[rtl] حول مفهوم "الثورة العلمية":[/rtl]
[rtl]ماذا نقصد بمفهوم الثورة العلمية؟ إذ يرد مفهوم "الثورة العلمية" في كثير من التحليلات التي تنصب على تاريخ العلم الحديث. ويختلف مدلول المفهوم من دارس لآخر؛ لكنه اختلاف لا يصل إلى درجة التضاد البين، لأن الاختلاف يرجع إلى التكوين الفكري للدارسين وإلى الثقل الذي يمارسه التخصص على توجهاتهم العامة… فتحليل الدارس السوسيولوجي لابد أن يختلف نوعا ما عن تصور مؤرخ الفن أو مؤرخ العلم، بحكم التخصص الذي يجعل الدارس يبرز عناصر معينة على حساب عناصر أخرى في التفاعل الفكري والاجتماعي؛ لذا تختلف الاستنتاجات والتفسيرات والتقييمات لمظاهر النمو والركود في المعارف. بيد أنه يمكن تكوين نظرة تحاول التركيب بين نتائج التحليلات التي يصل إليها باحثون ينتمون إلى حقول نظرية متغايرة.[/rtl]
[rtl]فما نقصده بالثورة العلمية هو ذلك التحول الشامل الذي طرأ على كل مرافق الحياة العلمية والاجتماعية والعقدية والمؤسسية، خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر. إذ لا نقصد به ميلاد الفكر العلمي كما قد يتبادر إلى الذهن، لأن الفكر العلمي قد نشط منذ ثلاثين قرنا تقريبا، ثم تطور ببطء بحكم عوامل من مختلف الأوزان. وشمولية التحول تتضمن مظهرين أساسيين: يتمثل المظهر الأول في تسارع الإنتاج العلمي وإيجاد حلول علمية لأسئلة طالما أزعجت الدارسين حول حركة الأجسام وسر انتظام حركة الأجرام السماوية وطبيعة الضوء والمد والجزر وإعادة سبك المعارف العلمية القائمة التي أنجزها الإغريق والمسلمون خصوصا. ويتمثل المظهر الثاني في انتشار المعرفة العلمية لدى فئات عريضة من المواطنين، خصوصا أولائك الفاعلين في النشاط الاقتصادي والتقني والفني والسياسي، مما جعل القرارات والإنجازات في مجالات مختلفة تتأثر بنتائج العلوم في البصريات والميكانيكا والرياضيات. ثم أصبحت التجارة والصناعة والفنون والطباعة الجديدة أدوات فعالة في نشر المعرفة العلمية وجعلها مثمرة في بناء تصور المشاكل العملية والتقنية على أسس متينة.[/rtl]
[rtl]لا يجمع الباحثون -من الصعب أن نتصور إجماعا بين كل الباحثين- حول تحديد بداية التحول الشامل الذي نحن بصدده. فكل بناء استدلالي وكل حدث فكري وكل ظاهرة اجتماعية تنخرط تشعباتها في سيرورة ثقافية-تاريخية ممتدة في الزمان والمكان، حيث تسترسل فيما بينها وتتواصل حلقاتها بدون قطيعة صارمة. ولهذا فإن تعيين القرنين السادس عشر والسابع عشر لا يمتلك قوة مطلقة، بل يجب اعتبار ذلك التحديد بقدر معين من المرونة. بيد أنه من الطبيعي أن نشير إلى مميزات إنجازات جيل معين في حقل معين مقارنة مع إنجازات الجيل السابق في نفس الحقل؛ دون أن يعني ذلك إقرارا بخصوصية جديدة كل الجدة، بما أن الجديد يتطور دائما عن بعض عناصر القديم، وينفصل عنها لينتظم في علاقات عضوية مع مكونات التركيب الجديد. وقد كان مفهوم "الثورة" مستعملا بمعنى الدوران للعودة إلى المنطلق (كما في حركة الكواكب) حتى النصف الأول من القرن السابع عشر؛ ثم أصبح يستعمل بمعنى التغير الشمولي أو التبدل الجذري.[/rtl]
