“في القيروان، إلى الجنوب من تونس، قفز عليّ كلب قبيلي أصفر وعضّني (وهذه، في حياتي كلّها، هي المرّة الأولى التي يكون فيها سلوك الكلاب غير مجرّد من المغزى)، الأمر الذي جعلني أعترف أنّ الكلب كان على حقّ. لقد عبّر ببساطة، وعلى طريقته، أنني كنت في الموقع الخطأ، في كلّ شيء”.
هذا مقطع من رسالة كتبها الشاعر النمساوي الألماني اللغة راينر ماريا ريلكه (1875ـ 1926) إلى صديقته لو أندرياس ـ سالوميه، بتاريخ 16 آذار (مارس) 1912، وتُعدّ واحدة من البرهات النادرة التي يسترجع فيها الشاعر الألماني تفاصيل رحلته إلى الجزائر وتونس ومصر، خريف سنتَيْ 1910 ـ 1911. هي أيضاً، وعلى نحو أكثر دلالة وأهمية، واحدة من النصوص القليلة النادرة التي تشير إلى نوعية ما حمله من انطباعات إثر رحلة الشرق تلك، وهي الانطباعات التي لن يكون لها أيّ تأثير ملموس في شعره اللاحق، كما ينبغي الاعتراف.
المسيح في القيروان
وكتّاب سيرة ريلكه ــ وبينهم رالف فريدمان صاحب “حياة شاعر: راينر ماريا ريلكه”، الذي صدر في نيويورك سنة 1996، ويُعدّ بين أفضل الأعمال التي حاولت تحقيق وظيفتَين شاقّتَين في آن معاً: كتابة سيرة الشاعر الحياتية، وكتابة سيرته الشعرية أيضاً ــ لا يملكون أيّ مؤشّرات قاطعة حول الدافع، أو الدوافع، التي جعلته يقوم بتلك الرحلة المفاجئة واليتيمة. لكننا نعرف أنه كان يعيش أزمة كتابة، أو احتباس كتابة في الواقع، بعد أن أصابه العمل على واحد من أفضل آثاره، “هوامش مالته لوريدز بريغه”، بالإنهاك الشديد. ونعرف أيضاً أنّ رحلة صديقه النحّات الفرنسي أوغست رودان إلى مصر، سنة 1907، حرّكت أشواق ريلكه إلى القيام بتجربة مماثلة. ونعرف أخيراً أنّ زوجته كلارا بعثت إليه بنسخة من ترجمة “ألف ليلة وليلة”، فشدّته مناخاتها الشرقية.
وهكذا، في 19 تشرين الثاني (نوفمبر) سنة 1910، وبفضل منحة مالية من جيني أولتيرسدورف، وهي امرأة ثرية متزوجة من تاجر فراء، غادر ريلكه ميناء مرسيليا الفرنسي متوجهاً إلى شمال أفريقيا ومصر، أو إلى الشرق، حيث ينبغي توسيع الحلم كما سيقول بعدئذ. ولأنه كان يعاني من احتباس الشعر، فقد قرّر أنّ رحلة إلى الشرق يمكن أن تكون العلاج الذي يعيد الحيوية إلى نفسه المضطربة من جانب أوّل، ويمكن من جانب ثانٍ أن تكون وثبة روحية نحو المجهول الفاتن الذي أخذ الشرق يمثّله في وجدانه.
وفي كلّ حال، كان ريلكه على يقين، غامض تماماً في الواقع، من أنّ استكشاف الشرق سوف يشكّل نقلة نوعية في حياته الشخصية والإبداعية على حدّ سواء. وهكذا، كتب إلى الروائي الفرنسي أندريه جيد، بحماس بالغ وروحيّة ترقّب غير مألوفة لديه، يرجوه النصح والإرشاد والعون في تنفيذ مغامرته الشرقية تلك. جِيد لم يكن أقلّ حماساً، وكتب إلى ريلكه يقول إنه يحسده على رحلة كهذه. كذلك راسل ريلكه عدداً من أصدقائه الأثرياء، طالباً مَدّه بالدعم المالي، ومشدّداً على أهمية هذه الرحلة في الطور الراهن من حياته الروحية والإبداعية والفكرية.
