« سألني: ماذا أكتب والحال كما ترى؟»
الحالُ، فعلاً، يا صديقي كما ترى:
ربيعٌ كالخريف، رماديُّ الأفق، راجفُ الأعماق.
غبارٌ في الشمال، دمٌ في الجنوب.
من الشرق ينهض الصبح مطوَّقاً بسلاسل الظلام،
والغربُ حريقٌ يلتهم حطامَ حريق.
وأنتَ لم تشأ الكتابةَ، يوماً، تسكيناً لآلام النهار، أو سلوى من وساوسِ الليل.
شئتَها سداداً لديون اليقظة، وزحزحةً بأظافر الروح لأحجارِ موتكَ اليومي.
لم تلتمس، في ما كتبتَ، اللجوءَ إلى طمأنينة النبع، أو النجاةَ من شِدقِ المَصَب.
حاولتَ دائماً أن تواكبَ السواقيَ النافرةَ من كليهما:
صعوداً إلى الشجر الصادِّ نداءاتِ الهاوية،
وحواراً مع الأصداء المستَتِرة في ضمير الوديان.
لم تأملْ أبداً أن تُهتَفَ كلماتُكَ في ساحة، أو تُنشَدَ في طابور، أو تُراقَ في بلاط.
خارجَ السقف المُظَلِّلِ منصَّةَ الجمع وكواليسَ الذات، أبْعَدَ مِن الفسحة الضيّقة بين ضجيج الواقع وتمتماتِ الغيب، اخترتَ صوتك:
عشبةً في الصخر، لا جوهرةً على التاج.
قنديلاً في الضباب، لا مرآةً للعتمة.
شَرَراً من نيزكٍ شريد، لا كوكباً منظوماً في عنقودِ مَجَرَّة.
تُطَرَّز القصائدُ راياتٍ، تُبْرى المواهبُ حِراباً، ويَنصُبُ كلُّ يقينٍ ـ أوانَ العصفِ ـ متراسَه.. ورايتُكُ منكَ، تُعلي ولا تَعلو.
لونُها ممّا نقشتْه البراعمُ ردّاً على طعنات الصقيع،
نَسيجُها الوعدُ الهاطلُ من ارتطام زمنين،
رفيفُها نبضُ الأجنّة.
يتباهى القاهرون بنثر الصدَقاتِ من فتات ماغَنِموا،
تهرول الذئاب المتخَمة أرتالاً على منحدرات التوبة،
ويتبارى الجلاّدون أيُّهم صارت أقسى وأشدَّ حمرةً، على جبينه الصقيل، سيماءُ السجود..
ونَجواكَ للأعالي كلَّ شروق: ربِّ زِدني ضَعفاً، فلا أخطوَ إلاّ على ظِلّي، ولا أملكَ إلاّ أعماقي، ولا أَغْلِبَ إلاّ ما كُنْتُهُ أمس.
فاكتبْ
مثلما تنشر الريحُ صرخاتِ الغرقى أجراساً من المطر على شبابيك السكوت،
مثلما ينسلُّ الفجر من بين مخالب الليل: نديَّ الخطى، داميَ الجبين،
مثلما يزفر الموج خباياه: غيمةً غيمةً، كاسراً على أسوار اليابسة قيودَ الزبد.
اكتبْ
كأنّ حبركَ يقظةُ الينابيع التي كفَّنها الإسمنت،
كأنّ صوتكَ العرائشُ المضمِّدةُ شروخَ الجدران،
كأنّ يديكَ الجسر الراسخ بين نيران الضفتين.
اكتبْ
شكراً لحوضِ ماءٍ حمى الجذورَ من رماد الصاعقة،
اعتذاراً من الزرع الذي هرسته العجلات،
تحيةً للحفيف المؤنس وحشةَ الأعشاش الخاوية.
اكتبْ:
ولدتُ تحت شمس الحصاد، قُطِعَ حبلُ سرّتي بمنجل، وردّد القطا صرختي بين السنابل الدامية.
وجهي قلعةٌ ارتدّ عنها الغزاة، وانطبعتْ على أدراجها آثارُ السنابك.
وطني ما أوحى به التاريخ، وكتمته الخريطة.
غدي النصُّ الجارفُ كلَّ علامات الترقيم.
اكتبْ:
عائلتي: أبٌ يغطّي النائمينَ مثلما تُسدَل الأجفان على البؤبؤ، وأبناءٌ يزيحون الغطاء مثلما يُركَل القيد.
بيتي: صمتٌ لَقَّنني لهفةَ الصخر إلى إزميل النحّات، نوافذُ قرأتُ فيها ما تضيفه الجراح إلى الجسد، سقفٌ رأيت تحته كيف تصدُّ أضلاعُ النور رُكَبَ الظلام.
اكتبْ:
لا أصلّي كما يسجد الغصنُ للعاصفهْ،
لا أُؤَمِّلُ مِن تمتماتيَ في العتم أيَّ لَهَبْ.
باطنيْ بذرةٌ تتفتَّح في تربةٍ ناشفهْ،
وجبيني، إذا خَرَّ، نبعٌ يسائل: أين المَصَبْ؟
اكتبْ:
ما زال بين أصابعي صخبٌ ونارْ،
من دفقِ نهرٍ صار ذكرى.
في الصبح: أبخرةُ الحنينِ على شبابيك القطارْ،
في الليل: تمزيقُ الهواءِ بأذرعِ الغرقى.
اكتب.
إذا شَكَّلَ الغيمُ سربَ نوارس، ثِقْ بأنّ البحرَ قريب.
إذا أغمضت نوافيرُ الحديقة، تَنَزَّهْ مع الجذور.
إذا اعترتكَ في فجرٍ ماطرٍ حُمّى، تَهَيّأْ لنيرانِ قصيدة.
اكتبْ.
السلام لمن إذا قرأوك، سمعوا صفيرَ قطاراتٍ بعيدة،
السلام لمن لم يقرأوك، لأنهم لم يولدوا بعد.