[rtl]فالتغير الذي عاشته أوضاع الشعوب الأوربية منذ القرن الحادي عشر تقريبا اتخذ أشكالا مختلفة وبسرعات مختلفة حسب الفترات التاريخية وحسب المكونات الخاصة لكل مجموعة بشرية. ولهذا نجد مثلا أن ثورات الفلاحين كانت شديدة العنف في بوهيميا في أواخر القرن الرابع عشر وأوائل الخامس عشر، بينما اتخذ الصراع الاجتماعي شكل جدال فكري حول المعمار والفن والأدب والفلسفة في مدن شمال ووسط إيطاليا. وفي أوائل القرن السادس عشر اتسعت رقعة العنف ذي الأساس الديني في وسط ألمانيا بزعامة مارتن لوثر وتوماس مونتسر وآخرين حيث مات الآلاف من الناس، بينما كان التحول الثقافي والعقدي شبه سلمي لم يعرف إلا القليل من العنف في الأراضي المنخفضة، نظرا لخصوصية النشاطين الاقتصادي والأدبي المتميزين بالوفرة آنذاك.[/rtl]
[rtl]إن التغير لا يحصل بنفس الحدة في كل المناطق، نظرا للفروق في توفر الخيرات الاقتصادية وأساليب توزيعها ونمو السكان… لكن ذلك لا يدل على استقلال المناطق الجغرافية والأنسجة الثقافية عن بعضها البعض. فالانتشار يطال كل مظاهر النشاط الثقافي والاجتماعي، لكن سرعة الانتشار وكثافته وبالتالي وقعه وحدته تكون بحسب ما تسمح به وسائل السفر والنقل ومستوى العيش لدى السكان. والتلاقح بين الأنسجة الثقافية والنمو الحضاري لا يشكل استثناء،بل هو القاعدة التي تحكم العلاقات بين المجموعات البشرية وتقاليدها الثقافية. إذن فإن العنف الذي مورس في وسط ألمانيا في ظروف اقتصادية واجتماعية وعقدية تتسم بالتأزم والتبعية المستغلة (إزاء الكنيسة المركزية في روما) لا بد أن تصل آثاره إلى الأراضي المنخفضة؛ لكنه يصبح هنا عبرة ومناسبة لإصلاح اجتماعي وعقدي وسياسي يسبق العنف، بل يتجنب درجة التأزم الذي عرفه وسط ألمانيا.[/rtl]
[rtl]إذن فالتحول المفهومي العلمي الذي حصل في أوروبا خلال القرنين المذكورين لا ينفصل عن الأحداث السياسية والاجتماعية وعن النشاط الفكري عامة. لقد عرفت مجتمعات أخرى غير أوروبية -خصوصا المجتمعات الإغريقية والإسلامية- بعض العلوم، فتطورت عندها الرياضيات وعلوم البصريات والفلك والستاتيكا، لكنها لم تعرف انتشارا على مدى جماهيري واسع، ولم تصبح جزءا أساسيا من الحضارة السائدة في المجتمع، كما عرفته أوروبا خلال "الثورة العلمية"، وما أدت إليه من تجديد في الحياة اليومية للمواطن الأوروبي. ولن نهتم في هذا العرض بتفاصيل الحياة الاجتماعية والسياسية، بل سنركز على جوانب التحول المفهومي العلمي.[/rtl]
