يقول السيميائي الإيطالي “أومبرتو إيكو” على لسان الفيلسوف أرسطو، في رائعته المريعة “اسم الوردة”: “وحده الضحك قادر على مقاومة الخوف”.
والضحك ليس السخرية، بالمعنى البسيط للكلمة، وإنما هو وسيلة للدفاع ضدّ الرّداءة وكذلك ضد الخوف أو الترهيب والإرهاب.
فعندما يسأل “غوليلمو”، بطل الرواية المذكورة، القّس المتطرف “جورج” عن سبب إخفائه لكتاب “الضحك” لأرسطو يردّ عليه بأن :“كل كتاب لهذا الفيلسوف حطّم علما من علوم المسيحية. فلو يتمكّن الإنسان من تحويل فن الضّحك إلى سلاح بارع، لو يستطيع أن يعوّض بلاغة الإقناع ببلاغة السخرية، لانهارت العلوم الدينية. فماذا سيكون مصيرنا، نحن المخلوقات الضّالة، حين يغيب الخوف؟”.
الخوف من السخرية هو في الحقيقة خوف من العقل كما يقول المسرحي الفرنسي “ساشا غيتري”.
يبدو أن هذا سبب معاداة جلّ الإيديولوجيات للضحك، حتى أن أخطر تهمة يوجهها المتكلمون باسم الدين، لمن يرون فيه غريما، هي تهمة السخرية من الدين. ولنتذكر كيف كان ردّ حزب النهضة الإسلامي التونسي على قرار إصلاح مادة التربية الدينية سنة 1999. فقد وقّع القيادي الثاني في الحزب آنذاك، السيد عبد الفتاح مورو، بيانا وسمه بـ“لا للسخرية من الإسلام”، إذ اعتبر الإسلاميون حينها أن إلغاء تدريس النصوص التي يمكن أن تدفع الأطفال والمراهقين إلى العنف، مثل مفهوم أهل الذمة والدعوة إلى إرساء نظام الخلافة وإلى الجهاد وقطع الأعضاء البشرية وضرب المرأة، وكذلك كل ما يمكن أن يدفع الغير للسخرية منّا مثل الحديث عن ملك اليمين و نقصان عقل المرأة، هي طريقة للسخرية من الإسلام.
كما تكون غالبا ردّات فعل المؤطّرين إيديولوجيا أكثر عنفا على النصوص الساخرة التي تنتقدهم من النصوص العادية، رغم تعبيرها عن نفس الفكرة. لأنّ السخرية تعمل بطريقة الكاريكاتير أو المرايا الماسخة للشكل. فهي تعكس حقيقة ما، لكن بإبراز عيوبها وإضاءة زوايا مخفية.
ويتمثل فضل الكاركاتير، بالصورة أو بالقول، في قدرته على تقديم رسالة موجزة ودقيقة وواضحة. وهي أنجع طريقة للإخبار لأنها تمنع ذهن القارئ من التشتت والضياع في التفاصيل الزائدة عن الحاجة، فضلا عن إغرائه بلحظة سعادة.
والأسلوب الساخر أو الضاحك هو الأسلوب الأكثر تعقيدا وصعوبة في صنعته رغم بساطته الظاهرة. لذلك فهو يُنعت بالأسلوب الذكي. فالإنسان الساخر، كما يقول “سارتر”: “يرفع ما يضعه، و يدعو إلى التصديق حتى لا يصدق، ويثبت كي ينفي، و ينفي كي يثبت”. لذلك ينجح عادة الإعلام الساخر في مراوغة القانون الزجري والإفلات من سيف الرقيب، كما نجح قديما الإيطالي “دانتي” في “الكوميديا الإلهية” التي نسجها على منوال “رسالة الغفران”، في مراوغة الكنيسة و قول ما لم يكن من الممكن قوله بأسلوب نثري جاد و جاف. و نحن نعترف لإخواننا في مصر بإتقانهم لفن السخرية. و كنا مرة نستمع إلى محاضرة مملّة حول حقوق المرأة، حين أخذ أحد المتشيّخين الكلمة لينعت المتكلم بالجهل. فردّ عليه أحد الحاضرين قائلا:“يا سيدنا الشيخ، المحاضر كان في الحقيقة يدافع عن حق فك أسر الرجال من قيد القوامة الذي سخّرهم لخدمة النساء. فالعمل كما نعرف هو العقوبة المسلطة على آدم وأبنائه جزاء مخالفته الأمر الإلهي. غير أنه يبدو أن الإناث من بني أدم قد تم إعفاءهن من هذه العقوبة بما فضل الله بعضهم على بعض”، وحينها جنّ جنون “سيدنا الشيخ” فأعلن قراره بمقاطعة الجلسة واعتبر أنّ المحاضر كان على الأقل مؤدّبا بالمقارنة مع “خفيف الروح” الذي نعته بالكفر والهرطقة.
