعمل وتحصل على قيمة استعمالية. بلا ريب قد تكذب القاموس وتسقط بعد الاستعمال ولكنها لا تدل على ماهو خاص إلا في الدعوى العابرة للخطاب الذي نسميه جملة. إنها تدخل في حقل المواجهة بين العنف والخطاب.
أريد أن أعطي أمثلة مأخوذة من ثلاثة سجالات مختلفة لفعل التكلم الذي يخصنا. فعل التكلم السياسي وفعل التكلم الشعري وفعل التكلم الفلسفي. في هذه اللحظات الثلاثة ـ التي لا أفكر بتاتا في تصنيفها وفق تراتبية ـ يمثل اللفظ من حيث هو برعم فعل التكلم نقطة انعقاد العنف والمعنى.
1ـ فعل التكلم السياسي ـ
لما أفكر في السياسة أفكر بداية في الطغيان والثورة. وهذا مشروع ولكن هذه المقاربة تظل بعيدة عن النفاذ إلى المشكل. ربما تقوم بحجب الماهوي ذاته. إن الالتقاء البدئي بين العنف والمعنى يجري في التمرين العادي للسياسة . علينا أن نبدأ بالطغيان. من البديهي أن يتكلم العنف مع الطغيان. لهذا كان من البديهي أن يعارض الفلاسفة دائما بين الطغيان هذا الحد الأقصي للسلطة والفلسفة أي الخطاب الذي له معنى. بالتحديد تقوم الفلسفة بنفيه لأنه يأتي فوق أرضيتها، الكلام. بالفعل لم يكن الطغيان أبدا التمرين المحض والغفل للقوة. بل الطغيان يضغط بواسطة الغواية وبواسطة الحمل على وبواسطة المخادعة ، يفضل الطاغي خدمات السفسطائي على خدمات الخصم. اليوم أيضا، وبالتحديد اليوم ، مر هتلر بواسطة غاببالزGoebbels. يلزم السوفسطائي غاببالز من أجل خلق الكلمات والجمل التي تثبت الكراهية وتلحم المجتمع بالجريمة وتقدم التضحية والموت. نعم، يلزم السوفسطائي من أجل منح الصوت الى العنف، صوت دال، صوت دلالي. بالنسبة إلى العنف الثوري فإنه يحتاج بصعوبة الى فعل القول الذي يحرك القول في لحظة امتلاك الوعي. لا مشروع ثوري بلا وعي وبلا امتلاك الوعي، إذن بلا تمفصل للمعنى.
غير أن العنف السياسي لا يحده لا الطغيان ولا الثورة. لقد أصيب السياسي كله رويدا رويدا بهذا اللعب المرعد للمعنى والعنف. وبلا شك ينبغي القول بداية المعنى لأن السياسي يوجد طالما وجدت المدينة لأن الأفراد بالفعل بدؤوا ينجحون جزئيا في التفوق على عنفهم الخاص بإخضاعه إلى قاعدة للحق. تحمل كلمات المدينة هذه العلامة الكلية التي تكون نوعا معينا من اللاّعنف. لكن الجماعة في نفس الوقت لا تجتمع سياسيا إلا لأنها قوة تضاعف هذا الشكل وتوصل إلى الجسم السياسي وحدة الإرادة التي تتصدر قرارات وتفرضها من أجل أن تجعلها منفذة. بيد أن هذه الإرادة الكبيرة، التي هي قانون بالنسبة إلى الأفراد، هي في ذات الوقت فرد كبير غاضب والذي يتكلم يوما بعد يوم كلام الخوف والغضب والكرامة المضطهدة والتدجيل، أي العنف. هكذا تمثل أيضا قاعدة الحق التي تعطي شكلا إلى الجسم السياسي سلطة أي عنفا كبيرا يخط دربه عبر عنفنا الخاص في مجموعه ويتكلم كلام القيمة والشرف.