[rtl]ومفهوم "الثورة العلمية" نحت من قبل فلاسفة الأنوار في أواسط القرن الثامن عشر بالمعنى الذي يعبر عن تحول الأفكار الأساسية حول العالم؛ فكان لا بد أن يلتحم المفهوم بمكونات المقام النظري السائد آنذاك، وهو مقام يتميز بالنقد اللاذع للأفكار التي تنتمي إلى الفترة ما قبل القرن السابع عشر. ثم تضاءل تداول هذا المفهوم نسبيا شيئا فشيئا كنتيجة للبحث في نمو الفكر وتطوره قبل ذلك القرن، مما بين أن العصور الوسطى لم تكن عصورا مظلمة تماما كما كان يظن. فكان من نتائج البحث في تطور الأفكار في العصور الوسطى والنهضة أن تضاءلت حدة التوتر والانفصال المسطرين بين ما قبل التحول المفهومي العلمي وما بعده، نسبيا. ثم طفا مفهوم "الثورة العلمية" ثانية على يد مؤرخ العلم ألكسندر كويري في أواخر الثلاثينات من القرن الحالي، والمؤرخ هربرت بترفيلد، فاستعمله كثير من مؤرخي العلم منذ ذلك الطفو. غير أن صعوبة تحديد الفترة الزمنية التي يحيل عليها المفهوم بالضبط، كانت وراء ملاحظات كثيرة حوله. فقد بدأ استعماله عند كويري محيلا على الفترة قبيل وبعيد عام 1600م. عندما توصل كاليلي إلى اكتشافات أساسية في الديناميكا والفلك قدمت أجوبة دقيقة لأسئلة قديمة باتت تشغل الدارسين. لكن كويري نفسه وسع الفترة الزمنية للمجال المفهومي الذي يدخل تحت مفهوم "الثورة العلمية" شيئا فشيئا، فأدخل إنجازات ديكارت الفلسفية الطبيعية في صلب التحول المفهومي العلمي. ولم يجد بدا من توسيع سعة المفهوم، حتى أصبح يشمل زمن كوبرنيك ونيوتن (أي من أوائل القرن السادس عشر إلى أواخر القرن السابع عشر)، لأن أعمال كاليلي وكبلر وديكارت تندرج في الدفاع عن بناء مفهومي قائم (مع بعض التعديلات) هو بناء كوبرنيك الذي وجد تتويجه في إنجازات نيوتن التجريبية والتنسيقية.[/rtl]
[rtl]واضح إذن أنه لم يتم إجماع بين الدارسين حول المضمون الدلالي لمفهوم "الثورة العلمية". ومن هنا الشكوك التي يعبر عنها بعض الدارسين المتأخرين الذين يرون أن مصير هذا المفهوم سيكون نفس مصير مفهوم "النهضة" الذي نحت لوصف العصور الوسطى بعصور الجهل من أجل فهم خصوصية ما سمي بالنهضة. فمفهوم "النهضة" نحت في العشرينات من القرن السادس عشر تعبيرا عن شعور بالتجديد الذي حققه القرن المنصرم(1). إذ كانت وراء نحت مفهوم "النهضة فكرة كون العصور الوسطى تمثل قرونا من الظلام تتوسط بين العصر الذهبي الإغريقي واستعادة مكوناته خلال القرن الخامس عشر. فإذا بسير الأبحاث التاريخية المعاصرة حول تلك العصور تكشف عن الاتصال المسترسل بين العصر الوسيط الذي كان يوصف بالظلام، والنهضة التي كانت توصف بالإشعاع. كما أن مفهوم "الثورة العلمية" نحت خلال القرن الثامن عشر تعبيرا عن أهمية منجزات العلم في القرن السابق. ويلاحظ فلوريس كوهن أن مفهوم "الثورة العلمية" قد فقد إشعاعه وجاذبيته على ضوء البحث في تاريخ العلم لدى الجيل المتأخر، حيث يقول: "وبعد كل شيء، فليست المفاهيم التاريخية إلا مجرد استعارات يجب على المرء الاحتراز من تشييئها […] وأيضا، فإنني سأناقش مسألة اعتبار مفهوم الثورة العلمية مجرد استعارة. إنه يحيل مباشرة على حدث في الماضي أو حلقة [تاريخية] ذات واقعية لا جدال فيها: وهي بزوغ العلم الحديث"(2). إذ أن مفهومي "النهضة و"الثورة العلمية" يعبران عن لحظتين تاريخيتين محددتين بالتقريب، تجعلان استعمالهما لا يخلو من إجرائية مفيدة من أجل فهم تاريخ الأفكار. ولا يمكن تمديد المجال الدلالي لمفهوم "الثورة العلمية" قبل أو بعد القرنين السادس والسابع عشر، لما سيضيف ذلك من إبهام بدل الإيضاح. وكما كتب رشارد وستفال، ويتفق معه في ذلك ربرت هل وكاتبا مقدمة الكتاب المشترك: "يستند مفهوم "الثورة العلمية" إلى إعادة التنظيم الجذرية لفهم الطبيعة، التي حصلت فعلا في القرنين السادس عشر والسابع عشر. أنا مقتنع بعدم وجود طريق آخر لفهم تاريخ العلم بدون الاعتراف بهذا الواقع، بحيث أنه إذا وسعنا من مفهوم "الثورة العلمية" ليضم القرن الثالث عشر سنحتاج إلى إبداع حد آخر لغرض التعبير عن التغييرات التي حصلت في القرنين السادس عشر والسابع عشر"(3). لذا، نرى أنه يجب الأخذ بمفهوم "الثورة العلمية"، وبقدر من المرونة، لأنه مفهوم يمكن أن يضيق أو يتسع، دون أن يدعي أحد أنه قد وضع حد للاختلاف حول مدلوله. فنرى أن مفهوم "النهضة" يدل على ذلك الثراء المهم في الآداب والفنون، من الربع الثاني من القرن الرابع عشر إلى الربع الأول من القرن السادس عشر؛ ومفهوم "الثورة العلمية" يدل على التحول المفهومي-الاجتماعي الشامل خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر، بالتقريب.[/rtl]
[rtl]ب - تصورات للحدث التاريخي:[/rtl]
[rtl]هناك تصورات متعددة تحاول تفسير ظاهرة التحول المفهومي الشامل الذي عاشته أوروبا، سنذكر أهمها.[/rtl]
[rtl]من التصورات التي اشتهرت في أوائل هذا القرن ذلك الذي كونه العالم والمؤرخ الفرنسي بيير دوهيم، والذي يعين اللحظة الفاصلة في تطور العلم في وسط القرن الرابع عشر في جامعة باريس على يد علماء مسيحيين أشهرهم جان بوريدان (1295-1358) ونيكول أورزم (1303-1382). ففي نظر دوهيم، هناك اتصال واضح ومسترسل بين فزياء كاليلي وفزياء علماء باريس، حيث انتقلت إليه هذه من خلال تمدرس الذين أخذ عنهم كاليلي في باريس مباشرة أو عن طريق التأثير غير المباشر. ويرى أن الدفعة التأسيسية للعلم الحديث تبلورت كرد فعل نقدي وتفنيدي للعلم الأرسطي والآخذين به في التقليدين الهلنستي والإسلامي. ويوجه نقدا لاذعا لابن رشد والأرسطيين حيث يتهمهم بأنهم جمدوا الفكر بدفاعهم المغفل عن الأسلوب الأرسطي في الفكر الذي ينفر من التناول الرياضي للموضوعات المبحوثة.[/rtl]