والرحلة، كما سوف يتضح بعدئذ، رفعت الكثير من معنوياته الهابطة وأعادت إليه توقه الدائم للملذّات وللحياة إجمالاً. لكنها عملياً لم تحرّك فيه شهوة الكتابة، وبدا وكأنها لم تكن في نهاية الأمر أكثر من فصل استيهامي آخر بين الفصول الإيروتيكية التي استهوته في “ألف ليلة وليلة”. وزاد في هذه الحال أنّ الرحلة انطوت على علاقة غرامية ملتهبة لن يكشف النقاب عن تفاصيلها أبداً، ما خلا حديثه الغامض ــ بعد خمس عشرة سنة ــ عن “حزمة رسائل من صديقة غامضة”، اضطرّ إلى إحراقها بعد أن أرعبه “ما تحتويه سطورها من نيران الشبق العارم”.
وفي الجزائر، كما سيكتب إلى أندريه جيد، صعقه “الواقع المادّي الحاضر دائماً بشكل جديد ولانهائي”، رغم أنه جال في البلد وهو يعاني ــ مثل أيّ سائح أوروبي في الحقيقة ــ من قصور رؤية البلد على حقيقته. وبالطبع لن يكون ريلكه أفضل حالاً من ألبير كامو، فرأى في الجزائر أرضاً فرنسية أوّلاً، ثم بحث في أزقّتها وشوارعها وبيوتها عن مناخات “ألف ليلة وليلة”: عن الحمّالين، والشحاذين، والسحرة، والنساء الشبقات.
ثمّ غادر الجزائر إلي تونس، فمرّ على خرائب قرطاج قبل أن يصل إلى العاصمة. ولقد لاحت له تونس أكثر أمانة لمناخات “ألف ليلة وليلة” من الجزائر، بل اعتبر أنها شرقية حقاً... هو الذي لم يعرف الشرق إلا من خلال غوستاف فلوبير وجيرار دو نرفال وحكايات شهرزاد! وفي رسالة إلى زوجته كلارا، وعلى سبيل وصف انطباعاته عن مدينة القيروان الإسلامية العريقة، كتب يقول:
“في الأسواق تقع أحياناً برهة خاطفة يستطيع فيها المرء أنّ يتخيل عيد ميلاد المسيح: المنصّات الصغيرة ممتلئة بأشياء ملوّنة، والأقمشة وافرة ومدهشة، والذهب يلمع جذّاباً، وكأنّ المرء سوف يتلقّاه هديّة غداً. وحين يحلّ الليل، وبعيداً عن هذا كلّه، يضيء مصباح واحد ويتمايل، مهتاجاً بحضور كلّ شيء يقع عليه الضوء، عندها فإنّ ألف ليلة وليلة تحوّل كلّ ما اعتقد المرء أنه أمل ورغبة وإثارة، ويصبح عيد الميلاد غير عصيّ على المخيّلة في نهاية الأمر”.
Image
القيروان، رسم من الحقبة الاستعمارية
ومن الواضح تماماً أنّ ريلكه لم يبذل أيّ جهد للنظر إلى أجواء الأسواق بما هي عليه، وبما يمكن أن توحي به لمخيّلة لامعة ونشطة ومرهفة، قادرة على التوغّل العميق في باطن الأشياء قبل ظاهرها. المشهد، بذلك، لا يتأسس اعتماداً على معطياته البصرية الخاصّة به، وإنما على الصُوَر التي يستعيدها ريلكه من باطن التنميطات المستقرّة في وعيه الغربي، ومن العمل الوحيد الذي يشكّل دليله إلى الشرق: “ألف ليلة وليلة”. من المدهش، أيضاً، أنّ السوق يبدو طافحاً بالأشياء المادية (وخصوصاً الذهب، الذي يتوق ريلكه إلى امتلاكه!)، ولكنه يظلّ خالياً تماماً من العناصر الإنسانية، الأمر الذي يدهشنا حقاً إذْ يصدر عن شاعر خاض طويلاً وعميقاً في غمار النفس البشرية. ويبقى أنّ استذكار عيد الميلاد في هذه الأرض الإسلامية لا يخلو من دلالة مسيحية صرفة، خصوصاً وأنّ ريلكه كان في ذلك الطور من حياته ما يزال متأثراً بالأجواء الصوفية ـ المسيحية التي دفعته إلى كتابة سلسلة قصائد “رؤى المسيح”.
