حينما ظهر مفهوم ما بعد الحداثة في بداية الأمر، لم يكن ليحيل على فلسفة، و لا ليعبر عن وعي بتحولات، و إنما ليصف “انتفاضة” فنية تمثلت “في معمار فانتيري و جونسون، وموسيقى كايج وفن وورهول ورستشبرغ، وروايات بنشن وبالارد، وأفلام مثل (بلاد رونر) و(بلوفيلفت)”.
لكن هذه “الانتفاضة” سرعان ما أخذت تبحث عما يمكن أن يكون شكلها الواعي، ليوحدها نظريا، و يؤسسها فلسفيا. وقد استطاعت أن تجد في فلسفة كل من نيتشه وهايدغر ما يمكن أن يكون تأصيلا لحركتها. إلا أن منظري ما بعد الحداثة، على اختلاف مشاربهم، ظلوا متمسكين بالتمييز بين صيغتين متباينتين لما بعد الحداثة: صيغة وصفوها بالصيغة “القوية”، اعتبروا أنها تمثلت في القراءة ما بعد البنيوية لنيتشه، وصيغة نعتت بـ“الرخوة”، اعتبروا أنها انحدرت من القراءة التأويلية لهايدغر. و قد اعتبروا أن الصيغة الأولى صيغة تفكيكية تركز على نقد نظرية المعرفة الخاصة بحركة التنوير، بينما تركز الثانية على إعادة التركيب وعلى محاولة بناء نسق بديل للقيم.
وعلى رغم هذا التباين “المفتعل”، يمكننا أن نرد أسس ما بعد الحداثة إلى نظرة إلى الزمان ومفهوم عن تولد المعنى نجد أسسه في جينيالوجيا نيتشه ونزعته المنظورية التي تبدي نفورا كبيرا من كل نزعة شمولية، وترفض إمكانية استناد المعرفة إلى أية “حكاية كبرى”.
من هنا النقد اللاذع الذي تعرض له مفهوم التمثيل عند هؤلاء، ورفضهم القوي أن تتمكن نظرية بعينها من عكس غنى الواقع، وعدم قبولهم بأن يكون وراء المعرفة ذات إنسانية عقلانية موحدة، ووراء المجتمع قوة موحدة و تماسك يربط أجزاءه. فلا عجب إذن أن تحل مفهومات التعددية والاختلاف والانفصال والتشظي عند هؤلاء محل مفهومات العلية والوحدة والاتصال