فؤاد فريــق العــمـل
الجنس : عدد المساهمات : 786 معدل التفوق : 2214 السٌّمعَة : 22 تاريخ التسجيل : 17/12/2011
| | الطبيعة والحقيقة في فلسفة سبينوزا ترجمة أحمد العلمي | |
:lol!: :lol!: :lol!: :lol!: :lol!: :lol!: :lol!: :lol!: :lol!: :lol!: هامس تقديمي. - إن درس فردنان ألكيي، نقدمه هنا كما عرضه في جامعة الصوربون. وقد راجع المؤلف هذه الصفحات. ولم يصحح التكرارات الواردة فيه، والإهمالات اللازمة للأسلوب الخطابي. وهو يعتذر عن ذلك. غير أن مثل تلك التصحيحات قد تحول هذا الدرس إلى كتاب. لكن الأبحاث التي تلي لا تشكل فصول كتاب. إنها دروس فعلية قد عرضت، ومن الواجب علينا احترام خاصيتها الشفاهية إن كلمات طبيعة وجوهر والله هي كلمات مترادفة عند سبينوزا. إنها تفيد تلك الحقيقة الفريدة التي لا تكون كل الأشياء الموجودة إلا أحوالا لها. أما بالنسبة للحقيقة، فإنها تتصور دائما كماهية رياضية. ما هي علاقة هذين التصورين، وكيف ساهم تفاعلهما في تكوين نظرية سبينوزا للحقيقة؟ ذلك هو السؤال الأول الذي نود طرحه، والذي سيكون موضوع درس هذا المساء. في عهد سبينوزا، لم يطرأ على مفهوم الحقيقة التحول التي شهده منذ ذلك الوقت. فالنظريات التي ستحدد الحقيقة بأنها مجرد علاقة الإثبات مع قوانين الذهن، ومتطلبات الذات، لم تر بعد النور. إن كلمة حقيقة تشير، أولا، إلى الواقعي نفسه، أي أنها تشير إلى الواقع. وقد كان السكولائيون يتحدثون بهذا المعنى عن veritas rei، عن حقيقة الشيء. وسيتبنى ديكارت هذا التعبير. إنكم تعرفون أن ديكارت غالبا ما يحدثنا عن حقيقة الأشياء. وكتب بوسوي Bossuet، في كتابه حول المنطق قائلا: "الحق هو ما هو موجود، والباطل هو ما ليس بموجود البتة". فالحق يعني، بالتالي، الواقعي. وبها المعنى يتم الحديث، مثلا، عن الطبيعة الحقيقية للإنسان. إن الطبيعة الحقيقية للإنسان، هي الطبيعة التي يملكها الإنسان واقعيا. لكن لو تحدثنا لشكل أدق، وبكيفية مضبوطة، -مادام أن معنى كلمة حقيقة يستعمل للدلالة على كلمة الواقع- لقلنا إن كلمة حقيقة تشير إلى الأمر الذي يطابق، في ذهننا، ما هو موجود. إنها حقيقة المعرفة، تل التي كان يسميها السكولائيون veritas intellectus، حقيقة الذهن، في مقابل veritas rei، حقيقة الشيء. لنلاحظ مع ذلك أن الحقيقة تجد نفسها في هذين المعنيين خاضعة خضوعا تاما للشيء، لما هو موجود، للموضوع، وإذا أردنا، من أجل التذكير بحد العنوان نفسه الذي لهذا الدرس، فإننا سنقول إنها خاضعة خضوعا تاما للطبيعة. فإما أنها، بالفعل، تختلط بالواقعي، وبالتالي، بالطبيعة نفسها، وإما أنها تتحدد بمقتضى توافق الذهن مع تلك الطبيعة. فإذا عبر الذهن عما ليس بموجود، فإنه يكون في خضم الباطل. وإذا عبر عما هو موجود، وإذا كانت فكرته، كما كان يقال، مطابقة للشيء، فإنه يكون في حضن الحقيقة. وباختصار، يبدو أن الذهن يكون دائما، ضمن تصور مثل هذا، أمام طبيعة تكون سابقة لوجوده، وتكون موجودة خارجه، طبيعة يجب أن يخضع لها الذهن. إن مقياس الحق، هو الواقعي؛ مقياس الحق، هو ما يكون موجودا. ويجد الذهن بالتالي في الطبيعة، وفيها وحدها، أي في خارجه، معيار الحقيقة والخطإ. وقد حافظ ديكارت عموما على كيفية طرح المشكل، حتى وإن كان قد قدم، كما سنرى، عناصر شديدة الجدة. من البديهي، فعلا، أننا عندما