صدر كما هو معروف عند المهتمّين بالشّأن الفلسفي كتاب للدكتور المغربي عادل حدجامي بعنوان فلسفة جيل دولوز عن الوجود والاختلاف، والذي فاز بجائزتين، جائزة المغرب 2013 وجائزة الشيخ زايد للمؤلف الشاب 2013. ومن بين الأسباب التي دفعتنا للاهتمام بهذا الكتاب ليست هي الجوائز التي فاز بها بل أيضا لأن المكتبة العربيّة تعرف نقصا كبيرا في كل ما يتعلق بدولوز.
إن التّفكير في الكتابة حول فيلسوف كدولوز هو بحدّ ذاته مغامرة، فكتاباته تتسم بالتعقيد والتداخل ويعتمد كثيرا على كل ما هو هامشي، بل إنه يمكن أن نقول بأن قراء دولوز في العالم العربي، وهم قلة فيما أعتقد، يجدون صعوبات جمة في فهم لغته وأسلوبه وترجمة مفاهيمه المعقدة والملتبسة. لكن الباحث حدجامي ورغم صغر سنه كلف نفسه القيام بمهمة استكشافيّة في فلسفة دولوز واشتغل عليه في أطروحة دوكتوراه أشرف عليها الدكتور محمد سبيلا.
السؤال المطروح هنا والذي تبادر إلى ذهني عندما حضرت مناقشة الكتاب –الرسالة هو: كيف يمكن أن نكتب كتابا حول دولوز؟ ومن أين سنبدأ؟ وما الطريقة التي يجب أن نتعامل بها مع نصوصه ومفاهيمه؟ وما القيمة المضافة التي يمكن أن يضيفها كتاب حول فلسفة جيل دولوز؟
ولغرابة الصدف نجد نفس الأسئلة التي طرحناها في مقدمة الكتاب، فحدجامي كان على وعي تام في نظرنا بالصعوبات الكبيرة التي سيواجهها في التأليف حول فلسفة جيل دولوز.
يتشكل الكتاب من ثلاثة أقسام، عنوان الأول: المرجعيات وصيرورتها، ثم الثاني: موانع الفكر وإبدالاتها، ثم القسم الأخير وعنونه بأنطولوجيا التواطؤ ومنطق الحدث، وكل قسم يتكون من فصول تزيد وتنقص حسب أهميّة ومكانة كل قسم، فالقسم الأول اهتم ببرغسون كفيلسوف مرجعي بالنسبة إلى دولوز، وما يمكن ملاحظته هنا هو أن حدجامي كتب عن برغسون من منظور دولوزي فقط، أي أنه لم يعد مباشرة، حسب ما تشير إليه الإحالات، إلى كتب برغسون نفسه، والحال أننا نجد له العذر في هذا الأمر كونه إن فعل ذلك سيضطر لكتابة فصل عن برغسون واخر عن قراءة دولوز لفلسفة برغسون.
لا يسع المجال هنا للتفصيل في مضامين الكتاب، لذلك سنتطرق فقط للجديد الذي جاء به هذا الكتاب حول فلسفة دولوز.
يعرف جيل دولوز على أنه مؤرخ للفلسفة، أي أنه صاحب نظريّة في كيفيّة التأريخ للفكر(ص11) لكن تأريخ دولوز للفلسفة ليس تأريخا خطيا أو أفقيا بل إنه يؤرخ للفلسفة من منطلق فلسفي(نفس ص). لكن تأريخ دولوز للفلسفة لا يهتم بنقطة بدايّة أو نهاية، كما أنه لم يهتم إطلاقا بالأسئلة الفلسفيّة التقليديّة حول ما إذا كان مثلا نيتشه ينتمي إلى تاريخ الميتافيزيقا أم استطاع تجاوزها، فهو يهتم بالفلاسفة الذين ينتمون لتاريخ الفلسفة لكنهم ينفلتون من إحدى جوانبه ويزيغون عنه، فينزوون إلى الهامش، أو يخرجون منه كلية، مثل برغسون واسبينوزا ونيتشه وهيوم وليبنز.
