سمير ثـــــــــــــــائر متردد
الجنس : عدد المساهمات : 5 معدل التفوق : 13 السٌّمعَة : 20 تاريخ التسجيل : 19/03/2012
| | الوجود بين الوحدة والاختلاف في فلسفة سبينوزا | |
الوجود بين الوحدة والاختلاف في فلسفة سبينوزا أحمد العلمي مما لا شك فيه أن الفلسفة المعاصرة قد أضفت على مفهوم الوجود بعدًا أساسيًا. وأصبح الوجود بذلك هو المفهوم الرئيس في الفلسفة. وفعلا، فقد منحَ هايدجر، بربطه بين الوجود والزمن، بعدًا خلاَّقًا للأونطولوجيا، موقظًا بذلك الفلسفة من سباتها الميتافيزيقي العميق لكي تعود إلى حظيرة التفكير في الوجود. وعمل دولوز، من جهته، على ربط الوجود بالاختلاف وبالتكرار وبالصيرورة، فأصبح الوجود إبداعًا وخلقًا وبناءً للمفاهيم الجديدة، مفاهيم تفجر قوة الفكر وقوة الحياة. ويشكل هذا الرجوع لمفهوم الوجود دفعًا للفلسفة وللتفكير الفلسفي، مثلما أنه يمثل ربطًا لحاضر الفلسفة بماضيها الأونطولوجي. وكأن الفلسفة قد بدأت مع ماقبل السقراطيين، مع هيراقليطس وبارمنيدس، بالتفكير في الوجود لتعود ثانية، في الفلسفة المعاصرة، لتعطيَ الوجود حضورًا متميزًا. غير أن أصل هذا العود لإشكالية الوجود ليس وليد الفلسفة المعاصرة، بل يرجع الفضل فيه، حسب المختصين1، إلى الفلسفة السبينوزية. فهي التي أعطت الوجود، في عمق فلسفة القرن السابع عشر، قوة ونفسًا جديدين كانا قد خفتا عندما انهممت الفلسفة بقضايا يعود أصلها إلى قوى متعالية. وبالفعل، فقد جسدت الفلسفة السبينوزية عودًا مظفرًا لمبحث الوجود. فأهم ملامح أصالة كتاب "الإتيقا" تكمن بالأساس في إعطائه مشكل الوجود، مفهوم الوجود، دورًا أساسيًا في بنائه الفلسفي. وقد بينت دراسات دولوز أن كتاب "الإيتيقا" قد أسس أونطولوجيا أصيلة وخلاقة، أونطولوجيا تجاوزت التصورات اللاهوتية، بل تجاوزت كذلك التصورات الميتافيزيقية،كالفلسفة الديكارتية. ولن يكون بعيدًا عن الصواب الإقرار بأن التصور الأونطولوجي السبينوزي هو المؤسس الفعلي للحداثة الأونطولوجية الراهنة. حقيقة أن كتاب "الإيتيقا" يتحدث عن الجوهر الفرد الذي ينطوي على ما لا نهاية له من الصفات والأحوال، وحقيقة أن سبينوزا قد سمى كتابه الأول، في الله، غير أن ذلك كله لا يعني أنه قد ظل وفيًا للتقاليد القروسطية المعروفة. فمقصود سبينوزا عند حديثه عن الجوهر وعن الله هو الوجود. فالله، أو الوجود، أو الجوهر تعبيرات عن معبر عنه واحد، وتسميات لمسمى واحد. بل إن سبينوزا استعمل المفاهيم التقليدية، كمفهوم الجوهر ومفهوم الله ومفهوم الصفة، لضمنها بمعنى أونطولوجي لم تعهـده الفلسفة من قبل. والواقع أن تعامل سبينوزا مع مسألة الإبداع الفلسفي قد اتخذ مسارًا متميزًا، ويقوم بالخصوص على إفراغ المفاهيم المتداولة من أجل شحنها بمعنى جديد كل الجدة. فبعدما كان مفهوم الله ومفهوم الجوهر، وهما المفهومان الأكثر تداولا منذ أرسطو والفكر الديني، يحملان أبعادًا لا تَفِي بمطامح الأونطولوجيا وَمتطلباتها، أصبحت، مع سبينوزا، تعبر عن الطموح الأونطولوجي المحض. أصبح مفهوم الجوهر، بل أصبح مفهوم الله، ينطوي على كل الصفات وعلى كل الأحوال، وأصبح علة محايثة للكل وعلة قريبة للكل. لقد أصبح مفهوم الجوهر أو مفهوم الله، بعدما كان عُربون التعالي المجسد للفكر الميتافيزيقي وللفكر اللاهوتي، شرطًا أساسيًا لتأسيس الأونطولوجيا. أصبح مفهوم الله محايثًا لكل الصفات المؤسِّسَة لماهيته. لذلك فالخصائص التي أسندها سبينوزا لمفهوم الجوهر أو لمفهوم الله هي خصائص تجعل كل واحد منهما هو التعبير الصريح عن الهدف الأونطولوجي، وعن