2012-01-17 الميتافيزيقا والشعر بين أفلاطون وهيدغر
كرد محمد |
| |
لقد
اعتبرت مسألة الميتافيزيقا والشعر من أهم المسائل التي تناولها الفلاسفة
بداية من أفلاطون وأرسطو وصولا إلى مارتن هيدغر و هانس جورج غادامير، حيث
عرفت العلاقة بينهما لحظات صراع وعداء، ولحظات التقاء وحوار، إلا أننا قد
نجد وراء الصراع الظاهري مؤشرات و معالم غير مرئية توحي بالارتباط و
التكامل، وبذلك فإن الصراع بين الميتافيزيقا والشعر يبدوا أقرب إلى صراع
طرفين متكاملين، فالتجربتان لا تنيان تتقطعان و تتوازيان، بل وأحياناً
تختلطان، حيث أن الشعر والميتافيزيقا صورتان إنسانيتان للتعبير عن الوجود،
كما أن منطلقهما هو الإنية المتفاعلة روحياً وعقلياً مع ذلك الوجود.
هكذا شغلت العلاقة بين الميتافيزيقا والشعر ، و مدى التأثير الذي يمكن أن
تحدثه كل منهما في الأخرى ، خدمة لكل منهما خاصة، وللفكر الإنساني عامة،
الباحثين في الماضي وفي الحاضر.
يضاف إلى ذلك الارتباط شبه العضوي الذي ظل يربط، و لمدة قرون ، كل من
الشعر ومن الفلسفة عامة، و الشعر والميتافيزيقا خاصة..، وهو الارتباط الذي
تؤكده الفلسفة اليونانية (هيرقليط الأفيزي" Héraclite، (ت:530 -475 ق.م
تقريباً)، مثلما تؤكده الفلسفة الإسلامية في عصورها الذهبية (ابن سينا،
(ت:1037))، فبين الشعر والميتافيزيقا تساوق وقرابة، فرغم اختلافهما شكلاً
فَهُمَا يتحالفان كنهاً و جوهراً ووظيفة.
إن الفصل بين الشعر و الميتافيزيقا هو أمر مُفْتَعَل، ذلك أن جِنسيْ
الخطاب الذي نطلق عليهما أسميْ الشعر و الميتافيزيقا هما جنسان مقترنان
منذ كانت البداية الإغريقية للأشياء وكينونتها المقترنة هذه ترسم تاريخ
الفكر الإنساني.
و إذا كان "أفلاطون" قد انتقد الشعر المحاكي في بعض كتاباته، فإنه عاد
ليمجده ويوظفه في العديد من كتاباته تماماً مثلما فعل هيدغر الذي وجد
بالرغم من نقده للميتافيزيقا والشعر فيهما وفي النهاية الترياق المضاد
للتقنية و لنزعتها اللاإنسانية.
1.تحديد المفاهيم: الميتافيزيقا – الشعر
فإذا ما تساءلنا بعد هذا عن المقصود بالميتافيزيقا، وجدنا أن هذا المفهوم
قد تغير على مر العصور: فهي تعني عند "أفلاطون " Platon(علم المثل)، وعند
"أرسطو"Aristote(ت:322 ق.م) أصبحت تعني (علم العلل)،أما عند المدرسة
الأفلاطونية الحديثة فهي (علم الوحدة) ،بينما اعتبرها ديكارت Descarte(R)
(ت:1650) "( علم اللامادي)، وهي عند اسبينوزاSpinoza (ت:1677) (علم
الجوهر) ، و قد جعل منها مالبرانش Malebranche (ت:1715)" (علم
الصور)،وليبنتس Leibniz (ت:1716)" (علم القوى البسيطة أو الذرات الروحية)
ثم أحالها" شيلنغSchelling (ت:1854)" إلى (علم المطلق)، بينما جعل منها
"هيغل Hegel (ت:1831)" (علم الفكرة المحضة أو الحقيقة الروحية
الخالصة)...(1) ؛ يتبين أن المفاهيم السابقة، تؤكد أن الميتافيزيقا بحث في
المطلق، فهي تحاول الكشف عن ما هو متحجب، يتستر وراء مظاهر الموجود
الحسية، فإذا كان العلم يساعد الإنسان على معرفة ظواهر الأشياء، ويستند
إلى الوقائع المحسوسة، فإن الميتافيزيقا -على خلاف ذلك- يسعى من خلالها
الإنسان، إلى معرفة بواطن الأشياء، أو ما هو متحجب، يتستر وراء مظاهره
الحسية، إنها بحث في الوجود، أو بتعبير أدق بحث فيما يجعل الموجود موجودا
بالفعل،إنها تعني البحث فيما يحمل الوجود الفيزيقي على الظهور.
الميتافيزيقا بحث عن معنى الوجود و تعبير عن محبة الحكمة و حوار مع
الأسئلة الخالدة عن الموت والزمن و العدم و اللامتناهي ... و لن يكون مآل
الشعر مختلفاً عن مآل الحقيقة الكلية التي قصدتها الفلسفة...
إن نفس التعدد في التعريف يصدق على الشعر، و في الحقيقة، إذا كان تعريف الميتافيزيقا صعب ، فإن تعريف الشعر ليس أقل صعوبة.
فالشعر، فيما يرى بودلير "تجاوز للواقع العيني، فهو ليس حقيقة كاملة، سوى
ضمن عالم مغاير وأخروي(2)"، و الشعر يعرف كذلك بأنه "اختيار ثوري -
بالمعنى الإبداعي - يهدف إلى تغيير العالم، تغييراً جوهرياً يكشف طاقات
الوجود الكامنة(3)." وفي نفس هذا الاتجاه يقول الشاعر الفرنسي Jean Jouve
( ت: 1979) أنه "ليس هناك من شعر إلا حيث يكون ثمة خلق وإبداع مطلق(4)."
وهناك من يرى بأن الشعر يمكن أن يكون في حد ذاته وسيلة للمعرفة، فهو إظهار
لما هو متستر فيما وراء العالم، أو مقيم في الظل منزوٍٍ عن الضوء(5).