نقرأ ديكارت، نلاحظ أن فلسفته إنما تتبلور كلها في الواقعية الأكثر كلاسيكية، وفيها يعمل أولا شكه، وفيها يجد منهجه تبريرا، ويتحقق الاكتشاف التدريجي لأساس الحقيقة. إن الأفكار، بالنسبة لديكارت، تمثيلية، فهي تمثل الواقع. وحقيقتها تتحدد إذن بمقتضى توافقها مع الشيء. وذلك هو السبب بالضبط الذي جعل ديكارت، في أول فلسفته، يشك. فالشك يكمن في التساؤل عما إذا كانت الأفكار موافقة للأشياء، وما إذا كان هذا التوافق يقينيا، ومضمونا، وثابتا، ويكمن كذلك في رفض وتخطئة كل الأفكار التي، ربما، لا تتوافق مع الأشياء، أي تلك الأفكار التي ليست سوى أفكارا ذاتية، أي حالات لا تمثل شيئا يكون خارج ذاتي، كما يقول ديكارت. والحقيقة الإلهية تؤسس حقيقة الأفكار، لأن الله لا يمكنه -بصفته هو العلة الفريدة، لأفكاري، وللأشياء- أن يكون قد أنجز، مادام هو واحد، خلقين مختلفين. هكذا تبدأ فلسفة ديكارت بشك يبرز الجانب الذاتي والعقلي لأفكارنا، كي تنتهي إلى الاندماج مع أفكار تضمن لها الحقيقة الإلهية التوافق مع الواقع، ضمانا يبدو وكأنه آت من الخارج. وبالتالي، ففي إطار واقعي -حيث أن الواقع، أي ما هو موجود خارج الذات، هو الذي يكون أساس الأفكار ومعيارها- يتم البحث الفلسفي عند ديكارت إذا تناولناه بصفة عامة. أقول إذا تناولناه بصفة عانة. لأنني سأبين لكم بعد لحظة أن فلسفة ديكارت، بالضبط، هي بالفعل فلسفة أكثر تعقيدا. ولذلك يعلن ديكارت (أركز على ذلك، إذ المهم هو أن نرى كيف أن كل المسائل في فلسفة ما تتماسك فيما بينها) ويصرح أن الأفكار ليست من حيث هي أفكار بصادقة ولا بباطلة. فلا وجود لحقيقة ولا لباطل، بحصر المعنى، إلا في الحكم وحده، أي في فعل الإرادة الذي يربط الفكرة بالشيء، أو الذي يثبت أ الفكرة مطابقة للشيء، لما هو موجود خارج ذاتنا. لذلك فإن ديكارت مخلص، بالجملة، للتصور الكلاسيكي لذهن إنساني موجه نحو الواقع الذي يظل خارج ذاته، ويسعى جاهدا إلى الوصول إلى هذا الواقع. إذا تناولنا المسألة بهذا الشكل، وإذا اعتبرنا، كما فعلنا ذلك قبل قليل، أن ديكارت لم يغير شيئا، بصفة عامة، في الإطار الكلاسيكي، السكولائي، لفكرة الحقيقة، فيجب القول إن النظرية السبينوزية للحقيقة -حيث أن الحقيقة، كما سنرى ذلك بعد لحظة، تتحدد بمقتضى خاصية باطنية للفكرة، وبدون أي إحالة مباشرة على الشيء- تتعارض نقطة نقطة مع نظرية ديكارت. والواقع أننا، لن نجد، في النظرية السبينوزية للحقيقة، أية مسألة من المسائل التي تؤسس النظرية الديكارتية، والتي ذكَّرْتُ بخصائصها بشكل موجز. لن نجد هناك أي شك مسبق. إن فلسفة سبينوزا لا تتضمن أي شك، إنها فلسفة لا تبدأ بالشك. لم يعد هناك أي تدخل للإرادة في الحكم. وبالتالي، لن نجد هنا أبدا هذا الفعل، ذلك القرار الضروري كي يَرُدَّ الذهن والإرادة الفكرة إلى الشيء. وأخيرا لن نجد أية حقيقة إلهية. إنها تصبح بلا جدوى. ومع ذلك، وقبل دراسة هاته النظرية السبينوزية ذاتها، الأمر الذي سنقوم به بعد قليل، يجب الإشارة إلى كل الأشياء الموجودة عند ديكارت والتي ستهيء هاته النظرية. إذ إن الخاصية الملتبسة والمعقدة لفلسفة ديكارت، في هذا الميدان كما هو الشأن في ميادين أخرى، هي التي أرغمت سبينوزا، الذي غالبا ما نظر في مشكل الحقيقة انطلاقا من معطيات ديكارتية، على تعديل نظرية ديكارت