الطموح الوجودي. لذلك فافتتاح سبينوزا لكتابه بجزء عن الله هو في حقيقته افتتاح بمفهوم الوجود. مثلما أن إقراره بجوهر واحد لكل الصفات معناه أن الوجودَ فرد، مع أنه ينطوي على كل الصفات والأحوال. هكذا حقق سبينوزا قلبًا للتصوات اللاهوتية والميتافيزيقية باستعمال مفاهيمها ومصطلحاتها مؤسسًا بذلك أونطولوجيا تعطي لمفهوم الوجود البعد الذي يستحقه. تهدف هذه المقالة إلى رسم معالم هذه الثورة الأونطولوجية التي أحدثها سبينوزا. غير أنه سيكون من الضروري، من أجل إدراك هذا الإسهام الكبير لكتاب "الإتيقا"، تقديم صورة عن البحث الأونطولوجي قبل الفلسفة السبينوزية، وعن المفاهيم التي كانت سائدة آنذاك. الفلسفة ومفهوم الوجود الواقع أن الفلسفة قد بحثت منذ البداية في مفهوم الوجود. حقيقة أن هذا التفكير قد اتخذ وساطات متعددة ومتنوعة، غير أنها لم تكن إلا الوسيلة المفهومية الممكنة آنذاك للاقتراب من مفهوم الوجود. وبالفعل فقد عملت الفلسفة الطبيعية عند ماقبل السقراطية وسعها من أجل بناء تصور فلسفي أصيل قائم على وحدة العنصر الطبيعي أو على العناصر الطبيعية. فعندما قال طاليس "الماء أصل كل شيء"، فإنه كان يَرزَحُ تحت وطأة البحث عن الأصل الذي كان هو المحرك الأساسي للأسطورة وللدين، وحقيقة كذلك أنه أعطى العنصر الطبيعي، الذي هو الماء، قيمة أساسية تجعل منه ذروة التصور الوجودي. لكن ذلك كله لا يمنع، ولن يمنع، من معاينة الثورة الأساسية والخلاقة التي قام بها هذا الفيلسوف الأَيُّونِي. لقد أقصى، بالفعل، التعالي الديني والأسطوري القائم على مفهوم الإله، أو الآلهة، وأسس مستوى من المحايثة تكون عناصرُه المؤسسةُ من أصل طبيعي. ومن جهة أخرى، نلحظ أن طاليس هو أول من شق الطريق نحو وحدة الوجود، حتى وإن عبر عن ذلك بشكل غير واضح. وكما قال نيتشه:"رأى طاليس وحدة الوجود؛ وعندما أراد أن يعبر عنها، تحدث عن الماء"2. كانت تلك هي انطلاقة البحث الأونطولوجي. واستمر الأمر على ذلك المنوال عند الفلاسفة الطبيعيين ليصل البحث الوجودي إلى إحدى قممه مع هيراقليطس وبارمنيدس. لقد أصبح الوجود عند هؤلاء متصورًا، لا عَبْرَ وسائطَ طبيعية كما هو الشأن عند الفلاسفة الطبائعيين، بل مباشرة وبلا أي وساطة. (وذلك هو السبب الذي يجعل هايدجر يعتبر فلسفة بارمنيدس وهيرقليطس أعلى قمة في البحث الوجودي). غير أن البحث الفلسفي لم يتابع هذا التوجه، ولم يسر على خطاه. إذ سرعان ما عادت الأمور تختلط وتتراكم فوق الوجود ليتوارى خلف وصاية وسائط عدة. ويمكن القول إن مفهوم الوجود قد عاش، لمدة طويلة، تحت وطأة خطرين أساسيين. يكمن الخطر الأول في الفكر الديني، الفكر الذي عاد مرة أخرى ليفرض تصوره المقابل للفلسفة. وبالفعل، يقوم الفكر الديني على مفهوم التعالي الذي يلغي الفلسفة ومفاهيمها الأساسية كمفهوم الوجود. لقد نصب الدين كائنًا خارج الوجود، ومتعاليًا عنه. وقد حاول رجال اللاهوت تدارك الموقف، بإقامة مفهوم اسمّي للوجـود، أي بإقامة وحدة اسمية للوجود. هذا في حين أن المفهوم الحقيقي للوجود ينقسم إلى معان متعددة ومختلفة يستحيل ردها إلى مفهوم واحد. وهذه القسمة تفترض تعالي الكائن الكامل والمطلق. ونجد هذا التصور عند جميع الفلاسفة الدينيين الذين وهبوا أنفسهم للدفاع عن قسمة الوجود وتراتبه. غير أن هذه القسمة وهذا التراتب عصفا بمفهوم الوجود. فليست الوحدة الإسمية بشيء، ولا يمكنها أن تضمن للوجود قوة فعلية ومؤسسة لمبحث الوجود. فإذا كان الوجود مختلفًا متعددًا بتعدد الوجودات، فما الذي يسوغ الحديث عن مفهوم واحد للوجود؟ ما الذي يضمن وحدة مفهوم الوجود؟ يهدف الدين والفكر الديني، في الحقيقة، إلى نفي البحث الأونطولوجي، وإلى نسف الفلسفة ومفاهيمها. هكذا تتعدد معاني الوجود بتعدد الموجودات، ويتوارى مفهوم الوجود. ذلك هو الخطر الأول النابع من الفكر الديني ومن الدين والهادف إلى محو مفهوم الوجود وتذويبه. ويكمن الخطر الثاني، الذي يتهدد المبحث الوجودي، في التوجه الذي يضع الوجود بصفته مفهومًا واحدًا على جهة المناسبة والتناسب. وقد أخذ هذا التوجه الوجودي انطلاقته مع الفلسفة الأرسطية في صياغتها للمقولات العشر. لقد أعطى أرسطو للوجود البعد الأساسي الذي يستوجب على الفيلسوف القيام به، غير أنه قد وضعه تحت وسائط من شأنها الحد منه وتحجيم الدور الذي ينبغي عليه القيام به. فالمقولات العشر تقسم مفهوم الوجود وتعدد معانيه. فالوجود الذي للجوهر يختلف عن الوجود الذي للعرض والكم والكيف، إلخ. غير أن هذه القِسمة تظل قسمةً تراتبيةً، إذ أن الوجود لا يُحْمل على الجوهر بالشكل الذي يُحْمل به على العرض. وأمام هذه القسمة التي تدور على مقولات عشر، استدرك أرسطو والأرسطية اللاحقة على وجه الخصوص الأمر بإقامة علاقات التناسب بين هذه المعاني. فالوجود متعدد مُنقسمٌ مُتَراتب، لكنه متناسب، إذ نسبة الوجود للجوهر هي نفس نسبته إلى العرض. فالاختلاف في المعنى والحكم، والاتفاق في النسبة. يحاول التناسب أن يقيم تصورًا لمبحث الوجود، أي الأونطولوجيا. لكن هل ينجح التناسب في ضمان الوحدة الوجودية التي تطالب بها الأونطلوجيا؟ هل يستطيع أن يُوَفِّرَ للوجود الشروط التي ينادي بها؟ يبدو أن هذا الموقف يؤدي هو نفسه إلى إضعاف مبحث الوجود. فالتراتبية التي تنخر الوجود وذلك بغية منح الجوهر مرتبة أعلى من الأعراض، تعيد إنتاج التعالي الديني. وبالفعل، فكون الوجود مُنْقسمًا بانقسام المقولات يفتح المجال لانتصاب المتعاليات. وهذا ما جعل الفلسفة الأرسطية تجد آذانًا صاغية في الفلسفة الدينية القروسطية. إذ ستصبح التراتبية المقولية، بين الجوهر والأعراض، قائمةً على تراتبية وجودية بين الوجود الإلهي والوجود الطبيعي. وقد جسد كل من ابن رشد، في الفلسفة الإسلامية، والقديس طوما الإكويني، في الفلسفة المسيحية، هذا التوجه في تاريخ الفلسفة. واستطاع ابن رشد الادعاء بأن الفلسفة توافق الدين، إذ الحق لا يضاد الحق، بل يدعمه ويسانده. نعم، الحق لا يضاد الحق، لكن متى كان حق واستحقاق الأونطولوجيا، أي مبحثِ الوجودِ، هو التناسب؟ متى اكتفت الأونطولوجيا بوهم واستيهام التناسب؟ لا يقيم أصحاب هذا الموقف التوفيق بين الفلسفة والدين إلا بإفراغ محتوى الوجود من معناه الحقيقي القائم على التواطؤ، أي وحدة معنى الوجود. وعندما ينتفي التواطؤ، يصبح الوجود متراتبًا بتراتب الموجودات. والوحدة التي يضمنها التناسب ليست سوى وحدة عابرة ووهمية. إنها لا تتحدد إلا في إطار اعترافها وقبولها بموجود متعال ينفلت من قبضة الفهم والإدراك. يوافق التناسب الفكر الديني، بل الدين نفسه، لكونه ينصب موجودًا متعاليًا. لم يكن التناسب ليفي بمتطلبات مبحث الوجود قط؛ كما أنه لم يخدم أهداف الفلسفة والأنطولوجيا قط. لقد كان التناسب هو الوسيلة التي استطاع بها الفكر الديني القائم على التعالي أن يخترق الفلسفة ليذَوِّب قُوَّتها ويُطَوِّعها لغاياته وأهدافه. تنحو الأونطولوجيا إلى التواري تحت وقع التناسب، كما تنمحي تحت وقع تعدد معاني الوجود. لا تتأسس الأونطولوجيا إلا عندما يكون مفهوم التواطؤ، أي وحدة الوجود، قائمًا، إلا عندما تتلاشى مفاهيم التعالي والتسامي3 | |
|