حسين فريــق العــمـل
الجنس : عدد المساهمات : 473 معدل التفوق : 1303 السٌّمعَة : 20 تاريخ التسجيل : 18/12/2011
| | نجيب محفوظ ونحن (في المغرب) الأحد 4 آذار (مارس) 2007 بقلم: أحمد المديني | |
شكّل رحيل أبي الرواية العربية نجيب محفوظ حدثا ثقافيا في مجموع البلاد العربية، بتعداد مناقب الفقيد، وإبراز الدورالرائد الذي كان له في ترسيخ الفن الروائي، وجعل التخييل السردي جنساً أدبياً رصيناً وقارّاً في الأدب العربي الحديث، والمعاصر. ليس هذا وحسب، بل لتنطلق الأقلام والأوساط الأدبية، هنا وهناك، وفي المحافل المتخصصة من هيئات وجامعات لتسائل من جديد فن الرواية، وتعيد طرح أسئلة قديمة ومستحدثة همّت محفوظ زمناً، وبدت لبعضٍ أحياناً متبالية فيما لم تُقتل درسا وتمحيصا على الوجه الصحيح. وإذا كانت البيئات الأدبية في المشرق العربي، وفي مصر خاصة، قد خصّت غياب العَلَم الروائي العربي الأول بطقوس مبجلة من الرثاء والتمجيد، وبالتعيين لمكونات التجربة المحفوظية وخصوصياتها الدلالية والفنية في جملة مقالات، بقيت على الأغلب انطباعية أو وصفية، فإن نظيراتها المغاربية شملت الحدث بأجلّ الإهتمام، إعلاميا أولا، ثم نقديا ووفق متطلبات الدرس الأكاديمي القويم. تجلى هذا مما كُتب في جل المنابر الإعلامية، أو في جلسات وحلقات دراسية نظمتها الجمعيات الأدبية، والكليات المختصة. نخص بالذكرمنها واحدة بارزة أقامتها شعبة اللغة العربية وآدابها في كلية الآداب والعلوم الإنسانية، بجامعة محمد الخامس بالرباط،(16 نوفمبر المنصرم)، تبعا للمحاور التالية: تجربة نجيب محفوظ: اللغة والشكل؛ تجربة ن.م: السرد والمتخيل؛ تجربة ن.م السينمائية: الكتابة والتلقي. وكانت كلها من تقديم ومناقشة أساتذة الشعبة والطلبة الباحيثن في الدراسات العليا. المشرق والمغرب العربيان أفاضا في توصيف هذه التجربة، ورصد مجمل ملامحها. اعتمد الدارسون في ذلك مقاربات مختلفة ومناهج شتى لإضاءتها،وكذا في فهم وتأويل رؤاها وأبعادها إلى الحد الذي تشكلت أمامنا عوالم بلا حصر، روائية وإنسانية، لكاتب واحد. وفي هذا يلتقي الجميع في بؤرة واحدة، لاعتبار عملاق الرواية العربية مرآةً تنعكس عليها كل التجارب السردية التخييلية العربية، الحديثة طبعا، ومحرارا تقاس به درجة نجاح أو إخفاق كل ما اجترحه الروائيون العرب، بأجيالهم وطرائق كتاباتهم المتباينة في باب الكتابة السردية. مرجع ذلك، في زعمنا، إلى أن نجيب محفوظ قطع بمفرده تقريبا أشواطا عديدة في سباق مسافات طويلة، كان وحده يضع له خطه ونفَسَه وقواعد الإشتراك والفوز فيه، مذ روايته الأبكر“عبث الأقدار”(1939) إلى“قشتمر”(1989) إن شئنا.وهو فوق هذا تمثل وحذق واجترأ على أساليب متنوعة في القص، وعرف كيف يستقل بعالم اذّخر فيه وجدان الناس ورؤية العالم، فتوفر،إذن، على ما يحتاج إليه الروائي الفذ، شأن ُبناة الرواية الكبار المعلومين، ما لم يتوفر لغيره من أدباء العربية، أو بقدر نسبي، حتى صار بوسعنا أن نتحدث اليوم عن نهجين سلكتهما الرواية العربية: واحد يختصره صاحب الثلاثية ويتبجّل به وحده، وثانٍ ينخرط فيه بدرجات متفاوتة أضراب له وغرماء، فضلا عن الاقتراحات التجريبة المتأخرة وما شابه. من الرعيل الثاني، نحن في المغرب الأقصى الذين تتلمذنا، شأن المتأدبين العرب جميعا، على التراث المحفوظي، أو إننا ندعي ذلك كما يدعيه غيرنا، في مقولة لشدّ ما تحتاج وحدها إلى فحص طويل ودقيق. وهذا ما أريد الإنتقال إليه ملامسا في هذه الورقة، بعيدا عن التخصيص الذي أفضنا فيه بكليتنا بالرباط للمناسبة المذكورة، منطلقا من زاويتين: زمن التلقي الأدبي، وثقافته. ففي الزاوية