وانتقادها من أجل الوصول إلى تصور يظن أنه أكثر تماسكا وأكثر دقة. فعلا، إن نظرية ديكارت هي بالأساس نظرية -كما أشرت إلى ذلك قبل قليل- ملتبسة. وعلى كل حال، فبالإضافة إلى هذه المسائل التي أشرنا إليها، هناك مسائل تساعد على اعتبار نظرية ديكارت كنظرية كلاسيكية، كنظرية توسع بكل بساطة إطارات تعريف الحقيقة التي استعملت قبله، إلى هذه المسائل، إن أمكن القول، تنضاف، عند ديكارت، مسائل أخرى مقابلة لها. يبدو أن نظرية ديكارت بالنسبة لهذه النقطة غامضة، فهي تجمع بين تصورين اثنين. فالفكرة الديكارتية، من جهة، كما رأينا ذلك، تمثيلية، وحقيقتها تتحدد إذن بمقتضى الإحالة على الشيء - على موضوعها. غير أن ديكارت، من جهة أخرى، يقر بالواقع الخاص للفكرة. إنه يتحدث عن الواقع الصوري للفكرة ذاتها. والصوري، يعني الأمر الواقعي، كما تعرفون ذلك. فالواقع الصوري، هو واقع الشيء. غير أن للفكرة، من حيث هي فكرة، أي كما هي فكرة، واقع صوري. وللأفكار واقع يزيد أو ينقص. بحيث أن نظرية الحقيقة الإلهية لها معنيان اثنان. فهي تستعمل، في بعض النصوص، لتأسيس علاقة الفكر والشيء. إنها تعني عند ذاك بالأساس، كما ذكرتكم بذلك من قبل، أن الله لا يمكنه، مادام هو واحد، أن يُحدث خلقين اثنين، يكون الخلق الأول متعلقا بالشيء، ويكون الخلق الثاني متعلقا بالذهن وبالأفكار. غير أن نظرية الحقيقة الإلهية استعملت في معنى آخر، وكأنها تعني أن الله، مادام هو الكائن السامي، لا يمكنه أن يكون علة العدم، وأن الفكرة صادقة لأنها "شيء ما". ينقلب هنا كل شيء. لقد أشرنا إلى أن الفكرة، من حيث هي فكرة، ليست باطلة وليست صادقة، وديكارت يصرح ذلك بالفعل. غير أنه في حالات أخرى، يسلم لبعض الأفكار ببطلان مادي معين. فهو يقول مثلا إن الفكرة الحسية لها بطلان مادي، لأن لها وجودا ضعيفا. فالفكرة الحسية "هي" أدنى من الفكرة العقلية. بحيث أننا نجد أنفسنا هنا أمام نظرية مخالفة تماما، حيث يبدو أن هناك واقعا خاصا بالأفكار، واقعا للأفكار، يتنوع مع كل فكرة من تلك الأفكار. فالبطلان المادي مرتبط بضعف الوجود الذي للفكرة. ثانيا، ينضاف إلى هذا نوع من المذهب الرياضي. فالمنهج الرياضي، كما يتصوره ديكارت، هو بالفعل المنهج الذي لا يُخضع -في العلوم- حقيقة ما يثبت إلى وجود موضوعه. فسواء وجد المثلث، أو الدائرة، أم لم يوجد، فإن خصائصه الثابتة رياضيا تظل صادقة. يوجد هنا إذن تقدم للحقيقة على الوجود. ذلك هو الأمر الذي مكن من قيام الدليل الأونطولوجي الشهير الذي يبلوره ديكارت، بصحبة نظرية الماهيات الرياضية، في التأمل الخامس من كتاب التأملات. ولا يكتسي هذا الدليل معنى إلا إذا أمكن الحديث حقيقة عن الله قبل معرفة ما إذا كان موجودا أم لا. توجد هنا إذن حقيقة خاصة بالفكرة، باستقلال عن كل إحالة وجودية، وهذه الحقيقة تكمن بالتأكيد في نوع من تقدم الفكرة على موضوعها الذي تضم قانونه، والتي يمكنها، إن صح القول، وضعه بمقتضى ذلك. سنرى اندراج سبينوزا في سياق تصور مماثل، وسنعرض، في الجزء الثاني من هذا الدرس، كل ما يدين به إلى هذا البعد الرياضي. لكنني أركز على الأمر التالي: سنشهد هنا، بفضل هذه الوضعية التي تكتسيها النظرية الرياضية بالمقارنة مع النظرية البيولوجية، التي كانت هي نظرية أرسطو، حدوث تحول هائل في تعريف الحقيقة. كان مجموع الفكر السكولائي مبنيا بالأساس على تأمل في علوم الطبيعة، وعلى علوم البيولوجيا. غير أنه من البديهي أن السؤال الأول الذي يطرح نفسه، في العلوم الطبيعية، هو: هل الأمر الذي يُحْكى لي عنه هو أمر موجود؟ فعندما نصف، في العلوم الطبيعية، هذا الحيوان أو ذاك، أو هذا النبات أو ذاك، عندما نصف السبع أو الكلب، أو شجرة سنديان، فمن الواجب معرفة ما إذا كانت السباع، أو الكلاب، أو أشجار السنديان موجودة. وفعلا، من الممكن أن نصنف رسائل في العلوم الطبيعية متعلقة بالحيوانات الخيالية، والتي تكون غير موجودة. لكن ذلك لن يكون عِلْما. إذن، فكل ما يحكى لي عن السبع، مثلا عن مخالبه، وعن قلبه، ودمه، لا يكتسي معنى، إلا إذا علمت، أولا، أن هناك سباع. لأنه إذا لم يوجد سباع، فكل ما يمكن أن يحكى لي عن السبع سيكون باطلا. يبدو لي أن ذلك أمر بديهي. غير أن هناك، بالضبط، عِلْما واحدا، لا يكون فيه ذلك بديهيا. إنه العلم الرياضي. ففي الرياضيات، لا نتسائل، من أجل الحديث عن الشكل الكروي، ما إذا كانت هناك أشكال كروية. فرغم انعدام شكل كروي في كون ما فإن خصائص هذا الشكل الكروي تبقى حقيقية. وانطلاقا من ذلك، يمكن القول إن ديكارت يدمج النظرية الرياضية داخل مذهب عام هو مذهب واقعي بالأساس وليس مذهبا رياضيا، لذلك فإن مشكلته الكبرى ستكون هي التساؤل، في نهاية المطاف، وعما إذا كانت الرياضيات نفسها تناسب الوجود، وهل الخاصية الافتراضية-الاستنتاجية داخل الرياضيات تناسب أو لا العالم الواقعي، والعالم الفزيائي. وكما ترون ذلك، لم يعد الأمر يتعلق هنا بمشكل رياضي، فالمشكل الرياضي يتوقف عند حدود الافتراض-الاستنتاج. ومادام البرهان الرياضي يقول: "إذا كان هذا حقيقيا، فإن ذلك حقيقي"، ومادام علماء الرياضيات لا يتساءلون عما إذا كان العالم الواقعي مطابقا لما يتحدثون عنه أو ليس مطابقا، إنهم يتساءلون عما إذا كان ما يتحدثون عنه مستنبطا بشكل جيد من المبادئ التي سلموا بها. وأخيرا، هناك سمة ثالثة تنحو، عند ديكارت، نحوا معاكسا لهذا التصور الكلاسيكي للحقيقة، وهو تصور يظل ديكارت، مع ذلك، منسجما معه في إطاره العام: إذا كان صحيحا أن الحقيقة الإلهية، عند ديكارت، كما حدثتكم عن ذلك، هي ضرورية من أجل تأسيس حقيقة الفكرة كفكرة مطابقة للشيء، فإنه يبقى أن هذه الحقيقة الإلهية تثار بكيفية تجعلها تُبَرِّر مرة واحدة، وبالجملة، كل الأفكار الواضحة، وبالتالي، فضمانة الحقيقة الإلهية مادام أنه يتم التسليم بها، فمن الواجب أن أجد معيارا آخرا من أجل أن أعرف، من بين أفكاري، الأفكار التي تكون حقيقية وتلك التي تكون باطلة. ونتيجة لما تقدم، إن المعيار الوحيد والفعلي لحقيقة هذه الفكرة أو لتلك، هو بالضبط وضوح الفكرة وتمييزها، الأمر الذي يعني، هذه المرة، خاصية داخلية للفكرة. عندما أتساءل عما إذا كانت إحدى أفكاري حقيقية، وعندما أريد، كما يقول ديكارت، أن أميز الحق من الباطل، فأُمَيِّزُ، داخل أفكاري، بين تلك التي تكون حقيقية وتلك التي تكون باطلة، فكيف أتصرف؟ إنني لا أقارن بين هذه الأفكار والواقع، لا أتساءل أية أفكار من بين هذه الأفكار تكون واضحة ومتميزة؟ إذا كانت فكرة واضحة بالفعل، وإذا كانت متميزة بالفعل، فإنني على يقين أن الحقيقة الإلهية قد لعبت دورا في ذلك. فالله ليس خادعا، ولا يمكنه أن يكون خادعا، وإذا كانت لدي فكرة واضحة ومتميزة، فإن هاته الفكرة حقيقية. الأمر الذي يعني أن معيار التمييز بين الحق والباطل، والعلاقة الوحيدة والفعلية لحقيقة هاته الفكرة أو تلك -مادامت ضمانة الحقيقة الإلهية قد تم التسليم بها مرة واحدة وفي الأساس- هو وضوح هاته الفكرة وتمييزها، ويبدو هذا المعيار إذن معيارا باطنيا، موجودا داخل الفكرة نفسها. وهكذا نجد نظرية ديكارت، كما قلت لكم، نظرية مزدوجة. فهي تتضمن، من جهة، بعدا واقعيا، وتعمل، بمجموعها، في إطار تصور تستمد فيه حقيقة الفكرة ومعناها وقيمتها من حقيقة الشيء. لكنها تتضمن، من جهة أخرى، عناصر، توجهها في الاتجاه المعاكس، أي في الاتجاه الرياضي. سيكتفي سبينوزا من فلسفة ديكارت بمثل تلك العناصر فقط (تلك التي حدثتكم عنها في هذه النقطة الثانية)، أي سيكتفي سبينوزا إذن بالتركيز على الواقع الخاص بالفكرة، على التوجه الرياضي، على الخاصية الباطنية للحقيقة، كي يؤسس نظريته الخاصة. ومع ذلك نعتقد أنه من غير الصائب تفسير نظرية سبينوزا للحقيقة بالنظر إليها كنتيجة لنوع من بتر للنظرية الديكارتية، أي كنتيجة تنقيح، وتبسيط لنظرية ديكارت، تبسيط اقتضته هموم منطقية محضة. ومهما كان الأمر، فيجب، في هذا الحال، تفسير السبب الذي من أجله احتفظ سبينوزا، عند معالجته للنظرية الديكارتية الملتبسة، بهذا الجانب عوض الجانب الآخر. حقيقة أن سبينوزا يرى، بهذا المعنى، أن النظرية الديكارتية ليست نظرية واضحة. ومن الأكيد أنه يدعي أنه هو الذي يقدم لنا نظرية أكثر وضوحا. لكن يتعلق الأمر بمعرفة السبب الذي من أجله، بالضبط، اختار العناصر التي سميناها "بالرياضية""، لا العناصر التي سميناها "بالواقعية". وفعلا، يبدو أن هناك عند سبينوزا، منذ الوهلة الأولى، نوعا من الحدس الأولي المؤهَّلِ سلفا لقلب التوجه الكبير للنظرية الديكارتية المتعلقة بالحقيقة، إضافة إلى استعماله لبعض العناصر من الفلسفة الديكارتية. وهذا الحدس متعلق، بالضبط، بالعلاقات، التي ندرسها هنا، الحاصلة بين الحقيقة والطبيعة، أو إذا شئنا، بالعلاقات الحاصلة بين الذهن الذي بداخله، والذي من أجله، يمكن أن توجد حقيقة، وبين الطبيعة التي على الذهن معرفتها. والحال أننا نستطيع -بصدد هذه النقطة أيضا- أن نلاحظ، داخل العرض الديكارتي للمشكل، نوعا من التوتر، ونوعا من عدم التناسب. ففي النظريات السكولائية، وبالتالي في النظريات الماقبل ديكارتية، كان من السهولة بمكان الجمع بين الذهن والطبيعة، ماداما متصورين، الواحد والآخر، وكأنهما يسران وفق مبدإ الغائية. إننا نجد في ذلك تصورات ذات توجه غائي صريح. لقد حل تصور ميكانيكي للطبيعة، وتصور رياضي للذهن عند ديكارت (ونلاحظ دائما هذه الخاصية الملتبسة بشكل أساسي في النظرية الديكارتية) محل التصورات القديمة، ويبدو أن هذين التصورين قد أقصيا كل لجوء إلى المبدإ الغائي. لقد أبعد ديكارت العلل الغائية للعلم. وأعلن أنه لا يجب علينا البحث عنها. وأعلن أنه لا يجب علينا محاولة الدخول في تدابير الله. كل ذلك معروف جيدا. ومع ذلك، فإننا إذا ما أمعنا النظر، فإن الغائية الطبيعية، التي أقصيت نظريا من طرف ديكارت، إنما هي حاضرة باستمرار في نظريته، ومفترضة فيها، ونظريته تنطوي عليها وتدعوها. ويتجلى ذلك؛ قبل كل شيء، في كون الحكم الإنساني الذي وضع تحت قوة وضمانة إله ذي