فتاريخ الفلسفة ليس تاريخا موحدا ولا متجانسا، إنه تاريخ متقطع ومنفصل، تسود فيه الفراغات والهوامش أكثر من الامتلاء والمركز، إنه تاريخ للتكرار ينتج أوجه التشابه بوسائل مخالفة تماما.
لهذه الأسباب يهتم دولوز ببرغسون كفيلسوف للاختلاف والمحايثة (ص16) على أن أهم مفهوم أثار انتباه دولوز هو الحدس البرغسوني، فإذا كان الحدس الديكارتي يدرك الفكرة الواضحة المتميزة والعقلانية، لكن الحدس البرغسوني أو الدولوزي يدرك الوجود دون شرائط للمعرفة أو مقولات جاهزة، فهو يدرك الديمومة كما تتجلى في الوجود (ص16) والديمومة هي نوع من التغير الأنطولوجي الذي لا يدرك بمنطق الثبات والحساب (ص22) إنها حركة حيّة لا تقبل التكميم.
أما اهتمام دولوز بهيوم فيعود إلى بداياته الفلسفيّة الأولى، حينما ألف كتابا حول الفيلسوف الإنجليزي، في فترة كان الفكر الفرنسي يهتم كثيرا بهيغل وهوسرل وهيدغر، فجاء كتابه حول هيوم نشازا تاما بالفعل، لكن سبب هذا الاهتمام مرده إلى كون تجريبيّة هيوم لا تعبر فقط عن الوقوف على حدود التجارب، بل إن التجريبيّة بالنسبة إلى دولوز هي التوجه الذي ينظر إلى التجارب بما هي إمكانات، أي التفكير الذي ينكب على الشروط القبليّة لكل معرفة دونما الاستناد إلى أي مرجعيّة معينة (ص28). فكل موجود عند هيوم هو صادر عما يتجاوزه، فلا شيء يحصل في الداخل بل كل شيء في الخارج (ص29).
من بين المفاهيم التي اهتم بها دولوز نجد المفهوم أو الأفهوم والزمان والاختلاف والسيمولاكر والهويّة والتكرار والجذمور... فمن المعروف أن دولوز فيلسوف المفهوم، وأنه يعتبر أن الفلسفة هي إبداع المفاهيم كما هو مشاع، فالفلسفة تبدع المفاهيم لبعث الحركة في الفكر، وتحرير الممكن الحي في التجربة، وتقريب العقل من الوجود والحدث، فالمفاهيم عبارة عن أحداث وأفراد، والسبب الذي يجعل الفلسفة تبدع المفاهيم هو التخلص من المفاهيم الجامدة والثابتة والماهيات، ودخولها إلى منطق المعنى كما يتحدد عند نيتشه(ص146)، فالمفهوم الدولوزي لا يعبر عن الوحدة بل عن التعدد، ولا يعبر عن التشابه بل الاختلاف، كما أنه لايهتم بالمركز بل بالهامش والأطراف، ولنقل بالجذمور أي حقل ترابط محايث لذاته. فالمفهوم لا يأتي جوابا عن الماهيّة بل عن الكيف، كونة يجاور المكونات ولا يجمعها(ص147).
يعبر مفهوم الزمن عند دولوز عن العادة والتكرار، فالأنا الحاضرة في الزمن ليست سوى إعادة وتكرار لذاتها داخل العادات البسيطة والصغرى، التي تكسر بنيّة الزمن، فالحاضر لا يعبر مع دولوز عن ما هو موجود بل عن ما مضى، فالذات التي تشكل الحاضر توجد في الماضي، فما نحياه تجريبيا كتعاقب للحاضر، هو في العمق مستويات جزئيّة من الماضي تتزايد وتتحقق في تركيب هذا الحاضر المنفعل (ص189).
إن زمن دولوز ليس زمنا مترابطا خطيا، بل إنه زمن بدون حركة يتمثل الماضي في الحاضر، إنه زمان العود الأبدي، زمان التنافر والاختلاف والتباين، إنه العود الذي يعود بطريقة أخرى، أي عودة الاختلافات بما هي تكرار، فالاختلافات هي وحدها ما يعود(ص194). لذلك فدورة الزمن تعبر عن الوجود المشترك للكل، وهو ما يحفظ للاختلاف، من حيث هو تكرار منزاح، ماهيته، كونه تعدد وتغاير لأدوار متزامنة.