ها قد جاءت الكلمات الكبيرة التي ترفع الحشود وفي بعض الأحيان تقودهم إلى الموت. بواسطة فن حاذق في التسمية تغزو إراداتنا المشتركة. انه يزيف أيضا إراداتنا مانحا كلامنا الخاص في مجموعه الأسطورة المشتركة للنصر، ويعبر بها عن العنف مثلما نعبر عن نكهة الثمرة التي نعصرها. هل يقول المرء بأن مغامرة شبيهة لا تجيء إلا إلى الكلام السياسي؟
2ـ فعل التكلم الشعري ـ
لو يظهر أن الأكثر طهارة من الكلامات ـ كلام الشاعرـ لا يفلت من هذا الاجتذاب المضاعف للمعنى والخصوصية العنيفة فإنه يجدر بنا القول أن الكلام برمته من هنا ظرفي ومعروف. أتمسك بأن الكلام الشعري ينبع من انفتاح معين يسمح بظهور طابع معين للوجود. وأؤيد هنا بشكل مؤقت الوصف الهيدجري للكلام بوصفه خضوعا إلى تعهدات بالقياس إلى الوجود يكون إزاءها الإنسان منفتحا أصليا. إنها طريقة الشاعر في تعاطي المعنى. استجابته ليست أبدا خضوعا ، حيث التمرد أو الاستقلالية الذاتية تكون هي المعاكس. استجابته تشير إلى هذا الانقياد وهذا الإتباع ، وهذا السماح بالوجود laisser- être. في هذا يكمن الخطاب اللاعنف حيث البيت الشعري هو النقطة المتقدمة. بهذا يكون الكلام الأقل تحت تصرفنا ولكنه يطرح الإنسان. بالرغم من ذلك…وبالرغم من ذلك فان الخصوصية العنيفة قد قطفت من خلال هذه النقطة الحدية اللاّعنيفة. كيف؟ لكن تحديدا في ضرب الكلمة وفي قوة ضرب الكلمة، فحمل الوجود ، حسب العبارات ذاتها لهيدجر، هو حمله إلى الكلام. بينما الكلمة ، تكوين الاسم، حسب هيدجر، بلورة الوجود في وجوده وبالتالي صونه في انفتاحه.
ما معنى فعل صونه في انفتاحه؟ هنا يسكن ويتسامى العنف الرهيف، هذا الذي قال عنه الإنجيل بأنه يقوي المملكة، في الكلمات، في القبض على الوجود بواسطة الكلمات تصير الأشياء وتكون. الانفتاح المعين الذي يكون قبضا معينا، هذه هي الكلمة الشعرية التي تعبر من خلالها الخصوصية العنيفة للشعراء عن ذاتها، في اللحظة ذاتها التي يمتنع ويتعاطى مع الوجود المكتشف. ينبثق الإنسان العنيف في النقطة ذاتها أين يلتقي الوجود والمعنى أي في الحدث، في حلول أجل الكلمة. الشاعر هو هذا العنيف الذي يرغم الأشياء على فعل الكلام، انه الاغتصاب الشعري.
3ـ فعل التكلم الفلسفي ـ
أستكمل هذا المسار المترابط بين العنف والخطب ببعض الكلمات حول الكلام الفلسفي. أنا متفق تماما مع اريك فايل حول أن الفلسفة تعرف بالكامل بواسطة إرادة المعنى، بواسطة اختيار لصالح الخطاب المتماسك. ما يعد انفتاح عند الشاعر يكون عند الفيلسوف نظاما وانسجاما. لكن هذا القصد ذاته والخطوات التي يمكن للفيلسوف أن يقوم بها في هذا الاتجاه تخاطر بإخفاء العلاقة المتكتمة بين الخطاب والخصوصية العنيفة للفرد الفيلسوف. في البد عنف السؤال الأولي أي يكون الفيلسوف هذا الإنسان المدرك بواسطة صرامة سؤال معين أي سؤال الكوجيتو، سؤال الحكم التأليفي القبلي، سؤال الوجود ذاته.