وبهذا يكون الشعر فعل إبداع يبعث في الإنسان الرغبة الدائمة في التساؤل ويكشف جوهره الفاعل..
2. أفلاطون والشعر: التباعد والالتقاء
أ. التباعد: الخيال المحاكاتي
يأخذ أفلاطون موقفه النقدي للفن بشكل عام، و للشعر بشكل خاص على أساس
مفهوم المحاكاة Mimétisme، حيث اتخذت كلمة ((المحاكاة)) عنده معنى رديئاً،
ذلك أن الفنان في رأيه هو الفنان الرديء الذي لا يتقصى الحقيقة، و إنما
يُزيف إذ يصور بالرسم أو باللغة ما لا يعرف، ولا يعبر عما في نفسه من
معارف أو حقائق، و لهذا فهو يصفه بالجهل و يستبعده من مدينته الفاضلة(6).
المحاكاة التي تكون نسخة من الدرجة الثانية لواقع هو نفسه نسخة للفكرة
المطلقة؛ إن النسق الميتافيزيقي الأفلاطوني يقوم على تصور وجود عالمين،
عالم محسوس يتضمن أشياءً هي في حقيقتها صورة لشيء آخر يحيل عليها، وعالم
معقول يعد أصلاً في وجود عالم الحس المتغير.
و يعتقد أفلاطون أن الفن يبتعد عن "عالم الأيدوس " درجتين، لأنه يحاكي
العالم الحسي الذي هو محاكاة أولى لعالم المثل، والفن –على هذا الأساس –
محاكاة المحاكاة، إنه تصوير حسي لظاهر الطبيعة على نحو يشبه الرسام الذي
يحاكي الشيء و لا يحاكي المعنى أو المثل، ولهذا فالفن الذي ينطوي على هذا
النوع من المحاكاة قبيح لعدم احتوائه الفائدة المطلوبة منه.
يبين أفلاطون الأسباب التي دفعته إلى استبعاد هذا النوع من الفن القائم
على المحاكاة، فيذهب إلى إعطاء أمثلة لتوضيح موقفه، فيقول إننا نفترض
دائماً مثالاً واحدا لكل مجموعة من الأشياء المتشابهة، فللأسرة مثال واحد،
و إذا كان النجار هو صانع الأسرة الخشبية التي يُحاكي فيها صورة المثال،
فإن المصور هو أبعد ما يكون عن صورة المثال لأنه لا يُحاكي الحقائق
المثالية وإنما يُحاكي المحسوسات كما تبدو له، فالمصور لا يصل بعمله إلى
الحقائق بل هو يقف على المظاهر.
وحال المصور ينطبق على الشاعر التراجيدي لكونه محاك، يقول أفلاطون: "وإذن
فهذا يصدق أيضاً على الشاعر التراجيدي، مادام مقلداً فهو إذن، ومعه كل
المقلدين، يحتل المرتبة الثالثة بالقياس إلى عرش الحقيقة(7)."
و مما لا شك فيه أن إيمان أفلاطون بالعقل و بأنه المدخل إلى عالم المثل قد
دفعه إلى الشك في عالم الحس وما يستتبعه من عواطف و أحاسيس يمكن أن تنال
من قوة العقل وتحد من منطقه على الإنسان، وهكذا يكون موقف أفلاطون من
الشعر جزءاً هاماً من ميتافيزيقاه(8).
وفي الشعر من الأوزان و المؤثرات النفسية ما يحجب عنا صورة الوجود في
حقيقته، إن سماع قصيدة شعرية لا يجعلنا نقف عند الموضوع الذي تثيره
القصيدة و تأمل معانيه بل على العكس من ذلك تماما نتوجه بمشاعرنا لتذوق
العوامل اللغوية و البلاغية و الموسيقية المرتبطة بالقصيدة فننشغل عن كل
رغبة أصيلة في المعرفة.
فالوجود و المحتوى الأنطولوجي لما يقوم به الفنان ، يقومان على انعدام أي
حقيقة مستقلة عن الأصل، بل إن الفنان قد يشوه ، إلى أبعد حد ، شكل النموذج
المثال وهو أمر يحط من قيمة عمله ووظيفته، وعلى هذا الأساس نرى أن الفنان
أو الشاعر لا يستند في عمله إلى أي حقيقة، لأجل ذلك طرد أفلاطون الفنانين
و الشعراء من جمهوريته الفاضلة، فالشاعر يحاكي عالم المحسوسات وهي نفسها،
إذن، ليست سوى محاكيات للعالم العلوي عالم (( الأيدوس)) .(9)
يقول أفلاطون: "- و إذن فالفن القائم على المحاكاة بعيد كل البعد عن
الحقيقة، وإذا كان يستطيع أن يتناول كل شيء ، فما ذلك، على ما يبدو، لا
يمس إلا جزءا صغيرا من كل شيء، وهذا الجزء ليس إلا شبحاً .(10) "
إن نقد أفلاطون هذا يرتبط بالوضع الكلي لنسقه كمؤسس لدعائم ميتافيزيقا
الوجود المتمثلة في التمييز بين ما هو كائن و ما يظهر من جهة و ما يكون من
جهة أخرى، فقد قام أفلاطون بتشييد الميتافيزيقا على ثنائية العالم العلوي
الخالد الثابت المدرك عقليا والعالم زمني المحسوس المتغير و الذي يمثل
عالم الظلال والوهم .
لقد تصور أفلاطون أن الحقيقة لا توجد في عالم المحسوسات وإنما في عالم
مفارق هو عالم (الإيدوس). و تبعاً لذلك فلم يكن في الإمكان أن يُحظى الشعر
عنده بقيمة طالما كان مرتبطاً بعالم الموجودات الطبيعية لأنه عالم الظلال
أو الأشباح أو عالم التغير والصيرورة. لقد سجل أفلاطون إذن رأيه بصراحة و
أكد أنه لا يُمكن أن تُعد المعرفة بالمحسوسات علماً على الإطلاق.