ممالك الموتى
في رسالة أخرى تتكرّر، أكثر من ذي قبل، مناخات “ألف ليلة وليلة”، وصورة الشرق الغارق في الماضي وحده، المقيم في كنف الأموات والأوابد الصامتة، حيث الأمس هو اليوم، والمدينة مملكة. ودون أيّة محاولة للاقتراب العميق، أو حتى السطحي، من الثراء الإنساني والتاريخي والمعماري لمدينة مثل القيروان، يقول ريلكه:
“تماماً مثل رؤيا، تنبسط هذه المدينة المسطحة البيضاء في أسوارها ذات الشرفات المُفَرّجة، ولا شيء فيها سوى السهل والقبور المحيطة به، وكأنها محتلّة من موتاها، الذين يرقدون هنا وهناك خارج الجدران، ولا تكفّ أعدادهم عن الازدياد. وهنا يدرك المرء، على نحو مبهج، حياة هذه المنطقة وبساطتها، والنبيّ فيها كأنه كان هنا بالأمس، والمدينة مُلْكه وكأنها مملكة”.
ومن المدهش أنّ فولفغانغ ليبمان، أحد كتّاب سيرة ريلكه، رأى في هذا المقطع دليلاً على افتتان الشاعر الألماني بالعالم الإسلامي، الأمر الذي تعلّق عليه الباحثة الأمريكية الشابة ليزا غيتس قائلة: “ما يفشل ليبمان في الانتباه إليه هو تكوين ريلكه الخاصّ لهذا العالم. ولا ريب أنّ ما فتن ريلكه لم يكن حياة العالم الإسلامي بل عمارة المدينة ومعالمها التي تذكّر بمجد الشرق الغابر ــ وهو المجد الذي تكرّر إنشاؤه في المخيّلة الشعرية الغربية، المخيّلة ذاتها التي تربّت في كنف خطاب الاستشراق”. وكانت الألمانية آنماري شيميل قد تبنّت الرأي ذاته، الذي لا يبدو مدهشاً من غربية اعتنقت الإسلام دون أن تتخلّص تماماً من رواسب التربية والتنميطات الاستشراقية التقليدية.
في مقابل هذا الفشل الإبداعي الذي أسفرت عنه رحلة ريلكه الوحيدة إلى الشرق (إذْ أنّ مصر وتونس والجزائر لم تفلح في حثّ ريلكه على كتابة قصيدة واحدة تستلهم معطيات هذه الأرض الحضارية!)، كان الشاعر النمساوي ـ الألماني قد حقّق نجاحاً مذهلاً في رحلة أخرى استهدفت “توسيع مداركه البصرية”، و“تنشيط مخيّلته”، ونقله إلى “مناخات حسّية مختلفة”: رحلته إلى... حديقة حيوانات باريس!
وكان رودان قد نصح ريلكه بالقيام بهذه الرحلة إلى الـ Jardin des Plantes، وهي حديقة حيوانات ونباتات أيضاً، لأنّ “الكتابة مشاهدة، ومشاهدة دائمة”، ولأنّ شاعراً مثل ريلكه يحتاج إلى رؤية الأشياء في ظاهرها السطحي قبل أن يتمكّن من الغوص في وجودها الداخلي العميق. وبالفعل، أسفرت تلك الرحلة عن سلسلة قصائد تعرف باسم “قصائد الحيوانات” و“قصائد الأشياء”، بينها مثلاً ثلاث شهيرة: “النمر”، و“طيور البشروش”، و“الغزلان”.
وفي وصف إحدى هذه الزيارات يقول ريلكه:
“البارحة صرفت فترة الصباح كلّها في حديقة الحيوانات، أراقب الغزلان. غزلان من نوع Gazella Dorcas. هنالك زوج وواحدة منفردة. كانت تستلقي في العشب على مبعدة خطوة من بعضها البعض، تجترّ، وتستريح، وتراقب. وكما تطلّ النساء من الصُوَر كانت الغزلان، بدورها، تطلّ من شيء ما لا صوت له، من تدوير ختامي للرأس. وحين صهل حصان أصغى أحد الغزلان، وأبصرت إكليل الأذنين والقرنين حول رأسه النحيل. ورأيت غزالة أخرى تنهض لوهلة خاطفة، ثم تستلقي من جديد بعد ذلك. ولكن بينما كانت تتمطّى وتختبر مفاتنها تمكنت من رؤية التكوين البديع للساقين. كانا مثل فوّهتَي بندقية جاهزتَين لإطلاق النار”.