بيد أن الفيلسوف يأتي دائما إلى التفكير بواسطة شعبDéfilé سؤال فريد. عنف ونقطة انطلاق. عنف نقطة الانطلاق. فعل أن نبدأ هو دائما ضربة قوية ، حتى وبالخصوص لما نبدأ بواسطة الجوهر المطلق مثل سبينوزا. أيضا هو عنف المسار الفريد أي الفيلسوف هو هذا الذي يمفصل تكملة لخطابه في أفق تراث معين، والذي هو يظل تراثا حيا على الدوام ، بتسليم كلمات مترسبة سلفا، لا يمكن لأي فيلسوف أن يقوم بالاستيلاء التام من جديد على مسلماته. لا وجود لفلسفة بلا مسلمات.
أيضا عنف الانتهاء، هناك دائما ماهو سابق لأوانه أي الفلسفة لا توجد إلا في الكتب التي هي في كل مرة تأليف متناه للروح، الكتاب هو دائما مجعد بطريقة مبكرة، انه يوقف مشار الكلية في إغلاق اعتباطي. لهذا السبب كل الفلسفات هي جزئية، حتى وان وجد الكل في كل فلسفة هامة. وفي الجملة أنا نفسي عينها واحد من هذه الخصوصيات العنيفة، إني أدرك كل هذه الخصوصيات الكلية التي هي كليات خصوصية من وجهة نظري الخاصة. وحده الدرب الصلب “للنضال المحبوب combat amoureux” يكون ممكنا.
خاتمة:
أريد أن أنهي باستخلاص بعض الاستنتاجات النظرية والعملية من هذه المكافحة. الأولى تتعلق أساسا بحد المعنى المعقول والخطاب المعقول الذين يجمعان كل هذا التفكير. أريد أن أقول هنا ثلاثة أشياء.
أولا ، هذا النقاش ليس له معنى إلا إذا تمكنا من فعل الكلام عن غاية destination الكلام. اذ لا يمكن مواجهة الكلام والعنف، ولا حتى الجمع بينهما، دون مشروع معين للكلام ودون غاية. ان البحث عن المعنى ، بتخطيط هذه الغاية، يعطي إلى العنف نقيضه. لكن أليس من الخطير ، ومن الزيف ، أن نتحدث عن غاية للكلام؟ لأن من يعلم أين تذهب ولماذا تصلح؟
لقد تم نقد العلل الغائية منذ الزمن الجميل بواسطة الفلاسفة من ديكارت إلى سبينوزا وكانط وهيغل ونيتشه. ولكن نقد الغائية، مدركة بوصفها الحد النهائي المفروض من الخارج على وظيفية ميكانيكية،لا يستنفذ مسألة المعنى، لأن الغائية الحقيقية ليست هدفا مقترحا من الخارج ، إنها البيان الممتلئ لتوجيه ديناميكية معينة. يفرض هذا البحث علينا إذن أن نأخذ رؤى هومبدولت المتعلقة بتكون الكلام بوصفه بيانا تاما للروح، باعتباره بيانه الذاتي عن نفسه، انتشاره الذاتي على الملأ. من غير الممكن الدخول إلى جدل معين مثل الذي نهتم به اليوم دون هذا النداء على الكلام إلى فعل التعبير عن المفكر بالتمام.
الملاحظة الثانية:
ليس فعل التكلم عن معنى معقول هو وحده فعل التكلم للذهن الحسابي وللذكاء الأداتي. على العكس. كل اختزال للعقل في الذهن يتواطأ في النهاية مع العنف. عندئذ وحده الصراع المنظم ضد الطبيعة يصير مفكرا فيه. إن بناء تاريخ معين، فردي أو جماعي، يصير بلا معنى. انه ليس مستغربا إذن في عصر التخطيط planification ألا يجد الذكاء سوى beatnik قبالته أو عبثية الجريمة بلا هدف. في عالم الصراع المنظم ضد الطبيعة فقط وفي العالم الذي قد اختزل مشروعه حول العقلانية في هذا الصراع يتم تصور الجريمة المحضة ، وأدرك هذا الذي يقترح القتل من أجل القتل بصورة جذرية.