[rtl]فالعلم الحديث في نظره وليد التقليد الباريسي الذي وجد من يتمسك به ويطوره من أساتذة وعلماء. "وكاليلي ومنافسوه كانوا ورثة هذا التقليد الباريسي"(4). وفي صفحات كثيرة من كتاباته يشيد دوهيم أيما إشادة بعلماء باريس المسيحيين الذين وقفوا في وجه الاتباع الأرسطي. لكن التفسير الذي يقدمه دوهيم لبروز هذا المد المناهض لفكر أرسطو لا يبين تطورا مفهوميا مطردا في صورة تجريب واستدلال؛ بل يرجع الفضل في ذلك التحول المفهومي إلى قرار المنع الذي أصدرته سلطة الكنيسة في شخص إتيين تومبيي، بأمر من روما، بخصوص تدريس وتداول دعاوى فلسفية جلها أرسطية ورشدية. وهكذا يكون المنع بردا وسلاما على تقدم الفكر، لأنه فتح آفاقا جديدة خصبة غير أرسطية في تحليل الظواهر. فقد تطورت فكرة القوة الدافعة (الميل، إمبتوس) على يد جان بوريدان ونيكول أورزم، التي كانت الأساس النظري الذي تطور مع تجدد التجارب وأدى إلى فكرة العطالة، ذلك المبدأ المركزي في الفيزياء الحديثة.[/rtl]
[rtl]لقد كانت فكرة السببية الأرسطية المرتبطة بقدم العالم تحول دون تقدم النظر؛ فأتى قرار منع الدعاوي التي تحد من قدرة الخالق، ليفتح المجال لفكرة تعدد العوالم والدفعة الأولى وقدرة الله اللانهائية. وفي نظر دوهيم فالعلم الحديث تمخض عن هذه الدعاوى الإيمانية اللاأرسطية. إذ كتب: "إذا كان لا بد من تعيين تاريخ لميلاد العلم الحديث، فإننا نختار ولا شك تلك السنة 1277م. التي أعلن فيها أسقف باريس رسميا أنه يمكن أو توجد عوالم كثيرة، وأن مجموع الأفلاك السماوية يمكن أن تسكنها حركة مستقيمة، وذلك بدون وقوع في تناقض"(5). فالعلم الحديث في تصور دوهيم ولد على إثر قرار ديني ضد أفكار أرسطو، ثم تطور باطراد واتصال حتى القرن السابع عشر، بدون إعادة نظر ولا تحول مفهومي يضع المسلمات موضع سؤال وبحث جديدين. بينما يعتبر إنجازات العلماء غير المسيحيين -أي المنتمين إلى الفترتين الهلنستية والإسلامية بالدرجة الأولى- امتدادا اتباعيا لتعاليم أرسطو، أي غير مثمرة علميا.[/rtl]
[rtl]نعترض على تصور دوهيم من عدة أوجه:[/rtl]
[rtl]1 - صحيح أن قرار عام 1277 قد ساهم شيئا ما في البحث عن الأفكار غير الأرسطية. وقد صدر ذلك القرار ثلاث سنوات بعد وفاة توماس الأكويني الذي حاول الجمع بين فلسفة أرسطو وتعاليم الدين المسيحي، مع الاتجاه نحو جعل الفلسفة خادمة للدين؛ وكذلك جعلت الرياضيات والمعارف الأخرى في خدمة الدين لدى كثيرين. بينما تشبث فلاسفة آخرون بالتصور الرشدي الذي يجمع بين فلسفة أرسطو والدين مع جعل الفلسفة مستقلة عن الدين ولا تخدمه. وقد عرف التصور الرشدي انتشارا واسعا في أوروبا منذ ترجمة أعماله البطروجي وابن باجة وابن طفيل في أوائل القرن الثالث عشر. إن الفكر غير الأرسطي الذي تطور خلال القرن الرابع عشر لم يقطع مع أرسطو، لأن فلسفة المعلم المشائي ظلت تناقش حتى القرن السادس عشر. ومفهوم القوة الدافعة غير-الأرسطي، كمفهوم مركزي في البناء المفهومي لفزياء القرن الرابع عشرن تطور عند جان فيلوبون (يوحنا أو يحيى النحوي، من القرن السادس الميلادي) وابن سينا وابن باجة منذ قرون عديدة، لا يتناقض مع التصور العام للفلسفة الأرسطية أو تأويل معين لها، كما تداولها الدارسون آنذاك، فلم يبق مجال لفكر أرسطي واحد ومنتهي بعد قرون من التأويلات، بحكم التأليفات المتعددة بين مكونات المذاهب المختلفة.[/rtl]