هذا التصور الدولوزي للزمن ينطبق عليه مفهوم الاختلاف، فتاريخ الفلسفة، كما هو معلوم، هو تاريخ اختلاف، لكنة ليس جوهرا أو بنية، بل هو ما يوحد الاختلافات والتنافرات داخل التعدد والتباين. فكل شيء هو نتيجة للاختلافات المتنافرة، وكل ما يقدم لنا نفسه على أنه هويّة موحدة ومنسجمة، إنما هو في الواقع يباعد نفسه ويتباين معها، فكل شيء في ذاته متنافر وهجين. إن الوجود في ذاته هو نوع من التشظي أو التشتت، الذي يراوح مكانه ويدمر ذاته من أجل تجاوزها. الاختلاف يعبر عن ذاته من خلال السيمولاكر الذي همشه أفلاطون وجعله مجرد نسخة مشوهة مقابل الأيقونة أو النسخة النموذج. السيمولاكر صورة شيطانيّة تخلق فعل التشابه الخادع لأنه بكل بساطة يحلل “من الكيمياء” ويفكك الهويات، وهي نفس الأسباب التي جعلت دولوز يهتم بالسيمولاكر، فهو عندما يحلل الوحدات والهويات فهو يعبر عن فعل حياة(ص202).
السيمولاكر نسخة دون تشابه، فإذا كانت الأيقونة تكرر النموذج، فإن السيمولاكر يخونه. ليست الأفلاطونيّة إذن هي التمييز بين عالم المعاني وعالم المحسوسات، بين النماذج والنسخ، وإنما هي وقوف عند النسخ ذاتها، وإظهار ما ينتسب للأصل وما لا علاقة له به. السيمولاكر عكس ذلك تماما فهو صورة شيطانيّة فقدت التشابه الذي يضمها إلى الشبيه، أو بعبارة أخرى طرد التشابه وأبقى على الاختلاف.
السيمولاكر يخون التحديد ويذهب نحو اللاتحديد، يقضي على التساوي، ويظهر التفاوت، إنه دائما إما أقل أو أكثر، لنتأمل الاختلافات وسوف نجد أنها هي التي تتشابه، فنخن ندرك التشابه بين شيئين لأنهما مختلفان، لا يتخالف إلا ما يتشابه، فالعيد يكرر نفسه ليظهر بصيغة جديدة، وهو ما يمكن البدء فيه مجددا، العيد الحالي ليس هو الماضي، صيغة التكرار هنا هو أنه إعادة مخالفة لما سبق. كل هويّة إذن هي ناتجة عن التكرار، والمفارقة والتباين والاختلاف. التكرار يعبر عن ما يتخالف، ليس التكرار نقيضا للاختلاف، بل هو تعبير عن الهويّة التي تنزاح عن ذاتها(ص205)، التكرار قناع مقنع، يعاود الظهور كاختلاف مثل الكبت عند فرويد، الذي يتستر لا لكي يتخفى ويتوارى، بل كي يعاود الظهور بصيغ متخالفة ومتباينة.
لكن المفهوم الذي يعتبر بحق من إبداع دولوز هو الجذمور Rhizome الذي يظهر على مستوى البساط فقط، وليس على مستوى الجذور والأعماق(220)، لذلك فالجذمور هو نقيض الشجرة، على أن النقيض هنا لا يعني عند دولوز الضد، فالجذمور ليس نفيا للشجرة، بل يقلب فقط علاقة العليّة التي بينهما(220)، كما أن النقطة ليست نفيا للخط، فالخط هو علة النقطة. الجذمور جسم بلا أعضاء، وتلاق بدون تركيب، أي لا تراتبيّة ولا مركزولا أطراف ولا حدود ولا إحالات، كونه مجرد تجميع لتعددات وتباينات متباينة، فعوض أن تكون الأعضاء هي ما يكون الجسم، يصبح التلاقي في الجسم هو ما يكون الأعضاء بعديا، مما يفتح الجسم على إمكانيات الحياة. الجذمور إذن هو ما يكون الحياة، وما يعطي للشيء ماهيته ووجوده الذاتي، إنه الهامش الذي يؤسس للمركز، فيصبح هذا الأخير تابعا للأول وليس العكس، لنتخيل شكل الدائرة، إنها جوفاء في مركزها، لكن ما يكونها مجموعة من الهوامش، الهامش بهذا المعنى يبعث الحياة في الشيء.
