أنواع كثيرة من السبق يتقدم بها الخطأ الحقيقة. فالخطأ سابق على الحقيقة في الزمان، لكنه يتقدمها أيضا منطقا وتأسيسا.
أثبت باشلار، الذي يمكن أن ندعوه أيضا فيلسوف الخطأ بلا منازع، بأن الفكر عندما “يتوصل” إلى الحقيقة، فذلك لا يتم بالتطلع إلى أمام، وإنما بـ“النظر” إلى خلف، إنه يتم بمراجعة النفس ومحاسبتها. كل حقيقة هي إعادة نظر في أخطاء. كل تفكير هو انتقاد وتمحيص. فليس النقد جهة من جهات الفكر، ولا هو باب من أبواب البحث، ولا صفة تحمل على الفكر. إنه الفكر ذاته.
إن الفكر لا يكون أمام المعرفة العلمية، حديث النشأة، وإنما شيخا مثقلا بالسن، لأنه يحمل عمرا طويلا من ورائه هو عمر أخطائه. فليس الجهل فراغا وشفافية، إنه كثافة وامتلاء. وهو بنية متماسكة و“نسيج من الأخطاء الإيجابية”. ليس الخطأ مجرد وسوسة وإغواء. و لا داعي لافتراض “شيطان ماكر” يوقع الفكر في أخطاء، ويبعده عن الصواب. إذ أن الخطأ يتمتع بوجود فعلي، بل بصلابة وقدرة جبارة على المقاومة.
على هذا النحو تغدو كل تجربة موضوعية محاولة لتحديد “كيفية تصحيح خطأ ذاتي”، ويصبح إنشاء المعرفة العلمية “إعلان حرب” على البداهات، وتغدو الحقيقة دوما ليس ما يجب اعتناقه، وإنما ما كان ينبغي اعتقاده. فبلوغها لا بد وأن لا بد وأن يتم بعد مجاهدة ونضال، ولا بد وأن يصاحب بنوع من الحسرة ومن “الندم الفكري”