إن ارتباط ((المحاكاة)) بما هو جسدي غريزي مدنس و منحرف سيبعد فيما يرى
الذات عن الحكمة La Sagesse والفكر السليم فلا يعطي سوى خدع و أوهام
وستكون المعارف القائمة على هذا الأساس غير صادقة، والدراسة السابقة
لأسطورة الكهف تكشف عن ذلك إذ يؤكد أفلاطون على وجود فاصل يقطع بين العالم
الذي تكشف عنه نور الشمس (مثال الخير) والعالم الشائع للصور التي تنيرها
نور اصطناعية (النار)داخل الكهف(11) .
و يؤكد أفلاطون أن الشعر التمثيلي أو الدرامي من حيث أنه فن إنتاج صور
الموجودات المحسوسة، فإن غرضه التوجه إلى ذلك الشطر من النفس الذي ينفعل
بظاهر الأشياء وصورها، ولأن معيار نجاح العمل الفني هو مقدار استثارته
بنفوس المتلقين يحول دون تدخل قدرات الذات العقلية، فيلزم أن يكون التركيز
على كل ما يثير الانفعال بحيث يبقى الجزء الأدنى من النفس سلطان الاستجابة
لما يعرض لناظريه سلطاناً لا منازع له، فإذا ما تدخل الشطر الأعلى المفكر
وأمكنه إعمال ملكاته بعيداً عن الانفعالات والأهواء يتقلص سلطان الشطر
الأدنى، ويفقد العمل الفني استثارته بقلوب الجماهير(12).
يتجلى لنا من خلال هذه النظرة الميتافيزيقية للحقيقة و للوجود أن الشعر
يعد أكثر المجالات بعداً عن الحقيقة والأقل شأنا في تقديم المعرفة ( فهو
تقليد للتقليد).
يرى أفلاطون أن التقليد الشعري لا يختص بالعنصر العقلي بل يختص بعنصر أدنى
منه، وإذا كان دوره في جعل المستمع يماثله فإن ذلك يقف عائقاً لعمل الجهاز
المعرفي عند المستمع (العقل)؛ لقد جعل أفلاطون الشعر في مستوى أدنى من
المعرفة المنطقية والمعرفة العلمية حيث جعل التفاعل بين الشعر وروح
المستمع في الجزء الغضبي من النفس ذات الأجزاء الثلاثة، واصفاً تأثير
العمل الشعري بأنه إثارة للغضب والشفقة.
و هكذا يلتقي كل من أفلاطون و نيتشه في كون إنتاج الشعراء لا يرقى إلى
المستوى الذي نطلق عليه الإبداع، فالتعابير تكاد تكون واحدة بهذا الصدد
عند كاتب الجمهورية وكاتب هكذا تكلم زرادشته، و نلاحظ أن الالتقاء يرتكز
أساسا في ربط الإنتاج الشعري بالمحاكاة، وعدم النفاذ إلى أعماق الأشياء،
فلا يتم الإبداع Création، إذن، إلا إذا ارتبط بالنموذج العقلي فقط، وهذه
هي مهمة الفلسفة كما تتجلى في النسق الميتافيزيقي الأفلاطوني، هذا النسق
الذي يقوم على مجموعة من الأزواج: المعقول/ المحسوس ، الحقيقة/ الوهم
،الأصل/ الصورة ،حيث يكون المعقول هو العنصر الفاعل دائما، أما عالم الحس
فهو يشكل العنصر الأدنى الذي يحاول أن يبلغ شأن الفكر دون أن تصله أو
تكونه.
لقد وضع أفلاطون حدا فاصلا بين الفلسفة (العلم) و الفن (الشعر) ، فجعل
قدرة الأولى على الكشف عن الحقيقة (حقيقة المثل) أكبر من قدرة الثانية أو
لنقل أنه جعل من عمل الفن عملا وهميا يبعدنا عن كل حقيقة .
لقد مثلت الرياضيات الشرط العلمي لقيام البحث الفلسفي، و ذلك بصفتها
أنموذج المعرفة وصورة الحقيقة، فلولا هذا الشرط لما كان للفلسفة أن تتشكل
كخطاب تجريدي عقلاني(13).
و إذا كان النسق الميتافيزيقي الأفلاطوني لا يعترف إلا بنوع واحد من
الحقيقة آلا وهي الحقيقة المنطقية الثابتة الخالدة التي تتطابق في أصلها
مع عالم " الأيدوس "، فلا غرابة إذا كان أفلاطون يرفض الشعر لاعتبار أن
المعرفة الشعرية معرفية وهمية لا تتطابق مع الأيدوس، وإذا كانت الحقيقة
تعكس الصور كما هي في ذاتها، فإنه لا يجوز أن تتضمن المعرفة صورا غير
لائقة، والمتصفح لمقاطع من شعر (هوميروس) و (هزيود) يتبن له أن مثل هذه
الأشعار تصف الآلهة بصفات غير لائقة إذ تبدو الآلهة من خلالها ساخرة،
ساحرة، لاهية، عابثة، بل خليعة أيضا، تتبدى على صور متعددة ، تكشف عن
مظاهر وهمية، و هي صفات تعكس حالة عالم الفساد والتغير، إذن فالمعرفة
الشعرية لا تعكس الحقيقة المنطقية الثابتة.
يقول أفلاطون:"-أعني تلك التي رواها هوميروس و هزيود و غيرهما من الشعراء وهم أعظم رواة القصص الكاذب الذي لا يزال شائعا بين الناس.
-و لكن أي قصص تعني ، و ما الذي تعيبه عليه ؟
-إن أول ما أعيبه عليه هو كذبه، بل كذبه الآثم الشرير.
-و أين يظهر ذلك الكذب.
-في تمثيل الآلهة و الأبطال بطريقة باطلة ، و كأن مصورا يرسم صورا مشبوهة لا يوجد بينها
وبين موضوعها ظل من الشبه(14)."