يبدو أن الأسلوب الساخر هو فعلا أسلوب خطير بسبب قدرته على تحويل الكلم عن موضعه و إلباسه معنى جديدا، تماما مثلما يفعل الشعر.
لذلك أيضا تعادي جلّ الإيديولوجيات، الدينية منها واللائكية والملحدة، الشعر. فكما إن للضحك القدرة على مقاومة الخوف، فإن للشعر القدرة على تحويل وجهة الكلمة دون أن يفقد القول معناه.
فالشعر قادر على جعل الكلمة الوضيعة نبيلة الكلمة الضعيفة قوية وعلى إعطاء معنى لما لا يمكن أن يكون له معنى، تماما مثل الكتابات المقدسة.
وبالتالي فإن الشعر قادر على التدليل على الطبيعة البشرية للكلمة رغم تأكيد جل الكتب المقدسة على طبيعتها الإلهية. إنه يشكل مع الضحك الغريم الأول لهذه الكتابات ولسطوة الخوف التي يصنع في النهاية من مجرد كلمات.
و تذكرني إمكانية تغيير العلاقة بين العلامات بتغيير وجهة النظر و الأسلوب، بكلام “أومبرتو إيكو” حين يقول:“لم أشك يوما في حقيقة العلامات. فهي الشيء الوحيد الذي يسمح للإنسان بالاستدلال ولكن ما عسر عليّ فهمه هو العلاقة بين العلامات”.
أما أنا، فلم أفهم سرّ تبجيل الناس لمقولة الإنسان حيوان ناطق على حكمة الإنسان حيوان قادر على الضحك. فمن الواضح، أو هكذا يبدو لي، أن النطق ليس الشرط الأول للتدليل على بشرية الإنسان، إذ ماذا نفعل حينها بالإنسان الذي تتساوى عنده عدد علامات اللغة مع عدد أفكاره، و كل الذين يعتقدون في وجود كل ما له اسم وينكرون وجود ما لا اسم له؟ و أتذكر أنني عندما كنت ماركسيّة كان يغيضني كثيرا، أن ينجح الشاعر “محمود درويش” في جلب الجماهير الغفيرة لمجرد قوله:“يحطّ الحمام، يطير الحمام” في حين كان يجب علينا تحبير خطبة عصماء لكي نستطيع شدّ الرفاق فقط. هل لأن محمود درويش كان يلحق حركة الحمام ببيت:“أعدّي لي الأرض كي أستريح فإني أحبك حتى التعب” ؟
و كنا أيضا، وتماما مثل مناضلي حركة طالبان الأفغانية، نطارد الشعراء العشاق ومرددي أغاني عبد الحليم حافظ و أصحاب الروح المرحة، بكرباج كلمة “يا مائع، يا بورجوازي”.
كنا نطارد الفرح والذكاء والشعر والضحك، حين كان جدار برلين يتهاوى.
كنا لا نفهم كيف يمكن أن توجد كلمات وأفكار خارج كتاب “رأس المال” و بقية نصوص الشريعة الماركسية. كانت ملكة استخدام العلامات والرموز تقتصر عندنا على التدليل عما نعتبره الحقيقة الوحيدة الممكنة.
يقول القسّ “غوليلمو” العقلاني لمساعده الشاب، في رواية “اسم الوردة”، حين فضّل القّس المتطرف تسميم جسده بأكل كتاب أرسطو حتى لا يصل إلى الناس فيسمم عقولهم، وبعد احتراق المكتبة: “كانت هذه أكبر مكتبة للمسيحية. وأعتقد أن زمن الدجّال الأعور قد حان، فقد كان العلم وحده قادرا على الوقوف في وجهه. و الدجال، يا ابني، لا يأتي ضرورة من عالم آخر بل وأيضا من عالم التقوى، من الإفراط في حب الله أو الحقيقة. فاخشَ يا ابني الأنبياء والذين لهم الاستعداد للموت من أجل الحقيقة”
فكم كنا أغبياء، كم كنا أغبياء.
في رواية “كتاب الضحك والنسيان”، يقول كونديرا: “لا يمكن أن نسخر من الحب. فلا علاقة للحب بالضحك”
و توجد في الحقيقة علاقة قوية بينهما، فالضحك كما الحب، لا يمكن أن نسخر منه.