[rtl]2 - الفكر التجديدي للقرن الرابع عشر يندرج في دينامية مفهومية وثقافية شاملة لا يعير لها دوهيم أي اهتمام. فالبحث عن الكتب والمخطوطات والترجمة من اللغات اليونانية والعربية والعبرية، وربما الفارسية وغيرها، استمر بدون انقطاع، لكن بوتيرات مختلفة؛ وكلما ترجم عمل مهم جديد كان له وقع على الدارسين ودخل في سياق الجدل الشامل الذي عم الجامعات الأوروبية منذ أواخر القرن الثاني عشر. وليس مرد تطور الفكر العلمي في القرن الرابع عشر إلى منع دعاوي أرسطو وابن رشد بالدرجة الأولى، بل مرده بالأساس إلى الاطلاع الواعي على إنجازات آرخميدس وأقليدس وبطليموس وابن الهيثم وابن سينا والبطروجي وغيرهم في ميدان العلوم الوضعية التي تتبلور على إثر برامج للبحث من أجل إيجاد حلول لمسائل محددة. وقد كانت إنجازات هؤلاء تسير في خطى تقليد البحث العلمي، الذي تعود جذوره إلى التقليد الأودكسي-الأرخميدي، والذي كان يحاور إرث أرسطو وينتقد بعض مظاهره، ولا يعاديه، تماما كما كان يحاور إرث أفلاطون. بل إن البعض (مثل ابن الهيثم وابن سينا) جددوا في جل العلوم العقلية تجديدا مهما بدون الابتعاد عن الإطار الفلسفي الأرسطي إلا بدرجات بسيطة.[/rtl]
[rtl]3 - الدينامية المفهومية التي عرفتها هذه الفترة تنخرط في تجديد شامل في العلاقات الاجتماعية والحضرية والفنية. فقد عرف أوائل القرن الرابع عشر تطورا في المدن والتجارة وأدوات العمل والأسفار والرحلات كما عرف تجديدا في الآداب والموسيقى والمعمار والفنون التشكيلية. إن الاكتشاف العلمي نشاط مفهومي يمارسه أفراد يتبادلون الأفكار حول مواضيع محددة ويتنافسون كأفراد وكمؤسسات ويخطون برامج للعمل، وهؤلاء يتفاعلون مع محيطهم الاجتماعي والمؤسسي؛ ولا يمكن تصور مجتمع جامد منغلق يجدد في العلم. وعيب تصور دوهيم أنه يتغافل كل هذا الاندماج العضوي بين الممارسات المفهومية ويجعل ميلاد العلم الحديث مرهونا بقرار المنع، وكأن الفكر معزول عن محيطه المهني والاجتماعي والمؤسسي. وبالمقابل يربط ربطا مباشرا ومتعسفا بين فصول القرار التي تتحدث عن القدرة الإلهية والبحث العلمي في ظواهر طبيعية محصورة المجال.[/rtl]