طابع شخصي متعال -إله صادق، إله حسن، إله لا يقدر على الكذب، ولا يستطيع خداعي- يفترض غائية، وحسنا، ويجعل من المعرفة الإنسانية نوعا من الحوار الذي يكون محاوره ليس هو الشيء الذي يجب معرفته، وإنما هو شخص آخر، يخاطبني، ويخاطبني بصدق. إلا أن هذه النقطة ليست هي النقطة الوحيدة. وليست حقيقة الله عند ديكارت هي الأثر الوحيد للتوجه الغائي. ولن يكون الأثر الوحيد الذي سيعطي لفلسفة ديكارت، حسب سبينوزا، خاصية فلسفة مأنسنة، فلسفة مطبوعة بأنسنة غائية. وفعلا، إن علاقتي بالله، عند ديكارت، هي بالتأكيد علاقة إرادة أخرى. ومن جهة أخرى، إن العالم الذي أنا موجود أمامه لا يكتسي قيمة إلا إذا افترضت في الله إرادة لها هي نفسها طابع غائي. بالفعل إن الله، حسب ديكارت، هو خالق العالم، ومُحَرِّكُه وصانِعُهُ. فكون الله خالقا، يفيد نوعا من الانفصال بين الله ومخلوقاته، وهو ما يفيد أيضا نوعا من الغائية، وهدفا ما يُفترض في الخلق ذاته. فالقول بخلق الله للعالم، هو القول بأنه قد كان بإمكانه ألا يخلقه، والقول إنه أراد خَلْقَهُ؛ هو التسليم إذن بأنه قد خلقه من أجل شيء ما، أي خلقه من أجل هدف ما، أو خلقه من أجل غاية. إذن ففكرة الله الذي يخلق العالم نفسها تفترض فعلا نوعا من الغائية داخل الإرادة الإلهية. بحيث أنه، حتى وإن كانت الغائية، كما يتصورها أرسطو، قد أقصيت من طرف ديكارت من الطبيعة، فيبقى أن هذه الطبيعة لها، مسبقا وبشكل إجمالي، إذا أمكن القول، غائية، مادامت أنها منتوج الفعل الحر لإله قد خلقها. إن الله، كما قلت، هو محرك العالم، الأمر الذي يفيد أن المادة نفسها عاطلة، وأن مجموع الديناميكية موجود في الله، أي في الله الذي يخلق، حسب نظرية الخلق المستمر، الأجسام في كل لحظة -في محل مغاير- الأمر الذي ينزع عن الطبيعة كل قدرة داخلية، كل قوة للتبلور الحر. أركز كذلك على هذه النقطة، لأننا سنرى بعد قليل أن سبينوزا من جهته سيعارض ديكارت بكيفية واضحة. إن الطبيعة بالنسبة لديكارت هي طبيعة، إن أمكن القول، عديمة الوجود؛ ليس لها وجود، وليس لها قوة ذاتية، وليس لها قوة داخلية. ولا يمكن القول إن حالتها، تنطوي، في لحظة معينة، على سببها الحقيقي لحالتها في اللحظة الموالية. إن الله هو الذي يخلقها في كل لحظة. والحركة، على سبيل المثال، تأتي، لا من قوة قد تكون داخل الأجسام، وإنما من كون الله يخلق في كل لحظة جسما، أي جسما متحركا في محل مغاير. وبالتالي، فالأمر الذي يخول لنا التكهن بالمواقع المستقبلية لجسم في حركة، ليس هو قطعا قوة قد تكون داخل الأجسام وداخل الأشياء المتحركة؛ إنما هو وجود قوانين للحركة، المترتبة هي نفسها على كون الله يفعل دائما وفق إرادة ثابتة. بإمكاننا التكهن بحالات لاحقة للجسم المتحرك. لكن سبب وجودها إنما هو في الله. وأخيرا، إن الله بالنسبة لديكارت هو إله صانع، وذلك مرتبط بنظرية ديكارت الشهيرة المتعلقة بالحيوانات الآلية، بالأجسام الآلية. إن الله عند ديكارت قد صنع الموجودات الحية. لقد كونها كآلات. بحيث أنه لو أُبْعِدَتْ كل غائية عن الطبيعة نفسها، فإ الذهن يضطر مع ذلك، من أجل فهم الطبيعة، إلى الرجوع إلى غائية لازمة للعقل الخلاق، للعقل الإلهي حتى وإن تطلب منه ذلك اعتبار الجسم آلة، آلة يكون لكل عضو فيها وظيفة، آلة لا يكون لكل عضو منها معنى إلا بالنسبة