ب. حالة الالتقاء: الخيال السامي
و إذا رجعنا إلى موقف "أفلاطون" من الشعر، فإننا نجده في بعض المحاورات
مثل محاورة((فايدروس)) و((إيون )) و((المأدبة)) يؤيد الشعر، وذلك بطرحه
لمفهوم "الخيال السامي " الذي لا يعد نسخاً لمحسوس ما ،ففي ((إيون)) آراء
مؤيدة للشعر ، وهناك حديث كذلك في ((فايدروس)) و في (( المأدبة)) عن
الشاعر باعتباره كائناً لطيفاً مقدساً مجنحاً يتحرك بفعل الإلهام. فالصور
المعطاة في هذا النوع من الشعر تبتعد عن كل ما هو حسي، إنها تأتي إلى
الإنسان بدل أن تأتي منه، لأنها إبداعات أصيلة يتلقاها الإنسان في حالة
إلهام سام وليس محاكاة، يقول أفلاطون في محاورة ((إيون Ion)):"تقوم إلهة
الشعر بنفسها بادئ ذي بدء بإلهام بعض الأشخاص، ومن هؤلاء الملهمين، تتدلى
سلسلة من الأشخاص الآخرين الذين مسهم الإلهام، ذلك أن جميع الشعراء
المجيدين، الملحميين منهم و الغنائيين ،يؤلفون قصائدهم الجميلة لا بواسطة
الفن، بل لأنهم ملهمون ممسوسون [...] لا يكون الشعراء الغنائيون بكامل
رشدهم آن يؤلفون أناشيدهم الجميلة ، بل يقعون تحت سيطرة الموسيقى و الوزن
فيمسهم الإلهام(15)."
و من أبرز مسلمات الخيال السامي، التسليم بمصدره المتعالي Transcendental
والمقدس Sacré، وهذا على خلاف المحاكاة التي تعد نوع من المعرفة غير
المباشرة التي تنتجها الحواس والتي تكون دائما غير قادرة على بلوغ
الحقائق، فتجد نفسها مضطرة إلى إعادة إنتاج نظائر له، في حين يكون الخيال
السامي على صلة مباشرة بعالم المثل، فهو ملكة متعالية، وبذلك يتجاوز
الخيال السامي كل ما هو حسي وعقلي؛حقيقته متعالية ، تتجاوز الإنسي.(16)
ففي مثل هذا تصور يكون أفلاطون قد تحرًر من إطار الفلسفة السقراطية
العقلية، وتكون حماسته الصوفية وإحساسه قد انطلقت وتفاعلت وعقلية الرياضي
ومنطقه الدقيق، وهذا ما تؤكده أميرة حلمي مطر في قراءتها لمحاورة
((فايدروس))، فإذا كان الفن الجيد هو ما اعتمد على المعرفة الفلسفية، فإن
المعرفة الفلسفية لم تعد بدورها مجرد نشاط عقلي جاف في متناول عامة الناس،
بل تتطلب نوعاً من الكشف أو التذكر والتجربة الصوفية التي يتصل بها
الفيلسوف بهذا العالم ذي الجمال الذي يفوق الوصف والذي لم يتغن به أحد من
شعراء هذه الأرض حتى يوم أفلاطون كما يقول أفلاطون في هذه المحاورة، "ولم
يتغن أحد من شعراء الأرض حتى الآن بجمال هذا المكان الذي يقع فوق السماء ،
و لن يتغنى بجماله شاعر غناء يتناسب مع روعته(17)."
فبعد أن كان أفلاطون ينتقد الفن عامة و الشعر خاصة لأنه قائم على
(المحاكاة)، لم يعد يذم ذلك النوع من الشعر الصادر عن إلهام و عن تلك
القوة اللاًعقلانية، و أصبح أفلاطون يرى أن الفن الملهم كالفلسفة الملهمة
بالحدس و بالرؤية المباشرة للحقيقة، كما لم يعد نقده للفن يقوم على أساس
غيبة الفنان عن نفسه أو هوسه كما تجلى ذلك في محاورات (( الدفاع)) أو
((إيون)) وإنما أساسه قدرة هذا الفن على الكشف عن الحقيقة المثالية
القائمة في (عالم الإيدوس) المثالي المفارق(18).
و قد كانت هذه النزعة اللاًعقلية وراء نظريته في المعرفة و في الفن على
السواء ذلك لأنه يطالب الفنان و الفيلسوف بشرط أساسي و هو معاينة الجمال
le beau.(19)
إن كلام أفلاطون عن الحدس في محاورته ((إيون)) استمر في محاورته ((
مينون)) و((المأدبة)) و((فايدروس))؛ ففي محاورة ((مينون)) يشرح أفلاطون
مفهوم الإلهام الإلهي على أنه ملكة الكلام على الأشياء العظيمة من دون
معرفة ما يدور عليه الحديث، ومن هذا التعريف السلبي Négatif للحدس بوصفه
جهلا ينتقل في "المأدبة" إلى تحليل عملية الإبداع التي تجري في النفس
الإنسانية ، و هو يميز في هذه العملية بين عنصرين أساسين هما التماس مع
الجمال أو الفضيلة و السعي إلى الخلود ، و يعود أفلاطون من خلال كلام
سقراط في محاورة ((فايدروس)) مرة أخرى إلى مسألة المس الإلهيDivin مؤكدا
على ضرورته من أجل الإبداع الشعري، يقول أفلاطون: "ولكن من يطرق أبوب
الشعر دون أن يكون قد مسه الهوس الصادر عن ربات الشعر ظنا من أن مهارته
(الإنسانية) كافية لأن تجعل منه في آخر الأمر شاعراً فلا شك في أن مصيره
الفشل، ذلك لأن الشعر المهرة من الناس سرعان ما يخفت إزاء شعر الملهمين
الذين مسهم الهوس(20)."