[rtl]4 - تتحكم في تصور دوهيم لتبلور العلم الحديث خلفية إبستمولوجية تتميز بكونها تعتبر النظرية العلمية مواضعة تتكون من عدد من القضايا تقارب الظواهر التي تتحدث عنها دون أن تتمكن من التعبير عن علاقات حقيقية بين مكونات واقعية للمجال التجريبي. ولهذا نجد دوهيم متشبثا بالمبدأ القديم الذي كان يرى أن وظيفة النظرية الفلكية تنحصر في حسابات استنباطية من أجل إنقاذ المظاهر (الظواهر) ولا ترمي إلى تفسير الظواهر في واقعيتها الأنطلوجية. ويرى أن خصوبة النظرية العلمية تكمن في إبعادها لفكرة القدرة على فهم الواقع؛ ويمجد التقليد الباريسي لأن هذا الأخير أخذ صراحة، في نظره، بمبدأ "إنقاذ المظاهر" في مقابل واقعانية أرسطو الميتافيزيقية(6). ويدعي أن لا نظرية تستطيع بناء جهاز مفهومي يعبر عن العلاقات بين حركة الأجرام السماوية ومواقعها من أجل تفسير الظواهر المرئية للعين المجردة، لأننا لا نستطيع إدراك تلك العلاقات في واقعيتها، بل إن الحديث عن واقعية الظواهر من قبيل الميتافيزقا وليس من العلم، في نظره. ولهذا يعجز تصور دوهيم عن إدراك وظيفة النظرية العلمية الأساسية التي تتمثل في تفسير الظواهر عن طريق الربط بين مكوناتها، ما بدا منها وما خفي. وربما أعذر لأنه عاش في فترة قلق مفهومي في تاريخ العلوم الفيزيائية، وهي فترة انتقالية، من فيزياء أضحت لا تستطيع مماشاة الظواهر المستحدثة مثل المجال الكهرومغناطيسي وأشعة س وحركة الغازات والأجسام السوداء والذرة، نحو فيزياء أوسع.[/rtl]
[rtl]5 - موقف دوهيم من ابن رشد لا يخلو من تعسف، وذلك من وجهين: أولا، ليس ابن رشد مؤولا كسولا لأرسطو، كما يدعي دوهيم؛ ففي شروحه ملاحظات وأمثلة توضيحية خصبة لم تكن بدون فائدة. صحيح أنه يمكن توجيه نقد لابن رشد، من زاوية تاريخ العلوم، لأن الحماس لفلسفة المعلم تجاوز الحدود العقلية، لكنه لم يكن متزمتا. ويرى جون مردوك أن الدارس المسيحي السكولائي "كان يجد كل دليل لأرسطو معاد الصياغة ومكرر ومقوي ومدعم بواسطة أمثلة"؛ وأن "ابن رشد كان يغير المعنى الإجمالي للنص الأرسطي الذي يبدأه"؛ وأن "وظيفة المعرفة العربية هذه كانت، كما أظن، أكثر بروزا لمساهماتها في علم الغرب في العصر الوسيط"(7). ثانيا، لم يكن موقف ابن رشد من الفلك البطلمي ليوافق التزام دوهيم بمبدأ "إنقاذ الظواهر"، لأن ابن رشد انتقد هذا المبدأ ودعا إلى تكوين نظرية تعبر عن الواقع الموضوعي للعالم بدل الاكتفاء بالحسابات التي توفر التنبؤ فقط.[/rtl]
[rtl]6 - إن تصور دوهيم يشتمل على حلقة بنائية مثمرة لأنه كشف عن دور قرار عام 1277 في الدينامية الفكرية المتشعبة والغنية آنذاك. فقد انشغل الفلاسفة إلى حد الهوس بمسألتي المتصل واللانهائي في ارتباط مع القدرة المطلقة لله. لكنه يتضمن ادعاء مبالغا فيه ولا يمكن الدفاع عنه(. وكما يرى إدوارد كرانت، فإن بعض الفلاسفة، مثل رامون لول، قد دافعوا عن قرار المنع؛ بينما يحتمل أن بوريدان قد عارضه وإن في الخفاء وتبنى بعض الدعاوي الأرسطية(9). وربما لعب توجه دوهيم القومي الديني دورا في مبالغته في اعتبار قرار للمنع صادرا عن مؤسسة للمراقبة بمثابة دفعة إيجابية لتكون العلم الحديث. ولهذا يتهمه بعض الدارسين بالمسيحي الشوفيني والقومي المتطرف(10). فقد حط دوهيم من قدر علماء الفترتين الهلنستية