الأولى نشير إلى أن الأب نجيب محفوظ كان قد أكمل جماليا ورؤيويا أكبر ما يمثل مشروعه الروائي المديد بصدور روايته “ميرمار”(1967)، وجاءت الأعمال الأخرى، في تقديرنا، تنويعات على مواضيع وأساليب مطروقة. في سنة النكسة الشهيرة تلك لم نكن في أدبنا المغربي الحديث نملك إلا رواية يتيمة (أعني هنا التعبير العربي وحده) نتحدث عن الرواية بمعناها الأجناسي الصحيح، هي“دفنا الماضي” للأستاذ عبد الكريم غلاب الصادرة سنة 1966، والتي يوجد من يغمز من قناة صاحبها بسبب خطاطة الأجيال وصيرورة القيم المتقاربة بين النص المغربي ومتن الثلاثية الأب. فمما لا شك فيه أن محفوظ برز تحديا مثيرا لجيل الأدباء المغاربة الذين اقتحموا حقل الرواية،وهم رغم كل شيء قلة، وريادته أفادت كثيرا فطبعت بميسمها، كما بلبلت أعمالا أخرى وُسُبل كشف محتملة. ومن زاوية ثقافة التلقي بوسعنا الآن أن نسجل، وقد أصبح الزمن يسعفنا في لذلك، بأن نهاية المسار الروائي المحفوظي، كما قدرناه، تقاطع مع بداية،لا أقول التلقي السردي، الذي يفترض النضج وصنع النسق الخاص، وإنما بداية التعلم( L’apprentissage) للآداب الحديثة في الجامعة المغربية الفتية آنئذ. وإذ لم تكن المناهج الدراسية في أسلاك التعليم السابقة تتوفر إلا على النزر اليسير من نصوص مبعثرة للمحدثين، فإن كلية الآداب الوحيدة لزماننا، نحن الستينيين، لم يشغل فيها الأدب الحديث عامة، والفن السردي خاصة، سوى ما فضل من وقت عن مواد ومتون الثقافة الأدبية واللغوية التراثية، وبتقاليد مختصرة ومبتسرة لا تسمن ولا... إنني أزن كلامي جيدا، وأحب أن يقع حسنا في الأسماع، لأني أتحدث عن تجربة، عن زمن معيش،لا مؤرخا أو مصنّفا. فاقتضى الأمر تعلم الأدب الحديث بعصامية استثنائية لمعاينة مضاربه، والاتصال بأعلامه ونصوصه المؤسسة، ومنها النص السردي المحفوظي، بداهة. لقد شكّل هذا النص لوحا للقراءة والكتابة والمحو مرات، للجيل الأدبي في المغرب، بدءا من العقد الستيني، سواء بالانكباب عليه أو حتى بالسهو عنه بغية تجاوزه (كما هو الشأن عند القاص والروائي الراحل محمد زفزاف)،وأضحى، على مراحل،بعد اعتماده مصدر تعلم، تلك المرآة التي نلتفت إليها،إما قصدا،أو اعتباطا لنقيس قاماتنا -نصوصناـ فنتعرف ضمنا أو وهما على الشوط الذي قطعناه في طريق، إذ نراه أمامنا، بات إلى الخلف لدى صاحبه.. فيا لها من مفارقة، وإن دالة! ونظن أنه حال يخص المغرب بقدر ما ينسحب على عديد بيئات أدبية عربية، في قلبها البيئة المغاربية في شقها العربي المبين. وفي محيط سوسيو ثقافي مأخوذ في موج التعلم والتوتر الإجتماعي المضطرمين، كما في عصف التيارات الفكرية والإبداعية، قادمة من كل اتجاه، بلا مقدرة ناضجة على التلقي المنتخِب والمنتج. لعل النص المحفوظي كان المحطةَ الوحيدةَ التي تلتقي فيها الأذواق، ومن مائدتها تشحذ المواهب، وأدقها، وأرهفها في الأدب المغربي ما خص القصة القصيرة صاحبة الحصة الأوفر والأوزن بين أجناس الأدب الحديث عندنا، ولصاحب “خمارة القط الأسود” باع طويل فيها. على أني أميل، بعد هذا وذاك، إلى اعتبار انشدادنا إلى التراث المحفوظي مقترنا جوهرا ببحثنا الدؤوب عن أفضل الطرائق الفنية، وأنجع الوسائط والتصورات، وأوسع التمثيلات وأذكى التلميحات لرسم واقعنا الاجتماعي الوليد لما بعد مرحلة الاستعمار، بصوغه، “إعادة إنتاجه” بالتعبير الماركسي الفج، وتخليقه في نصوص سردية تقول الواقع والمحتمل، وتنتقده، وتبشر بالآتي، وتحلق بأجنحة التخييل. ... كانت الواقعية، بمفهومها الناضج لا الاستنساخي هي المطلب والأداة لفئات جديدة كي تبلغ صوتها. ونجيب محفوظ هنا هو المعلم بلا منازع. | |
|