وللغزلان، لا ريب، دلالات شرقية في الوعي الغربي المتوارث، لا يقلّ بعضها رسوخاً عن دلالات الجمل. وأن تفلح غزلان في استثارة ريلكه (والمقطع السابق جزء من نصّ طويل بالطبع)، بل ودفعه إلى كتابة واحدة من أجمل سونيتاته، أمر يجعلنا نتساءل حقاً عن السبب أو الأسباب التي حالت بين ريلكه واستلهام الشرق الحقيقي، في أرض الشرق مباشرة؟ فهل يعقل أنّ حديقة حيوانات قادرة على إهاجة الشعر في نفس أعظم شعراء اللغة الألمانية بعد غوته، في حين أنّ الحضارة المصرية بأسرها ــ فضلاً عن الجزائر وتونس ــ عجزت عن إلهامه قصيدة واحدة؟
غير أنّ هذه العطالة المذهلة في رؤية الآخر (وأقصد مفهوم الرؤية بالمعنى البصري ـ الفيزيائي البسيط، قبل المعاني الأخرى الثقافية والإنسانية والشعرية والميتافيزيقية!)، لم تكن سوى واحدة من سلسلة خصال إبداعية وسلوكية أخرى مثيرة للعجب في شخصية ريلكه. وحين راجع مايكل ديردا، المحرّر الأدبي لصحيفة “واشنطن بوست” الأمريكية“كتاب رالف فريدمان الذي سبقت الإشارة إليه،”حياة شاعر: راينر ماريا ريلكه“، بدأ بمقدّمة طريفة قال فيها:”من الخير لأي متحمس معجب بالشاعر الألماني راينر ماريا ريلكه أن يتفادى قراءة هذه السيرة الضخمة والمفصلة والدقيقة"!
قيثارة عوليسية.. انتهازية
أسباب ديردا لم تكن غير وجيهة في الواقع. ذلك لأنه في رأس مفارقات صاحب “مراثي دوينو” و“سونيتات أورفيوس” أنه اعتُبر على الدوام قدّيس الفنّ الحديث، والرجل الذي أقام “وحيداً في عزلة الروح التامة”، وجعل من نفسه “قيثارة عوليسية حساسة لرياح الشعر المتقلبة”. ولكن ريلكه كان أيضاً رجلاً فظاً غليظ القلب مع الآخرين ومع نفسه، وكان يتقرّب على نحو انتهازي مبتذل من الأغنياء الأرستقراطيين.
وهذا الشاعر الغائر العينين، المتآلف مع الملائكة وآلهة الإغريق والموت، لم يكن أنانياً متحذلقاً فحسب، بل كان جباناً، ومختلّ النفس، وبَكّاءً مغناجاً. كان ابناً رفض مجالسة أبيه الراقد على فراش الاحتضار، وزوجاً استغلّ زوجته ثم هجرها، وأباً بالكاد وقعت عيناه على ابنته، فضلاً عن أنه سرق بعض مدّخراتها المالية المخصصة للدراسة كي ينفقها على فنادقه الفارهة. كان زير نساء مع زوجات أصدقائه، وسمير عاهرات برتبة مثقف مدلّل، والصورة المضحكة عن الفنان الفاقد للروح والمؤمن بتفوّقه على البشر العاديين بسبب من حساسيته المفرطة، والذي يرى نفسه “برعماً رقيقاً تخدشه نسمة عابرة أو لفحة صقيع مباغتة”.