و يقول سقراط في محاورة ((إيون)): " فالشاعر شيء لطيف و مجنح و قديس، ولا
يتأتى له الخلق Créationإلا بعد أن يمسه الإلهام و يغادر حواسه و لا يعود
بعقله، فإذا لم يبلغ هذه الحالة فهو بلا حوله و لا قدرة على أن يتفوه
بنبوءاته(21)."
لم يهاجم أفلاطون جميع أنواع الشعر ، بل خص الشعر التمثيلي بالنقد و
استثنى الشعر الغنائي والملحمي والتعليمي، وإذا حاولنا أن نرتبط بطبيعة
بناء نسق أفلاطون الميتافيزيقي، فإن فكرة المحاكاة في هذه الأنواع الثلاثة
من الشعر لا تتجه إلى نقل المحسوسات المتعددة و المتغيرة، بل هي (محاكاة)
للحقيقة المثالية و التي يكون مصدرها إلهام من ربات الشعر و الآلهة .
و لهذا نرى أفلاطون يمدح شعر ((بندار)) PINDARE الذي حفل شعره بالدعاء
والتضرع للآلهة المنعمة على البشر بالموهبة و العبقرية في الفنون ، هذه
الموهبة التي لا يمكن أن تكون ثمرة الاجتهاد و المهارة الإنسانية مهما
بلغت.
إن أفلاطون ، و بطرحه فكرة "الإلهام الإلهي" أو ما يمكن أن نسميه
بـ((الخيال السامي)) الخالي من أي محاكاة للمحسوسات المتغيرة وارتباطه
بالعالم ما فوق الحسي (عالم الأشياء في ذاتها) يبتعد عن نسقه الميتافيزيقي
القائم على مجموعة الثنائيات المحسوس / المعقول، الجسدي/الروحي..،
هذا يعني أن الخيال السامي يتجاوز لكل ما هو حسي و عقلي ، حقيقته متعالية،
تجاوز الإنسي، ويعتبر أفلاطون أن هذه القدرة اللاًإنسانية سلاحاً وقائياً
ضد التأثيرات السلبية للخيال المحاكاتي، لأنه ينحدر مباشرة من منابع
الحقيقة السامية ويتصل بالأفكار الخالدة ومن ثم " يبدع صورة جديدة".
و هكذا فإذا كان الخيال المحاكاتي يُواسِطْ بين الكينونة و اللاًكينونة
انطلاقا من اللاًكينونة فإن الخيال السامي يُواسِطْ بين الاثنين معاً
انطلاقاً من الكينونة، و يبقى (الخيال السامي) مجرد تناول لجانب معين
للنشاط الإنساني، فلم يجعل منها أفلاطون نظرية متكاملة وشاملة، ولهذا
السبب يظل موقعها هامشي، ذلك لأن نظرية المحاكاة تبقى هي النظرية الرسمية
لأفلاطون(22) .
لقد ظل الخيال يأخذ مكانه بين طرفي الحواس والعقل، كمحاكاة وكإبداع، وإن
كانت نظرية المحاكاة هي الأكثر انتشاراً في التصور الكلاسيكي في الغرب،
وبهذا أصبح الخيال مجرد أداة للتزيين، ولا يمكنه الخروج عن حدود الواقعي،
فالسمة الغالبة على الميتافيزيقا الغربية إذن، هي تبخيس المتخيل دون تحديد
مكانه المعرفي، إلاً بالرجوع إلى معيار العقل ذاته، ومتطلباته البرهانية
والمنطقية(23)."
لقد ارتبط، إذن اسم أفلاطون بأول تشكيل فلسفي جعل من الممكن أن تُطرح
ممارسات الإنسان و أنشطته في المدينة، على صعيد الفكر المحض، وأن تعقل
بلغة برهانية ومن خلال ربطها بمسألة الحقيقة و الكينونة، و يتم بذلك
استبعاد الإجراء الشعري من دائرة الحقيقة، ومن ثمة من نطاق المدينة، حيث
تكون لغة الشعر لغة حسية مجازية لا تساعد الفكر على بلوغ درجة المعقولية،
وبمعنى آخر فإن الشعر يقف كعائق أمام صعود الفكر نحو المثل ((الأيدوس))
لأنه يقوم على التقليد والمحاكاة، هذا الاستبعاد سيكون لصالح الإجراء
الرياضي(24).
لكن في أي فضاء ينبغي على الإنسان أن يعيش اتصاله الروحي الأول مع الطبيعة، إذا كان فضاء الشعر غائباً؟
و ما الذي يمنعنا من الاعتراف بأن الوجود موجود بفضل قصائد الشعراء وتأملات الفلاسفة؟
هل أصبح مصير الشعر هو الرحيل من أجل البحث عن إمكانية الكشف عن الوجود فلسفياً؟
و هل سيكون ممكناً للفلسفة و الشعر أن يتحدا في لحظة من لحظات تاريخ الفكر
الغربي من أجل تشييد مدينة فاضلة تجمع الفلاسفة و الشعراء في آن؟
و ما هو الإطار الميتافيزيقي الذي سيُمًكٍن من خلق علاقة جوار بين الفلسفة والشعر؟
3.هيدغر والشعر:
إذا كانت اللحظة الأفلاطونية قد دشنت لبداية الصراع بين الفلسفة و
الشعر..، فإن هيدغر على خلاف ذلك يعتبر الشعر تأسيساً للوجود بواسطة
اللغة..، لقد جعل هيدغر من الشعر أسمى تعبير عن ماهية Essence الوجود..،
فالشعر و الوجود يشكلان علامة رؤيوية تدرك الوجودL'تtre بوصفها انفتاحاً
للموجود L'étant. يقول هيدغر في محاضرته((هيلدرلن وماهية الشعر)) :"إذا
كان (الشعر) في جوهره تأسيساً، فهذا معناه وضع أساس ثابت وراسخ[...] الشعر
تأسيس للوجود بواسطة الكلمة La Parole.[...] و الوجود (Sein) لا يكون
أبداً هو الموجود (Seiendes). و لكن و نظراً لكون الوجود و ماهية الأشياء
لا يمكن أبداً أن ينتجا عن حساب و لا أن يشتقا من الموجود المعطى سلفاً ،
فإنه من الواجب أن يخلقا و يوضعا و يعطيا بحرية. و هذا العطاء الحر هو
التأسيس(Fondement)(25)."