لمجموع تلك الآلة، الأمر الذي يفترض عقلا عاملا وصانعا. كل ذلك سيعارضه سبينوزا بشكل قطعي، أي أنه سيعارض كل هذه العناصر الغائية -إذا أمكن القول- التي يدرجها ديكارت ضمن نظرية هي مع ذلك آلية وبالخصوص نظرية رياضية عن العالم. لن أعير اهتماما هنا بالمسألة، المثيرة لكثير من الجدل، والمتعلقة بمصادر سبينوزا. لن أتساءل عما إذا كان الحدس الأول لسبينوزا هو حدس شخصي، أو أنه قد استقاه من تراث يهودي معين، أو من نظريات طبيعية لعصر النهضة (نظريات طبيعية لعصر النهضة كان ديكارت قد قام، لا تنسوا ذلك، بالرد عليها) أو من طرف هذا المؤلف أو ذاك، من طرف أفلوطين، أو من طرف جيوردانو برونو، إلخ. وعلى كل حال فإننا مجد، في نفس فلسفة سبينوزا، في جذرها، حدسا يقابل حدس ديكارت. إنه الحدس المتعلق بنوع من اللاتناهي المحايثي، وبنوع من البعد الطبيعي الديناميكي. إن الله هو الطبيعة، والطبيعة هي الله. لقد ادعى ديكارت العكس بالضبط. لقد كان ديكارت يقول لنا: "تذكروا أن الطبيعة ليست بإلهة". لقد أراد أن يبعد عن الطبيعة كل قوة داخلية. وفي مقابل ذلك، نجد هنا أن الطبيعة تتبلور بفعل ذاتها. إنها المنبع، إنها علة كل شيء. ويُآخِذ سبينوزا ديكارت على ابتعاده كل البعد عن معرفة العلة الأولى وعن أصل كل الأشياء. وفعلا، فالله، بالنسبة لسبينوزا، علة فريدة. إن هذا الحد قد يسلم به ديكارت، إذ بالنسبة لديكارت أيضا الله علة فريدة. لكن القول إن الله علة فريدة، بالنسبة لسبينوزا، ليس هو القول، كما كان يفعل ديكارت، بأنه يخلق العالم خارج ذاته، وأنه يحدث لحظة بعد لحظة عالما خارج ذاته. إن الله علة فريدة بالنسبة لسبينوزا يعني أنه جوهر فريد وأنه حاضر في كل مكان؛ أو أن فكرة العلة، عند سبينوزا، تقترن بفكرة الجوهر. وهناك، في الفلسفة السبينوزية، فكرة أساسية: فكرة العلة المحايثة، وهي علة تنتج معلولات غير متميزة عنها. إنها مع ذلك فكرة غامضة، لكنها فكرة أساسية. وبالتالي، إنكم ترون هنا اندماج العلة والجوهر واختلاطهما. لتصبح الطبيعة في الآن الواحد وحدة وكلا. إن فكرة العلة المحايثة هي من أقدم الأفكار التي نصادفها عن سبينوزا، مادمنا نجدها ليس في الرسالة القصيرة فحسب، وهو عمل سبينوزا الأول، بل إننا نعثر عليها أيضا في الحوارات التي أدمجت في الرسالة القصيرة. تعرفون أن هناك، ضمن الرسالة القصيرة، حوارات عديدة، هي، بدون شك، من أقدم النصوص التي نعرف لسبينوزا. ونعثر على نظرية العلة المحايثة هاته في القضية من كتاب الإيتيقا، الكتاب الأول، معلنة "أن الله علة محايثة وليس علة متعدية لكل شيء". وبعبارة أخرى، الله علة كل شيء. لكن اله لا ينتج شيئا خارج ذاته، وليست معلولاته متميزة عنه؛ إنها، إن أمكن القول، أحوال جوهره. إنه إذن ليس صانع الطبيعة؛ إنه الطبيعة. الله أو الطبيعة Deus sive Natura، كما يقول سبينوزا. لن يكون علينا اليوم معالجة الصعوبات اللازمة لمثل تلك الفكرة. لنسجل فقط أن تصور الطبيعة هنا، بالمقارنة مع نظرية ديكارت، قد تحول بشكل عميق. وسنرى أنه تبعا لهذا التحول ستتغير فكرة الحقيقة نفسها. لقد كانت الطبيعة الديكارتية متوقفة على إله يظل خارجها، إله يمدها، لحظة بعد لحظة، بحركته وبوجوده. ستصبح الطبيعة عند سبينوزا على العكس من ذلك علة ذاتها، وعلة كل الأشياء. ستصبح قبل كل شيء