طموح فريــق العــمـل
الجنس : عدد المساهمات : 471 معدل التفوق : 1323 السٌّمعَة : 22 تاريخ التسجيل : 15/12/2011
| | في نقد فلسفة هايدغر (4/2) مراجعات على الوجود والزمان | |
1 ـ تحديات دريدا: أودّ أن أبدأ مقالي هذا بملاحظ قيّمة لفولتير، ربّما تمثل هديّة لأتباع هايدغر ضد معارضيه ونقاده. يقول فولتير، مؤنبا أحد معاصريه الذي كتب مقالا تهجّم فيه بشدّة على الفيلسوف الروماني شيشرون، بأن هناك العديد من الكتاب لديهم ميل غريزي يدفعهم إلى مصارعة، ليس الأحكام الشعبية المسبقة، بل آراء الرجال المتنوّرين. ويبدو أن هؤلاء النقّاد يُفكّرون مثل يوليوس قيصر: “أفضّل أن أكون الأوّل في كوخ صغير على أن أكون الثاني في روما”. النصيحة المعقولة التي يسديها فولتير وهي حسب رأيي صالحة للجميع، في عصره وفي عصرنا الحالي هي أنه « لكي يحوز المرء على شيء من المجد أسوة بالرجال المتنوّرين، يجب عليه إضافة حقائق جديدة على ما قدّموه؛ يجب إدراك ما غاب عنهم؛ والنظر أفضل وأبعد منهم». ولا يمكن تحقيق هذه الأهداف إلاّ إذا توفرت في الشخص العبقرية المجبولة، ثم اجتهد في تهذيب وتمتين تلك العبقرية بالدراسة العميقة والمثابرة، وإثرها فقط يعمد إلى إنتاج أعمال إبداعية وتقديمها للجمهور ثم انتظار الشهرة. لكن، يلاحظ فولتير، على العكس من ذلك، حينما يعمد الباحث من أوّل وهلة إلى منازعة أفكار العظماء، فإنه متيقن من الحصول بثمن بخس على مجد أسرع وأكثر بَريقا(1). هذه نصائح جيدة، وحصيفة، وعلى الباحث أن ينتهج نهج التدقيق والتمحيص، وأن يجعل من كبار المفكرين قدوته ونبراسه، مع تفادى السقوط في الأحكام الماقبلية. لكن نقطة حاسمة يجب الاصداع بها، وهو أن هناك شكوك جمّة في أن مَن انساق مع أبشع أنواع الديكتاتوريات، ومن روّج للعنصرية والعنف يمكن تصنيفه عن جدارة في زمرة كبار المفكرين، أو حتى إضفائه لقب “التنويري”. ثم إن الرّهان الأكبر، على كلّ حال، بغض النظر عن النقاط التي عرّج عليها فولتير، ليس له علاقة بالمَجد ولا بالشهرة، ولا حتى بادّعاء العبقريّة وطَلبِها: المسألة تتلخص في إرادة الحقيقة، ومحاولة الكشف عن المجهول، وإظهار الوجه الحقيقي للأفكار بقدر الطاقة. ثم إن دخلت في إطار عملية الاستكشاف ضرورة محاورة الرأي النقيض أو مجابهة النقاد فلا بأس بها، على شرط أن يخضع هذا العمل إلى قواعد البحث العلمي النزيه. نحن نودّ بعملنا هذا أن ننزع هالة التقديس عن هايدغر وأن ندرس ونناقش ونقيّم بروح نقدية أعماله، وخصوصا عمله العمدة “الوجود والزمان”، دون تهجّم ودون عقدة نقص، أو انبهار مفرط. لقد طرح جاك دريدا، في مقال له بعنوان “سكوت هايدغر”، على منتقديه (هايدغر) تحديا صريحا، طالبا منهم أن يخرجوا للعراء دون التواري وراء التزامات هايدغر السياسية. حيث يقول ـ ما معناه ـ إن كتاب “الوجود والزمان” مازال يشكو عدم القراءة وعدم الفهم أصلا، ومازالت، في ذاك المؤلّف مواضع غير واضحة ونقاط غامضة لم تُدرك جيدا، وأفكار لم تُفهم بعد. وعلى ناقدي هايدغر، بشأن التزامه السياسي، أن يَبدؤوا، أوّلا، بقراءة كُتبه وبالتمعّن فيها بروح إشكالية، وبعدم التسرّع في إصدار الأحكام، وتفادي أيّ إقصاء ماقبلي(2). هذا كلام صائب ولا أحد يمكن أن ينازعه فيه، وأرى أن الهايدغاريين جميعا يصادقون على هذه الأطروحة من أنه علينا تجاوز النزعة الإقصائية الماقبلية وأن نبدأ أولا في الغوص في المسائل الفلسفية التي طرحها هايدغر والاعراض بجدّ عن الولوج في مماحكات إيديولوجية عقيمة. فالتعريج على المناطق المظلمة من توجهات هايدغر السياسية، ثم التركيز فقط على تصرفاته السلبية المحرجة، قد تؤدي بالمفكّر إلى الابتعاد عن جوهر المسألة الفلسفية، وربّما قد تفقده مصداقيّته الفكرية. هذا خلف واضح: إذا وضعنا أنفسنا في موقع علمي، لا جدالي، فإن اعتراضا من هذا القبيل فاقد للمعنى. لقد تكلّم هايدغر، كمُنظّر وفيلسوف أمام الناس أجمعين وعرض آراءه وقرأها عليهم راغبا من ورائها إقناعهم والتأثير فيهم. والمؤوِّل ينبغي عليه أن يَسردها كما هي لعامة القراء، مستشهدا بالنصوص وفاحصا فيها بعمق، متقيّدا بمحتواها الظاهر لا يحيد عنه. وما الحصافة في تورية كلام صريح؟ إن كانت سياسة الحصافة هي الأساس، كان على المتفوّه بذاك الكلام، أن يَتَحلّى بتلك الفضيلة قبل أن يُلقي بآرائه على مَسَامع الناس. أقوال هايدغر وتعاليمه لم تكن فلتات لسان عابرة، بل جاءت مُسطّرة في خطابات ومقالات وكُتب منشورة ومتداولة بين الناس. إذا أردنا أن نبرهن على أن مفكرا ما هو مفكر جدّي، أو عبقري أو مُجدّد، فإننا نأخذ من كلامه ما يُؤكد هذه الخصال ويدعّمها، وعلى العكس من ذلك إن أردنا البرهنة على أن هذا المفكر، هو غير جدي وتنقصه العبقرية، ولا جديد في كلامه، ومُوال لأبشع أنواع الدكتاتورية في العالم، فإننا نُحيل إلى خطاباته المؤيدة لرأينا. أتباع هايدغر لا يُغني عنهم شيء تشبّثهم بالظرف الراهن الذي عاش فيه وبالتيار العارم الذي جرف معه الجميع، لأننا يمكن أن نعثر على أشخاص لم يحوزوا شهرة مثلما حازها هو ولكنهم كانوا أكثر منه تحرّزا ونقدا للواقع السياسي والثقافي، وبالتالي فإن المهرب الأخير لأتباعه، أعني التركيز على الظروف الراهنة لتبرير انخراط هايدغر في إيديولوجيا النازية، هو مهرب أقبح من التبرير. ولكن التحدّي الذي ألقاه دريدا (وجمع من الأتباع) على ناقدي هايدغر لا يمكن أن يمرّ علينا دون التمعّن فيه، أعني أن “الوجود والزمان” هو نص مازال يشكو عدم القراءة، وفيه أفكار لم يتم بعد استقصاءها بجدّية كافية. كاتب هذه السطور يعترف بأن “الوجود والزمان” لم يستثر فيه أي نوع من الانبهار، ولم يجد فيه أفكارا فذة وفريدة من نوعها. بل إنه لم يستثر حتى معاصريه من المفكرين الجدّيين، على الرغم من أنه نزل في زمن سماه كارل لوفيث “فقير/ قحل (dürftiger Zeit)”. أتباع مدرسة الفينومينولوجيا غاضبون لأنه استخدم أدوات المنهج لكي يَرتدّ عليه ويهمشه؛ المفكرون العقلانيون أصابهم الاستياء من التهجمات ضد المنطق والعقلانية؛ أما الفلاسفة الإنجلوسكسونيون، فهم إما أنهم لم يعيروه أية أهمية، أو إن حدث وتصفحه أحدهم فإنه قد رأى فيه كارثة. 2 ـ الوجود والزمان: “تقدّم نحو الكارثة”: في مراجعة له على كتاب “الوجود والزمان”، قدّم الفيلسوف الإنجليزي جلبارت رايل (Gilbert Ryle) نقده بهذه الجملة القاسية. قال: « هذا عمل صعب ومُهمّ للغاية، ويرسم تقدّما كبيرا في تطبيق “منهج الفينومينولوجيا” ـ إلاّ أني أقولها منذ البداية يبدو لي أن هذا التقدّم هو ليس إلاّ تقدّما نحو الكارثة (an advance towards disaster)(3)». فيما تتمثّل هذه الكارثة؟ ولِمَ هذا الموقف السلبي من كتاب صدر منذ عامين؟ بالنسبة لفيلسوف يعيش في إنجلترا، بعيدا عن المشاكل السياسية التي يشهدها المجتمع الألماني والثورات الدائرة آنذاك والمصاعب اليومية التي تجابهها حكومة فايمار، لا يمكن أن تكون إلاّ كارثة نظرية. فعلا بالنسبة لـرايل هناك نزعة واضحة في فلسفة هوسّرل وأتباعه نحو نوع من المثالية الذاتية أو حتى السولبسية (Subjective Idealism or even Solipsism). تلك النزعة ليست بالضرورة ناشئة من فكرة الفينومينولوجيا، التي هي جيّدة في حدّ ذاتها، بل فقط من تطوير قسمٍ من نظرية خاصة في المعنى، والتي قد تكون موروثا رديئا من فرضية لوك ـ برنتانو (Locke-Brentano) في وجود “مُثل” أو أفكار مجرّدة، وهي