والإسلامية ومن قدر كوليج مرتن التابع لجامعة أكسفورد، ورفع من شأن علماء باريس فوق القدر المعقول. وقد كان كوليج مرتن نشيطا في نفس الفترة التي نشطت فيها جامعة باريس، وفي نفس المسائل المتعلقة بالمتصل واللانهائي وبتفسير حركة الأجسام وسرعتها وعلاقتها بالقوة والمقاومة والزمن، بل لربما تأثر علماء باريس بأمثالهم علماء مرتن الذين عبروا عن تلك المسائل النظرية بالنسبة الحسابية. فقد أساء دوهيم فهم نظرية برادوردين التي تقيم علاقة تناسبية بين قوى المقاومة من جهة وسرعات ناتجة عن أفعال تلك القوى وأنماط المقاومة؛ بينما فهم دوهيم أن السرعة تناسبية مع نسبة القوة على المقاومة، على الطريقة الأرسطية. كأن دوهيم يرى أن علماء أكسفورد ظلوا على المذهب الأرسطي في أمور الفيزياء، وهنا قصور نظرته(11).[/rtl] [rtl]هناك تصور يخالف تصور دوهيم في جل مظاهره؛ فهو تصور يرى أن نمو المعارف يتم في شكل بناءات منفصلة لا يستمر اللاحق إنجازات البناء السابق، بل يختلف عنه في كل شيء، لأنه يعيد سبك البناء المفهومي في شموليته. ونجد هذا التصور لدى ألكسندر كويري، مرتبطا بفلسفة عقلانية تدعي أن الثورة العلمية التي دشنها كاليلي وديكارت قامت على مبدأ الصياغة الرياضية للوقائع، بصورة لم يسبق لها مثيل؛ وأن طريقة كاليلي العقلانية الرياضية قطعت مع التناول الكيفي في دراسة الظواهر. فكتب: "الفيزياء الجيدة قامت على أسس قبلية. فالنظرية تسبق الواقعة؛ والتجربة غير مجدية، لأننا نمتلك المعرفة التي نبحث عنها قبل كل تجربة"(12). ويرجع كويري الأصول التكوينية للعلم الجديد القائم على الصياغة الرياضية العقلانية للطبيعة إلى فلسفة أفلاطون، التي تبناها علماء العصر الحديث للوقوف في وجه الفكر الأرسطي: "[بالنسبة لكاليلي ] يشكل العلم الجديد دليلا تجريبيا للأفلاطونية"(13). ويتفق كويري مع دوهيم في كون العلم الحديث نما ضد أرسطو، لكنه يعتبر التجديد قد حصل في القرن السابع عشر، بعد التخلص من كل الإرث القديم.[/rtl]
[rtl]على أن هناك تأويلا آخر لمكانة كاليلي في الثورة العلمية: فحيث يرى كويري أن كاليلي كان متشبعا بتصور أفلاطوني للمعرفة، يرى دارسون آخرون أن كاليلي قطع مع الإرث المثالي الميتافيزيقي الديني، وانخرط في توجه ذي آفاق مادية أو تجربانية. هؤلاء الدارسون يحاولون تأليف تصور يجمع بين ماركس وباشلار وليفي ستروس؛ ويعتبرون أن الفيزياء الحديثة التي تأسست في القرن السابع عشر منفصلة عن التاريخ السابق، وهي حاصل "قطيعة إبستمولوجية" مع ما يسمونه "ما قبل العلم". والقطيعة الإبستمولوجية لحظة حاسمة يتحرر فيها العلم من ماض ليس إلا مجرد عائق، فهي "نقطة اللاعودة" التي يبتدئ منها هذا العلم، بحيث يصير كل رجوع إلى فكرة سابقة مستحيلا(14). أي أنه لم يكن هناك قبل كاليلي علم حقيقي يستحق هذا الاسم.[/rtl]
الأحد أبريل 23, 2017 8:44 pm من طرف محمد