الجذمور مثل الحدث، أو لنقل هو إحدى نتائجه، والحدث عند دولوز هو تلاقي أو اصطدام بين سلسلتين يطرأ عليهما تغير معين(209)، ومن طبيعة هذا الاصطدام أي الحدث أنه لا يحمل أيّة دلالة أو معنى، لأنه هو المعنى نفسه، فهو سطح لا عمق فيه، فالعمق دلالة ميتافيزيقية، بينما السطح هو ما يشكل الحدث، لقد قال نيتشه عن الفلاسفة الإغريق أنهم كانوا سطحيين من شدة عمقهم، ومع دولوز يبقى السطح هو ما يحدد المعنى، أو بلغة دقيقة منطق المعنى(210). السطح محايثة، لذلك كان دولوز معجبا كثيرا بليبنتز الذي تعتبر فلسفته عن هندسة للسطوح ونسيج للبساط، بدل صروح للثيولوجيا وسلالم للميتافيزيقا.
من بين النتائج التي قدمت نفسها كبديهيات في تاريخ الفلسفة نجد التقابل الشهير بين الحقيقة والخطأ، فإذا كانت العقلانيّة الديكارتيّة قد افترضت شيطانا ماكرا يخدع العقل ويضلله عن الصواب، وحاولت أن ترفعه وتجعله حالة استثنائية، فإن دولوز يرى أن الخطأ ما هو إلا صورة عن الحقيقة كما اعتبرها نيتشه، أي مجموعة من الأوهام والاستعارات التي نختارها انطلاقا من مجموعة من القيم الوهمية، وبالتالي فما ينطبق عل الحقيقة ينطبق عل الخطأ، فلا وجود في الفكر لإرادة طيبة تحاول تجاوز الخطأ. الخطأ يصبح خطأ لأنه أريد له ذلك وفقا لظرفيّة معينة.
الحقيقة ليست كما كان متداولا نقيضا للخطأ، كما أنها ليست تراكما معرفيا من أجل تجاوز النقص، بل إنها إنتاج وإبداع، ومفعول لقوة الخطأ(ص160)، ذلك أن الخطأ حامل لقوة إثبات، فالتفكير في ماهيّة الحقيقة يمر بالضرورة عبر التفكير في ماهيّة الخطأ، ذلك أن تاريخ الحقيقة ليس في واقع الأمر سوى تاريخ مكبوتاتها، فهي لا تظهر نفسها إلا لكي تحجبها، ولا تحضر إلا بقدر ما تتيه وتضل. يرى نيتشه أن الحقيقة تخفي خداعها في المجاز، فالمعنى ليس سوى المجال التفاضلي الذي تتناحر فيه التأويلات والقراءات.
انطلاقا من هذا المنطلق ينتقد دولوز الأنا الديكارتي، ويعتبر أن الذات التي تبدو لنا واحدة ومنسجمة، ما هي في الواقع ووفق منظور منطق المعنى، ذات مشتتة، إنها تركيب ينحل إلى ذوات متعددة، وعليه فإن الأنا مجرد توليف ظرفي، وعبور وإحساس دائم بهذا العبور(ص230)، أي مجرد تحقق في الصيرورة، فالكوجيطو الديكارتي ليس هو “الأنا أفكر”، بل “أنا أصير” وأتعدد وأتوالف وأتفرد بفعل قوى تتجاوزني(ص231). فالذات كما يرى اسبينوزا ليست مادة يسكنها جوهر، بل خريطة ومعيار قياس لما يتعين. يقتضي الأمر إذن مجاوزة للذات، وتقويض للكوجيطو، لكن هذا التجاوز والتقويض لا يعنى الاهتمام بالغير أو التاريخ، بل يعني الطريقة التي يتحدد بها الموجود، إنه حركة لتوليد الفوارق، والتباينات والاختلافات، لهذا كانت الذوات هي ما يتغير في طبيعته عند التلاقي، وما يتخالف مع ذاته بمفعول الأثر، فالذات تركيبة جغرافية، وليست نشأة تاريخيّة متواصلة، إنها تركيب انفصالي، وتفردات متنافرة لا تتواصل إلا لكي تتباعد، ولا تلتقي إلا لكي تتفرق.