الملاحظة الثالثة :
عندما يستولي الذكاء الحسابي على الكلام في حدا ذاته ينتج التأثيرات ذاتها من اللامعنى، فأن نعرف بنى اللغة لا يعني أننا نتقدم خطوة في المعنى المعقول. لأن الذي هو محل تساؤل ليس معنى الخطاب ولا بنية الملامسclavier الذي به يلعب. مشكل الكلام في مواجهة العنف ليس مشكل بنية ، انما مشكل معنى، معنى معقول، أي الجهد من أجل الاندماج في فهم حاوي للعلاقة بين الإنسان والطبيعة، بين الإنسان والإنسان، بين الوجود والمعنى، وفي النهاية الصلة ذاتها بين الكلام والعنف. لقد تم تشجيع الوهم الذي من خلاله يضعف الذكاء البنيوي فهم الكلام بواسطة الاعتقاد في أن المعرفة البنيوية ، بوضعها الذات بين قوسين ، تتخلص من وهم التمركز على الذات.
بيد أن الفهم الذي لا يفهم أيضا ذاته، ـ في القبول المضاعف للفظ أي الذي لا يحتويه ولا يخترق المعنى،ـ هو ذكاء ميت ، ذكاء منفصل. بالرغم من أنه في المظهر، يترك المكان فارغا من أجل إثبات فوضوي وعنيف للذات ، وبالتحديد لأن هذا الأخير قد تم استباحة حقل بحثه. ليس من المستغرب أن طقس اللامعنى لامعنى للشخصية يزهر حيث يتم الإعلان عن جمع النفي الأشد تعصبا للذات. كل ذكاء أداتي فقط، لأنه لا يفهم حامله الخاص، هو ضالع في العنف وفي الإثبات اللامعنى للخصوصية. الذكاء الأداتي و الوجود اللامعنى هما الولدان التوأمان واليتيمان بعد موت المعنى. لهذا السبب يمكن لعمل واحد للفكر، أين المفكر يفهم ذاته في التاريخ المعنى، أن يفهم في ذات الوقت الخطاب ونقيضه ، أي العنف.
لكن كيف نعيش الوضعية البينية ، بين المعني والعنف ؟ أن نجيب على هذا السؤال هو أن نطلب ما صار بالنسبة إلى التطبيق التعارض الأولي بين الخطاب والعنف. أحاول أن أوجز في تجميع بعض القواعد الخصبة حول حسن الاستعمال الكلام في مواجهة مع العنف.
1) لا ينبغي أن ننقطع عن الأخذ بعين الاعتبار من حيث هو حقيقة بسيطة ومجردة ولو كانت فارغة هذا الذي يمثل نقطة الانطلاق الخاصة بنا أي معرفة أن الخطاب والعنف هما الأكثر تضاد للوجود البشري. أن نشهد دون انقطاع هو الشرط الوحيد من أجل معرفة العنف حيث يكون والعودة إلى العنف إذا اقتضى الأمر. بيد أن هذا الذي لا ينقطع عن فعل الإشارة بوصفه المضاد للخطاب يتم الاحتفاظ به دائما لكي يكيل المديح ، ولا ينقطع عن شقه أو عن الاعتقاد بأنه تم تجاوزه عندما لم يعد كائنا. ينبغي أن يظل الالتجاء إلى العنف دائما إثما محدودا، خطا في الحساب، ومن يسمي الجريمة جريمة هو من الآن فصاعدا على درب المعنى والخلاص.
2) لا ينبغي أن نتمسك بأن الخطاب اللاعنيف فقط حقيقة شكلية بل نشهد على أنه أمر أي” لا تقتل” هو على الدوام حقيقي، حتى عندما لا يكون مطبقا. من يغفر يستمر في الاعتراف بالأخر باعتباره كائنا عقلانيا ويمنحه فعل التشريف. علاوة على ذلك ، يحافظ بواسطة طرق شتى على إمكانية الدخول في نقاش مع خصمه، انه لا يرتكب البتة في زمن الحرب حركة تجعل السلم مستحيلا.
من هنا يتم التعويل بشدة لكي تضغط أخلاق الاقتناع على أخلاق المسؤولية. تبقى مكانة الشاهد على اللاّعنف منقوشة في التاريخ. يشهد اللاّعنيف بواسطة حركته المهاجرة وغير الموافقة بالنسبة إلى كل الناس هدف التاريخ والعنف في حد ذاته.