إن ماهية الشعر تجعل منه تأسيساً للوجود..، وماهية الإنسان هي في أن يحيا
شعرياً على هذه الأرض..، لقد ميّز هيدغر بين الوجود أو الكينونة وبين
الموجود ، مُعْتَبِراً أن تاريخ الفلسفة وتاريخ العلوم هو تاريخ نسيان
الوجود L'تtre L'oublie de.. هذا النّسيان يستدركه الشعر La Poésie
(Dichtung) إن نسيان الوجود الذي يُلَخّص أزمة الفكر الغربي والفلسفة
الغربيّة –كما يقول هيدغر- قد أزاحه الشعر باعتناقه لموضوعات الوجود
الكُبرى، وذلك من خلال معركته ضد هفوات الفلسفة المتمثّلة في نسيان وإهمال
الوجود. ومن ثمة صار الشعر "فَلْسَفَة"، باقتحامه مسألة الوجود LaQuestion
de l'être؛
-فما هو مفهوم الشعرعند هيدغر ؟
-و كيف يمكن للوجود أن يكون شعرياً في جوهره؟
-و هل معنى ذلك أن مهمة الفلسفة أصبحت هي البحث عن إمكانية الإقامة الشعرية في الوجود؟
-و كيف يمكن للفلسفة و الشعر أن يتحدا من أجل تشييد مدينة فاضلة أي مدينة الفلاسفة و الشعراء؟
-و ما الذي يجعل إقامة الشعراء في مدينة هيدغر تختلف عن إقامتهم في مدينة أفلاطون؟
I)-جوهر الفن الشعري:
نلاحظ بادئ ذي بدء ،وجود فكرة جديدة للشعر عند هيدغر ، فإذا كان جوهر
الشعر عند أفلاطون يقوم على فكرة الإلهام، فإن جوهر الشعر عند هيدغر لا
يمكن أن يفهم بإنفراد، وإنما فقط انطلاقا من تشابكه و تلاؤمه مع ثلاثة
ميادين تتفاعل فيما بينها ، ألا وهي: العمل الفني L'Oeuvre d'art ، واللغة
Langage، والمقدس Sacré Le، وتكون القصيدة هي عمل فني ((مادته)) أو
بالأحرى عنصره هو اللغة التي تعظم المقدس.(26)
أ)-العمل الفني:
يُصر هيدغر على أن العمل الفني ينبغي ألا يُفهم بوصفه تعبيراً عن مشاعر
الفنان، بل هو يجلب الوجود نفسه إلى ضوء الحقيقة(27). العمل الفني هو قبل
كل شيء ارتقاء للحقيقة، لكن لا تؤخذ ماهية الحقيقة بمعنى((التطابق)) مع
الوجود الخارجي، فكل عمل فني ،إذن، يتخذ صورة ((تفتح)) أو ((انكشاف))
للموجود.
العمل الفني هو أكثر من مجرد شيء Chose ، لأنه ببساطة يكشف لنا عن شيئية
الشيء، أي عن ماهيته، ومن ثمة فإذا كان العمل الفني يحدث في خبرتنا
الأولية بوصفه شيئاً، إلا أن أسلوب وجود العمل الفني كشيء يختلف عن أسلوب
وجود سائر الأشياء المحضة أو الخالصة، ويرى كارل يسبرس، بطريقة مشابهة إلى
حد ما، ((أن المعنى الأساسي للفن هو وظيفته الكاشفة فهو يكشف الوجود
بإضفاء شكل على ما نُدركه.))(27)
ب)-اللغة:
كل عمل فني في نظر هيدغر يُعد شعراً، والتفكير في الوجود طريقة أصلية
للشعر أو هو الشعر الأصلي الذي يسبق الشعر وسائر أنواع الفنون، ما دامت كل
الفنون تتحرك في إطار "لغة الوجود"؛ فالشعر هو الذي يُعيد الحياة إلى
اللغة عندما تُستهلك و تُصبح مجرد لغة يومية مبتذلة ودارجة. الشعر هو الذي
يُحي اللغة، و هو الذي يُطورها، و الذي يُعرف الإنسان بوجوده من خلالها.
فاللغة هي التي تكشف عن الوجود، فحيث تكون اللغة يكون هناك تاريخ كما يقول
هيدغر. هذا هو المعنى الواسع للشعر الذي يكون ماثلاً في كل فن وكل تفكير
Pensée أصيل باعتباره عملية جلب و إظهار الموجود إلى مجال الانفتاح؛ غير
أن هذه الكلمة لا ترتبط فقط بمعنى الشعر كنوع أدبي " فن نظم أو قرض الشعر"
أي "فن القصيد" Poesie (Dichtung )، رغم أن هذا الأخير يحتل مرتبة أساسية
في فكر هيدغر.
الشعر في معناه الخاص هو من عمل اللغة، و اللغة هي أداة الإنسان لتحقيق
((العلانية)): وإظهار المستخفي، أو هي تجلي الموجود البشري في العالم
الخارجي. و إذا كان وجود الصخرة أو النبات لا يعرف تفتحاً فذلك لأن كل هذه
الموجودات لا تمتلك ((لغة)) تتخذ منها سبيلاً إلى التجلي أو الإنتشار(28).
والشعر هو الذي يجعل من اللغة أمراً ممكناً، فلا يُمكن فهم ماهية الشعر
إلا من خلال فهم ماهية اللغة نفسها، اللغة في ذاتها تعد شعراً في معناه
الأصيل "La Langue elle-même est poésie au sens profond"وحتى نرتبط
بماهية اللغة كما هي يجب التخلص من مفهومها الشائع، بوصفها أداة تُفيد
التواصل والتعبير(29).