تلقائية، ومبدأ فعالا للتبلور. يجب الذهاب إلى أبعد من ذلك. إن هذه الخاصية التلقائية المطلقة لن يجعلها سبينوزا خاصة بالجوهر وحده. ستصبح لصفات الجوهر، لكل صفة من صفات الجوهر. إنكم تعرفون أن الجوهر، الذي هو جوهر فريد، له ما يتناهى من الصفات، وأن هذه الصفات لا متناهية في جنسها، في حين أن الله لا متناهي في كل الأجناس. والصفتان اللتان لنا معرفة بهما هما الامتداد والفكر. نرى عند سبينوزا، الذي يعارض هنا كل ميتافيزيقي حقبته، أن الوجود الذاتي للامتناهي في جنسه، أي للصفة، وليس فقط للجوهر، أي لله، الذي هو لا متناهي في كل الأجناس. وبالتالي، فالصفة السبينوزية موجودة بذاتها. إنها علة بكل ما لهذه الكلمة من معنى، إنها علة أولى بشكل مطلق، وهي لا تكون أبدا معلولا. إنها ليست معلول الجوهر. إنها تعبر عن الجوهر لكنها ليست معلولا له. ذلك، أولا، هو حال الامتداد. وأنتم ترون كيف تغير كل شيء. الامتداد، عند ديكارت، في عطالة. إن الله هو الذي يخلقه، لحظة بعد لحظة، ويمده -إن أسعفني القول- بالحركة. أما عند سبينوزا، كل الأجسام أحوال للامتداد. والامتداد نفسه صفة للجوهر، غير أ هذه الصفة نفسها تعبر عن الجوهر. إنها لا متناهية. إنها موجودة بذاتها. وهي تشمل مبدأ كل ما يحدث فيها، إنها منبع لا محدد للتغيرات وللأفعال. بل يمكن القول تقريبا، إنها إله، وهي على كل حال موجودة في الله. ماذا سيصبح الفكر إذن؟ أيجب الاعتقاد أن الذهن -مادام أنه موضوع أمام طبيعة فزيائية كافية إلى هذا الحد، وذاتية الاكتفاء- لم يعد له من دور سوى فهم هذه الطبيعة والالتحاق بها بملاحظة الأحداث التي تجتمع فيها ملاحظة سلبية؟ بل العكس. فمثلما أن هناك تلقائية فزيائية للامتداد، هناك تلقائية عقلية للفكر، الذي، هو أيضا، صفة إلهية. وسنرى فيما بعد -وهذا أمر غريب كل الغرابة، وهو يميز سبينوزا عن كل الفلاسفة الآخرين- أن سبينوزا يسند هذه التلقائية، ليس فقط إلى الفكر الذي هو صفة الله، بل وكذلك إلى الفهم المتناهي؛ ليس إلى الفكر وحده، وليس إلى الفهم الإلهي فحسب، لأن هناك أيضا فهما إلهيا، بل وإلى كل الأفهام، حتى وإن كانت أفهاما متناهية. ونتيجة لذلك الأمر، وإضافة لذلك، سيصبح الخلاص -ستفهمون ذلك عند نهاية هذا الدرس- أمرا ممكنا. كل هذه الأفكار ستكون، أتمنى ذلك، مشروحة وموضحة في ما يأتي من الدروس. والأمر الذي يهمني اليوم، هو فقط أن أبين الطرح الجديد، عند سبينوزا، لمشكل الحقيقة، وبالضبط وفقا للتغير الذي تشهده فكرة الطبيعة في فلسفته. سبق أن فهمتم، حسب ما قلت، أن الحقيقة لا يمكنها أن تتحدد بالإحالة على الشيء، أي على طبيعة، أو على مكان، قد يكون خارجها، ويجب عليها أن تلاحظه من الخارج. وبهذا الشكل نفهم كيف أن الحدس الأول، الذي هو حدس عقلاني وطبيعي، قد مكن سبينوزا من اختيار بعض مواضيع ديكارت ليرفض مواضيع أخرى، ومن دحض الجوانب الملتبسة في الفلسفة الديكارتية. وأمام هذين التوجهين الديكارتيين، يمكننا القول، بأن سبينوزا يرفض أحدهما ويسلم بالآخر، ولم يعد يحتفظ إلا بأحد جوانب المذهب، جوانب سيفضلها انطلاقا من الآن. غير أن ذلك، لم يحصل، أكرر ذلك. بمجرد هم منطقي وإنما حصل قبل كل شيء لأن الفكرة العامة والأولى التي لديه عن الطبيعة تدفعه في هذا الاتجاه. وف
| |
|
الإثنين أبريل 24, 2017 11:10 pm من طرف فؤاد