وإذ لا يهادن رالف فريدمان في كشف النقاب عن خفايا حياة ريلكه، فإن الحصيلة الختامية لهذه السيرة الحياتية والشعرية لا تدفع القارىء إلى التعاطف مع ريلكه إزاء الشروط الاستثنائية القاسية المضطربة التي شهدها فحسب، بل تسهم أكثر فأكثر في تعزيز خلفية المعاناة الإنسانية القصوى التي أسفرت عن تفجير تجربة شعرية هي واحدة من كبريات التجارب الشعرية في القرن العشرين بأسره. طفولة تعسة منشطرة بدأت منذ الولادة حين ألبسته أمّه ثياب الفتيات واختارت له اسماً مؤنثاً هو رينيه ماريا، ظلّ لصيقاً به حتى سنّ الثانية والعشرين حين أقنعته لوي ـ أندرياس سالومي بتبديله إلى اسم ذي وقع ألماني صريح: راينر ماريا. بعدها عاش ريلكه خمس سنوات من الإقامة الداخلية في كليّة عسكرية حفرت أخاديد عميقة في نفسه، وطوّرت إحساسه بالعزلة والوحشة. ولكنّ هذه التجارب الأولى كانت وراء اكتسابه حساسية مفرطة تجاه الأشياء، يشوبها توق مبكّر إلى الالتحام الصوفي بالكون، وموهبة صاعقة في التقاط الأوزان الشعرية وإعادة تركيبها على نحو غير مألوف، واستنباط القوافي المفاجئة، والصور التشكيلية.
وعلى صعيد حياة ريلكه، ثمة هنا ثلاثة فروع أساسية: إصداراته الشعرية التي بدأت من مجموعته الأولى “حياة وأغنيات” عام 1894، وانتهت بالقصائد الفرنسية التي كتبها قبل ستة أشهر من وفاته(*)؛ وزيجاته وعلاقاته وصداقاته، النسائية بصفة خاصة، والتي كان يحسن استغلالها للحصول على الأموال، والمزيد من الأموال؛ وأخيراً أسفاره الكثيرة، وكانت بينها تلك الزيارة الفريدة إلى قلعة دوينو قرب مدينة ترييست، والتي شهدت ولادة “مراثي دوينو”، كما شهدت الحادثة العجيبة الشهيرة حين جرحته أشواك وردته المفضّلة وأُصيب باللوكيميا.
وفي هذه الفروع الثلاثة أربع محطات حاسمة: سنوات التتلمذ بين 1875 و1902؛ وسنوات النضج التي تمتد حتى العام 1912 وتتضمن الدراسة على يد رودان وكتابة هوامش “مالته لوريدز بريغه” و“قصائد جديدة” و“قدّاس من أجل امرأة صديقة” ومراثي دوينو الثلاث الأولى؛ وسنوات الأزمة بين 1912 و1922 حين وصف نفسه بـ “الواقف الواجم مثل مبتدىء، ولكن مثــل مبتدىء لا يبدأ أي شيء”؛ وأخيـراً سنوات الأوج بين 1921 و1926 حين استكمل المراثي، وكتب 55 سونيتة إلى أورفيوس.
متوّجٌ بالأحلام، كما يقول عنوان إحدى مجموعاته، وهكذا ظلّ منذ طفولته وعلى امتداد سنوات حياته القصيرة. ولعلّ أبلغ اختصار لموهبته المبكرة ما قاله الروائي النمساوي روبرت موزيل في عام 1927: “المرء يشعر أحياناً أن ريلكه الشاب لم يكن يحاكي أحداً سوى ريلكه، أعظم شاعر غنــــائي عرفته اللغة الألمانية منذ العصور الوسطى”. آنذاك، اعترض برتولت بريخت بشدّة على هذه المبالغة، وكانت لديه أسباب جوهرية لم تكن أقلّ وجاهة من ذلك السبب الغامض الذي جعل الكلب القبيلي الأصفر يعضّ شاعر الوردة في القيروان، و“كان على حقّ” كما اعترف ريلكه نفسه!
—
(*) الشاعر والباحث والمترجم العراقي الصديق كاظم جهاد، واستكمالاً لترجماته المتميزة التي لا تبدأ من أشعار أرتور رامبو ولا تنتهي عند “الكوميديا الإلهية”، مروراً بعدد من أعمال جاك دريدا الشاقة، أصدر مؤخراً ترجمة بديعة لأشعار ريلكه الفرنسية (دار الجمل، كولونيا ـ بغداد، 408 صفحات). ولنا عند هذا الإنجاز وقفة خاصة قريبة.