يقول هيدغر في محاضرته ((الشعر مسكن الإنسان)): "والإنسان يتصرف كما لو
انه خالق Créateure اللغة وسيدها Le Maitre، في حين أنها هي سيدته وستظل
كذلك [...] وعندما تنقلب علاقة السيادة هذه فإن دسائس غريبة تخطر ببال
الإنسان، وتتحول اللغة إلى وسيلة للتعبير، وبهذه الصفة قد تغدو مجرد وسيلة
للضغط Préssion[...] اللغة في واقع الأمر هي التي تتحدث, أما الإنسان فانه
يتكلم فقط كي يجيب اللغة فيما هو ينصت إلى ما تقول له. ومن بين كل
النداءات التي نساهم- نحن معشر البشر- في إنطاقها يعتبر نداء اللغة أرقاها
وأولاها [...] فاللغة تومئ لنا وهي أول وآخر من يزودنا بكينونة الشيء
L'être d'une chose [...] والتوازن الذي يصغي به الإنسان صادقا إلى نداء
اللغة إنما ينبع من القول الناطق في مادة الشعر. فكلما ازدادت أعمال
الشاعر شاعرية Poétiqueازداد قوله تحرراً وانفتاحاً على ما ليس في الحسبان
L'imprévu(30)."
إن قصر اللغة على الاستعمال النفعي و الوظيفي يستدعي مقاومة شديدة و هي
التي يضطلع بها الشعر بهذا المعنى ، و قد أشار نيتشه إلى خطورة هذا
الاختزال الذي يسود الاستخدام اللغوي بل و يسود الكلام العامي حيث تُختزل
اللغة في كلمات معدودة و تُجرد من شذاها الشعري الذي تفوح به الكلمات، ذلك
أن مهمة الشاعر هي شحذ الكلمات لإنتاج أكبر قدر ممكن من الدلالات، ومن ثم
فالشعر لا يسعى إلى تجاهل هذه التعددية الصوتية أو استبعادها، إنما يسعى
بالأحرى إلى الاحتفاء بها وإبراز دلالتها وشحذ طاقتها وذلك بغية أن يستعيد
للغة كل قدرتها وطاقتها على الادلال".
من هذا المنظور، يعمل هيدغر على تصحيح التصور الشائع عن اللغة والذي
يختزلها في كونها وسيلة للتواصل، مبيناً أن مثل هذا التحديد لا يبلغ
الماهية الحقيقية والخاصة باللغة. إن اللغة يؤكد هيدغر، هي أولا وقبل كل
شيء ما يضمن إمكانية أن يوجد الإنسان في انفتاح الموجود: "هناك حيث توجد
اللغة، يوجد العالم"(31)، كما أن اللغة ليست فقط أداة للتفاهم والتعبير بل
على العكس من ذلك تحضر قبل كل شيء كل موجود L'étant بوصفه موجوداً
للإنفتاحDans L'ouvert(32).
لا يستعين الشاعر بالكلمات كمجرد أدوات، بل هو يُبرز كل ما في (( الكلمة))
من عمق وكثافة ودلالة، يقول بول ريكور : " الأمر الأول الذي أود التأكيد
عليه هنا هو أن الشعر يناط به حيازة أبعاد اللغة والحفاظ على عمقها
واتساعها ورحابتها ذلك أن الخطر الأول المحدق بثقافتنا الحالية يكمن في
قصر اللغة على التواصل في أدنى مستوياته أو مجرد تعيين الأشياء والأشخاص.
وهنا تصبح اللغة أداتيه فقط، هذه النظرة الأداتيه للغة هي أخطر ما يمكن أن
يواجه ثقافتنا، ذلك أن النموذج الوحيد للغة الذي نملكه الآن هو لغة العلم
والتكنولوجيا.(33) "
II)-علاقة الجوار بين الشعر و الفكر:
لقد تناول هيدغر مسألة العلاقة بين الشعر و الفكر في كتابات المرحلة
المتطورة من فلسفته، ما بين عامي 1935 – 1960 ، ففي كتاب (( شروح على شعر
هيلدرلن)) يُقدم هيدغر صورة عن علاقة الجوار بين الشعر و الفكر، و في عام
1943 و في كتابه ((مدخل للميتافيزيقا)) أظهر أيضاً العلاقة الوثيقة بين
الشعر و الفكر و حقيقة الوجود، ليُضيف هيدغر مقدمة إلى هذا الكتاب سنة
1949 يُوضح فيها المنبع الأصلي لكل منهما، وفي عام 1946 كتب دراسة بعنوان
((عبارة انكسمندر)) و التي نشرت بعد ذلك في كتاب ((متاهات))، وفيها يُشير
إلى مفكري ما قبل سقراط الذين يراهم قد عبروا عن الوجود من خلال الكلمة،
وقد تم لهم هذا الإدراك في ضوء الفيزيس Physis والحقيقة Alétheia و
اللوغوس Logos ، لقد كان تفكير فلاسفة هذه المرحلة ذو طبيعة شاعرية
أساساً، لأنهم طلبوا الوجود بالكلمة.
