….. التتمة في العدد
الحداثة بين التنوير الذاتي والتجذير الثيولوجي:
«كارل لوفيث» ومناحي التصيّر الثيولوجي في فلسفة التاريخ(1)
يوسف أشلحي
لسنا نأتي، ههنا، لتجريب نمط من الحديث عن الحداثة، بوصفها نتاجَ أو مخاضَ الحديث (الخطاب). ولا كشفاً لضروب التدبير الفلسفي لمقاماتها في الحقبة التي لها (الحداثة)، أو مابعدها (مابعد الحداثة). بقدر ما سترتهن المقاربة في استشكال البنى الأصيلة في حدث الحداثة. بحسب خطة تقليب النظر في شأنها، نقف على تدبير متضارب لنوابت وروافد الحداثة. هل الحداثة تأسيس ذاتي بذاته؟ وفق ما عبرت عنه جملة من إنعطاءاتها النظرية والعملية؛ البائنة بفضلها عن سوالف البنى المحصلة، بشكل يشي بتحول بنيوي وتبدل جوهري من مقام إلى مقام، على نحو ما يطيب إستفراغه في مفاهيم سديدة وأوضاع مستجدة: آية على التفرد والتقوُّم، وتوكيد ذاتي مدموغ بالإبداع والإختلاف، في حِلِّ من شأن قيد يمسي بها رهين وضع ينعت حالها بالتقليد والإتباع بدل التجديد والإختلاق. أم أنًّ الحداثة محض ادّعاء نافل؟ على فرض كونها واقع حال تقرًّر بغيره لا بنفسه؛ فلا ميزة تحسب لها إلا من حيث هي تحويل وتحوير حافظ لنفسه على صميم البنى السابقة، مع نزر من التغيير آتى على ظاهر تعيناتها.
توشك أن تكون الحداثة في جملتها أو في أطراف من ظهوراتها، موضعا آتى عليها التدبير الفكري المعاصر إستشكالا وتقويما، في صيغ متواترة وصور متباينة(2). بحيث كان سؤال “المشروعية” (Legitimität) ضمنها، الرابط الدقيق بين هذه الرؤى المتناثرة: بين طرح مقر لها بالمشروعية الذاتية وحيازة المعقولية الخاصة بها، وطرح يميط عنها شأن إدعاء الأصالة، ليُنيطها بمقامات المشروعية المستلفة؛ عند هذا لا يمكن فمهم الحداثة خارج الإستمرارية، وعند ذلك لا يمكن فهم الحداثة بمعزل عن القطيعة.
فأي موطئ إهتمام بالحداثة تَنَزَّلته الحداثة في المشروع الفلسفي لدى هيدجر، وهو القائل: “بأن الميتافيزيقا داومت، في جملة هيئاتها والمراحل التاريخية التي مرّت بها، على نفس الوحدة”(3). وما حازت الكينونة في عرفه عن مقام متأصِّل في الحداثة، بما أن هذه الأخيرة تدويم للنسيان وتمكين للحجب “إن طرق ماهية الكينونة، يستوجب منا إبداء التساؤل عمن تكون؟ فقد ظلت الكينونة في حل من أي تساؤل إلى جانب الفهم الذاتي التي رافقها، لهذا باتت مسألة غير مفتكرة: لكونها تنطوي على نسيان مديد، وافتقاد لأساس الحقيقة”(4). لئن توخت المقاربة الأنطولوجية عند هيدغر، تجذير معطى الحداثة في منبتها اليوناني، بما يجعل الحديث عن قيمومتها في محل رفع. فكذلك حامت جملة من الأطياف النظرية حول توطين بنى الحداثة في التربة الثيولوجية؛ فما من شأن يُقرّ للحداثة إلا من حيث هي إستعادة حرفية أو معدلة، مستقاة من رحم الثيولوجيا “هكذا يرى البعض في الحداثة مجرد غنوصية مستحدثة (Eric Vœgelin) أو مسيحية معلمنة (Gogarten, Bultmann, Löwith)”(5). وما كان هذا الطرح لينأى بكلكله عن مباحث الفكر السياسي المعاصر، على نحو ما نجده عند (Leo Stauss) و(Carl schmitt) “فكل المفاهيم التي تحوم في فلك النظرية الحديثة حول الدولة، هي بالأساس مفاهيم ثيولوجية معلمنة”(6). تبعاً لهذه الوجهة، ما كان مستساغاً الإقرار بأصالة للفلسفة السياسية الحديثة إلا من حيث تأصّل نموذجها في معين الثيولوجيا السياسية. فكنه الفلسفة الحديثة وفق ما هو معطى في أحد نماذجها، ليس تحقّق ذاتي وبذاته، بل غاية الأمر كونه تحوير معدل لمعطى سابق له؛ إنْ في ثناياه وأدواره، أو في صميمه وجوهره.
إن أُجْملت المواقف الفكرية الأنفة على تمايزها موقفها من الحداثة بما هو موقف جامع؛ على أن كنه الحداثة غير قائم في صلبها، بقدر ما هو مرهون بغيرها، فيها تلفي أصلها وتستقي مصدرها. ومن ثمة، ما لها أن تكون سوى مقام مؤَسِّس من قبل سلطة أصيلة مؤَسِّسة سالفة، كفيلة بضمان الاستمرارية التاريخية في غيرها. فإن هناك من الرؤى الفلسفية، من تقف موقف المعترض على هذه المواقف المعترضة؛ شأن ما هو مكنون في طرح كل من (يورغن هابرماس) و(هانز بلومنبرغ). بغية تقريب وجاهة الحداثة إلى الأفهام، عبر نصوص ذات صلة من إنعطاءات الفلسفة في عهد الحداثة والمعاصرة، يستهل هابرماس مصنفه (الخطاب الفلسفي للحداثة)، بقول صريح يجمل موقفه من الحداثة (الحداثة: وعيها بالزمان وحاجتها إلى إيجاد ضمانات خاصة في ذاتها). بحيث ما كان في وسع الحداثة في نظره ولا في مبتغاها، أن تستلف معاييرها من زمن مغاير لها، تكون نبراساً منيراً لدربها، بقدر ما يتعين أن تستمد معياريتها من صميم ذاتها(7). قفا نستذكر مفاهيم ضاربة في جوف الحداثة وشاهدة عليها؛ شأن مفاهيم؛ الذاتية (subjektivität) أو الوعي الذاتي (Selbstbewusstsein)، والعقلانية (Vernunftigkeit)، والفردانية(8) (Individualität)، والحرية (Freiheit)، ومفهوم التطو
الأحد فبراير 16, 2014 1:14 pm من طرف هرمنا