هذه التكملة الثانية من الاستنتاجات لا تتضاد البتة مع الأولى: أن نعترف بالعنف حيثما يكون، وأن ننظر في فعل الالتجاء إلى العنف كلما اقتضى الأمر، لا يقصي البتة فعل اعتراف المرء بمكان الشاهد اللاّعنيف في التاريخ، لأنه لو انتمى اللاّعنف لوحده إلى أخلاق الاقتناع فإنه في مقابل هذا الأخير لن يحتل البتة مكان أخلاق المسؤولية. تعبر الجدلية بين أخلاق الاقتناع وأخلاق المسؤولية عن وضعيتنا ذاتها البينية بين الخطاب والعنف.
3) القاعدة الثالثة لحسن استعمال الكلام تتعلق بما أسميه ممارسة اللاّعنف في الخطاب في حد ذاته. يقتضي عنف الخطاب في الادعاء بأن واحدة من كيفياته تستنفذ القول. أن تكون لاعنيفا في الخطاب يعني أن تحترم تعدد وتنوع الكلامات. انه ترك المكان لأنماط الخطاب أي هنا الخطاب الحاسب وكل خطابات الذهن، هنا المعنى المعقول ومشروعه في الشملنة totalistion، في مكان آخر التقاطع بين الخطابات الميثية والكلام النبوي تفتح الإنسان على المصدر ذاته للمعنى حيث لا يطرح بل هي تطرح منه. أن نحترم التعدد والتنوع والتراتبية في الكلامات يعني بالنسبة إلينا نحن البشر الطريقة الوحيدة للاشتغال على المعنى المعقول. “[2]
التعليق:
تتمثل وجهة نظر بول ريكور في أن الإنسان كائن فضولي قادر على مواجهة اللاّمعنى، علاوة على أن تاريخ الإنسانية التي ينتمي إليها قد شهد محاولات مستمرة وللتصدي لعنف الطبيعة الخارجي وإحلال السلم الدائم مكانه وإعطاء معنى للحياة من خلال العمل والتنظيم وتنمية الأبعاد المدنية من الطبيعة الإنسانية وجعل البعد اللغوي كلاما معقولا وإبداعا دلاليا.
توجد علاقة تواشج بين الشعر والعمل وبين الكلام والعنف وإذا كان العمل يمكن الإنسان من الانتفاع بأشياء الطبيعة ويتسبب من جهة الابتداء في الشقاء ويجلب السعادة في المنتهى فإن الشعر يساعد الإنسان على التحرر من ضغط الواقع والتحليق في الخيال وإعادة بناء عالم مختلف ويجعل من الأبعاد الرمزية للكلام هي مسكن الوجود وموضع مكوث الكائن البشري.
بيد أن العنف لا يصدر عن الطبيعة الخارجية فحسب بل قد ينبعث من داخل الجماعة ويتفجر على مسرح التاريخ بشكل فجائي ويتراوح بين التدميري غير المشروع والبنائي المشروع. لكن هل يؤدي الإقرار بشرعية العنف التكويني إلى تقديسه والنظر إليه بوصفها حقا إنسانيا؟
يضع ريكور ثقته في اللغة ويبحث عن كلام عقلاني خالي من العنف يجري من خلاله النقاش المفضي إلى الاتفاق والتفاهم ويتم معالجة الأشكال المرئية من العنف والأشكال اللاّمرئية.
لا يمكن أن يتحرر الإنسان من أسر الطبيعة والشروط الاجتماعية والتاريخية والاقتصادية إلا من خلال تحصيل الحرية السياسية والحرية الشعرية والحرية الفلسفية وبعد إخلاء الفعل السياسي والقول الشعري والتفلسف الشخصي من خطر مداهمة العنف والكذب والأداتية.لكن ألا تنتصر الإنسانية على هذا الوباء المتفشي حينما تحل لغة المعنى مكان واقع اللاّمعنى؟