قدم هيدغر في محاضرته ((رسالة في النزعة الإنسانية)) عام 1947 فكرة عن
العلاقة بين الشعر و الفكر و الوجود، و بين أن التفكير سرعان ما ينهار
عندما تتخذ لغته طابعاً علمياً وتتشكل في قوالب منطقية أو فيزيائية،
فالتفكير الأصلي هو الذي يُعبر عن الوجود بواسطة اللغة، اللغة بيت الوجود
كما يقول هيدغر، و الإنسان يقطن هذا البيت، و يكون الشاعر والمفكر حراس
وحماة هذا البيت، " في الفكر على الوجود أن يأتي إلى اللغة. واللغة هي
مـأوى الوجود، حيث يقيم الإنسان. المفكرون والشعراء هم أولئك الـذين
يسهرون ويحرسون على هذا المأوى. حراستهم وعنايتهم هما الإنجاز التام لتجلي
الوجود، إذ من خلال قولهم وبه يحملون إلى اللغة ذلك التجلـي ويحتفظون به
هناك.(34) "
و في عام 1953، نشر هيدغر مؤلفه ((على الطريق إلى اللغة)) و هو يتضمن ثلاث
محاضرات و فيها يتناول تحليلاً لعلاقة الشعر بالفكر، كما يتناول بالتحليل
أيضاً ماهية اللغة، يقول هيدغر في محاضرته ((الكلام في عنصر القصيدة))
التي كتبها حول شعر جورج تراكلTrakl (G) (ت:1914) ما نصه: " و لكن يبقى
ممكنا، و ضرورياً في بعض الأحيان، أن يقوم حوار بين الفكر و الشعر، ذلك
لأن الفكر و الشعر، معاً، لا ينجوان من تلك العلاقة الواضحة، و إن كانت
مختلفة بالكلام. الكلام الشعري كلام رمزي يشوبه نوع من الغموض الذي يمنح
الكلام قوته الفاتنة التي تدعو إلى التأمل والتساؤل والتأويل، أي إلى فتح
الطريق للتفكير. ومن ثمة يتعالق القول الشعري بالفكر من أجل كشف الغموض
والسر(35).
يهدف الحوار بين الفكر و الشعر إلى استثارة وجود الكلام(36)." يقترح هيدغر
أن نعيد تناول الفعل الشعري من أجل إقحامه في مجال الفكر بشرط الاحتراس من
حالة التماهي بين ما يقوله الشاعر، وما يعبر عنه المفكر، فما يقوله هذان
معاً ليس خاضعاً لمبدأ التطابق. ولكن يمكن أن يقولا نفس الشيء بكيفيات
مختلفة، وهذا لا يتأتى إلا عندما تكون الهوة بين الفكر والشعر جلية واضحة
وجد عميقة(37).
العلاقة بين الشعر و الفكر بالمنظور الهيدغري، إذن، ضرورة ينبغي أن تتم،
فهي استثارة للغة رغم ما يمكن أن يظهر بينهما من اختلاف و تباين، إن طبيعة
القول في الشعر والفكر ليست واحدة، لكن يبقى القول هو الأرضية التي تُجسد
وجودهما، القول في بعده الأنطولوجي، بعيداً عن علاقته بالأشياء و بالواقع،
يقول بول ريكور:" الشعر يعيد الكشف عن إمكانات اللغة حيث إن هذه اللغة قد
تقلصت وظيفتها التي أصبحت نفعية في الأساس في علاقتها بالواقع الآني.(38)
"
يرى هيدغر أن المجال الذي يتحرك من خلاله الشعر هو الكلام، ونفس الشيء مع
الفكر، لكن هذا لا يعني أن الفكر هو نوع من الشعر، ولا يعني أيضاً أن
الشعر هو نوع من الفكر، لكن ما هي الغاية من هذا الحوار بين الشعر والفكر؟
تتجلى الغاية من هذا الحوار بين الشعر و الفكر في بناء سكن للإنسان..، هذا
ما يذهب إليه هيدغر ، فالحوار بينهما سيسمح بتشييد كينونة المسكن و ذلك
يتم بواسطة اللغة، إذ تُعد "اللغة -كما يؤكد على ذلك هيدغر- بيت
الوجود(39)".
يرى هيدغر أن الفكر إنصات إلى نداء الوجود..، نداء ليس في إمكان أي شخص أن
يُنصت إليه..، إنه نداء يتوجه صوب المفكر و الشاعر باعتبارهما صاحبي رسالة
تتجلى في حراسة حقيقة الوجود و رعايتها(40).
وجود غاية واحدة، و أرضية واحدة، تكشف عن علاقة الجوار Voisinage القائمة
بين الشعر و الفكر(41). و تدل كلمة الجوار هنا على أنه ليس أمام الشاعر و
المفكر سوى اللغة للكشف عن الوجود، اللغة هي أساس الفكر و التفكير الشعري،
و من هنا وجب التأكيد مع هيدغر على الصلة الحميمة بأبعادها الثلاثة بين
اللغة و الفكر و الشعر، فإذا كان كل من الفكر والشعر يقتفي سؤال الوجود،
فإن اللغة التي تُعد القاسم المشترك بينهما ترتبط بالوجود، إذ أن الوجود
ذاته يتكشف من خلال اللغة.
يقول هيدغر في محاضرته ((ماهية اللغة)) التي نشرت في كتابه ((على الطريق
إلى اللغة)):"لكن إذا كان كل شيء يعود أولاً إلى تجربة تفكير مع اللغة،
فلماذا هذا التأكيد على التجربة الشعرية؟ ذلك لأن الفكر بدوره يحدد مسالكه
بجوار الشعر، لهذا السبب كان من المفيد التفكير في الجار الذي يسكن
بالقرب. الشعر و الفكر كل منهما بحاجة إلى الآخر، لإتمام مسارهما إلى حده
النهائي، في علاقة جوار لكن كل بطريقته الخاصة.(42) "
اعتبرت اللحظة الهيدغيرية لحظة حاسمة في تاريخ العلاقة بين الشعر و
الفلسفة، حيث سقطت كل المعارضات التقليدية فيما بينهما و التي كانت نتيجة
لسوء فهم كليهما، الشعر والفلسفة صورتان للتعبير عن الوجود، الشعر صورة
للتعبير عن الإمكان، و الفلسفة صورة للتعبير عن الآنية. و الوجود إمكان و
آنية معاً، ولهذا كان الشعر و الفلسفة متكاملين، و لا غنى للواحد عن
الآخر(43).
الخاتمة:
هكذا يكون مشروع تأسيس مدينة فاضلة، بالمنظور الأفلاطوني يتطلب الدخول في
صراع ومواجهة مع الشعراء..، حيث يكون الفيلسوف هو القادر على تدبير شؤون
المدينة..، و بهذا تصبح المدينة الفاضلة ممكنة التحقيق لكن في ظل وجود
الفيلسوف..، إلا أن (المدينة الفاضلة) بالمنظور الهيدغري تتطلب إجراء
حوارات مع الشعراء .