اهتمام دولوز لم ينصب فقط على فلسفة الذاتيّة الديكارتيّة بل أيضا طال حتى الفلسفات التي اعتبرت نفسها لا ديكارتيّة وهي فلسفة فرويد، فكما هو معلوم يصنف فرويد على أنه مفكر انتفض ضد الوعي الديكارتي، لكن فرويد حسب دولوز أخطا في مقاربة مفهوم الرغبة، وحصره فقط في مجال السيكولوجيا، فهو عوض أن يقرأ الرغبة وفق منطق تعددي يستحضر العالم في كليته(ص38)، يعمد إلى حصر المفهوم في كل ما هو سيكولوجي ضيق.
الرغبة عند دولوز ليست وليدة اللاشعور باعتباره خزانا، كما أنها ليست نقصا وجب إشباعه، بل إنها حركة لا ترد إلى نقص أو حاجة، ولا تهدف إلى غاية، ولا تنصب على موضوع محدد، ولا تتعلق بفرد، ولا تقبل تأويلا أو تنظيما أو تنظيرا من الخارج، كما أنها ليست مخزنة في اللاشعور، لأن هذا الأخير ليس خزانا، بل هو حركة ما تنفك تعمل وتنتج، إنه مثل الحدث الذي لا يمكن فهمه برده إلى الماضي كما يرى فرويد. اللاشعور بساط لا سمك له، وسطح لا عمق له، وتوليف لا إحالة تسكنه، إنه ترحال دائم لأنه لا يريد التأجيل، فالرحل هم المعمرون كما يقول توينبي، إنهم رحل لأنهم يرفضون الرحيل بعيدا.
لا يسع المجال للتفصيل في مضامين الكتاب على الرغم من تشويقها وسلاستها، إلا أن هذا الأمر لا يمنعنا من إبداء ملاحظات حول الكتاب ومضمونه. أهم ملاحظة يمكن تسجيلها هنا هي قلة النقول عن دولوز، حيث يلاحظ قارئ الكتاب غيابها بشكل يكون شبه كلي، والسبب في نظرنا يعود إلى اللغة الصعبة والمعقدة التي يستعملها دولوز، فلغة الفيلسوف جد صعبة ليس فقط على مستوى المفاهيم المستعملة، وإنما أيضا على مستوى التراكيب الدلالية، فلغته أقرب إلى الشعر والمجاز والمخيال، كما أن اعتماده على مفاهيم معقدة، والأمر مقصود ربما، يجعل مسألة ترجمة كتبه ونقوله أمرا شبه مستحيل.
ورغم ذلك فإن الكتاب يقدم نفسه كما لو أنه نهل من متون ومراجع مكتوبة باللغة العربيّة وليس بلغة دولوز، فتجد لغة الكتاب سليمة وسلسة ومترابطة وهذه من بين الأمور التي تحسب للكاتب. كما أن حدجامي في قراءته لقراءة دولوز لبعض الفلاسفة لم تكلف نفسها العودة إلى متون هؤلاء الفلاسفة على الأقل في الإحالات، فاعتمد مباشرة على كتابات دولوز، وحتى في هذا الأمر نلتمس له الأعذار كونه إن عاد إلى تلك النصوص الأصليّة فإنه سيدخل في دوامة لا حد لها. إضافة إلى ذلك نجد غيابا تاما لإحالات حول دولوز وفلسفته، أي أن الكاتب اعتمد في كتابته للكتاب على المتون الدولوزيّة مباشرة، على الرغم من كثرة الكتابات التحليليّة والنقديّة لفلسفة دولوز سواء في فرنسا أو خارجها.
خلاصة القول هي أن الكتاب يشكل قيمة مضافة للمكتبة العربية، نظرا للفقر الكبير الذي تعرفه هذه المكتبة حول فلسفة جيل دولوز، كما أنه سيساهم كثيرا في التعريف بفلسفة فيلسوف لطالما ظل عصيا على الفهم والاختراق في ثقافتنا الفلسفية.