الكيانات الذهنية التي تتكون منها معرفتنا، بحث أن تلك الكيانات ليست هي بالموضوعات المعروفة، ولا هي عملياتنا المعرفية، بل مجرّد إدراكات بين الأولى والثانية(4). بالنسبة لهايدغر الفينومينولوجيا هي تأويلية (هرمينوطيقا) تُعنى أساسا بتصرّفات الإنسان في حياته اليومية. ولتأدية هذا العمل فإنّ هايدغر اختار لنفسه المهمّة الوعرة لإحداث قاموس من المصطلحات الجديدة، التي لا تمتّ بصلة للمصطلحات التقنية الموروثة عن أفلاطون وأرسطو، بل معظمها مستعارة من كلمات وجمل يومية صبيانية (every day “nursery” words and phrases). ويفترض رايل بأن وراء رسم هذه المصطلحات الجديدة هناك اعتقاد عند هايدغر مفاده أن بعض الجُمَل والكلمات الصبيانية هي أكثر تحرّرا في التعبير عن المعاني الأولية من سفسطة الكلمات التقنية التي رسّختها الفلسفة طوال تاريخها. هذه الأطروحة، يقول رايل، خطيرة لأنّ في مصطلحات الفلسفة والعلم، وليس في لغة الريف وروضة الأطفال، استطاع الإنسان أن يتخلّص نوعا ما من سجن الاستعارة(5). الاعتراضات التي قدّمها رايل على “الوجود والزمان” والنقد الموجّه لبعض الفصول منه، كلّها نابعة من هموم نظرية بحتة. الخلل الأوّل في تأويل الوجود من خلال هرمينوطيقا الدازاين، يكمُن في الادعاء بأنه من البديهي أن فَهمَ إنيّتي وأفعالي تعود بالأساس إلى معرفة ما أنا فاعله وما أصِيرُه. هذه النظرية، يقول رايل، هي نفسها التي نجدها عند برنتانو وهوسرل ومفادها أنّه في “الإدراك الذاتي المُحايث” لديّ منبع لبداهةِ ذاتيةِ الحكم، ولا يوجد مصدر بديل منه. كلّ درجة من درجات البداهة في أيّ حكم موجب أقوم به ينبغي أن يؤسَّس على البداهة الحدسية للإدراك الذاتي. لكن، في الوقت الذي ليس هناك اعتراض على أطروحة أنه بمقدوري أن أعرف تجاربي و“الأنا” الذي يملكها، هناك، على العكس من ذلك، شكوك حول الزعم بأنّ ذلك كلّ ما أقدر على معرفته، أو، إن استطعتُ أن أعرف شيئا آخر، لا يمكنني أن أعرفه إلاّ من خلال معرفتي أوّلا بتجاربي (my experiences) و“أناي” (my “I”). هذا الزّعم هو بعيد عن أن يكون بيّنا بذاته، بل يبدو لرايل شيء متناقض. على كلّ حال هذه الأطروحة مَبنيّة على نظريةِ معرفةٍ وعلى ميتافيزيقا مسبّقتين وبالتالي فإن فينومينولوجيا مؤسَّسة عليهما ليست بفينومينولوجيا خالية من أيّ فرضيات مسبقة (presuppositionless) كما يزعم أصحابها. لكن هناك شيئا اعتبره رايل التِباسا حيويا (vital ambiguity) حاضرا في تلك النظرية الموسّعة للفينومينولوجيا التي جعل منها أصحابها الأساس المنطقي الأول، ليس فقط للسيكولوجيا، بل للمنطق، والميتافيزيقا، والرياضيات والعلوم الطبيعية. فلأجل تقبّلهم لفكرة برنتانو التي استعادت توجّه لوك ـ هيوم في التمييز بين فعل التمثُّل والمحتوى (أي الموضوع المحايث)، الفينمينولوجيّون عمّموا هذا المبدأ ووجدوا في كلّ ظاهرة من ظواهر الوعي، أي في كلّ فعل قصدي (in every intentional act) أو تجربة، وجهين: الأول هو الفعل والثاني هو المحتوى أو المعنى. وحسب هذا الطرح فإنهم ينظرون إلى أي شيء أو حدث ما، كلّ علاقة أو كلّي، كلّ مفهوم مُتصوَّر، على أنّه مُساوِق موضوعي لفعلِ وعي معيّن يشير إلى معرفة ما، أو افتراض ما أو انشغال بـ، أو انتظار لـ، أو اهتمام بـ. وبما أن من مشمولات الفينومينولوجيا تحليل حالات الوعي وفعالياته الذاتية ، كلّ شيء يغدو بالتالي مرسوما في شبكة الوعي؛ لأنّ جميع الأشياء تملك معنى بالنسبة لي، ودلالة الفعل، أو الأفعال التي لديها معانيها بالنسبة لي هي الموضوع الخاصّ لعلم القصدية(6). لكن في الوقت الذي يكون فيه محض استعارة خطيرة التحدّث عن أفعال لها معانٍ، أو أشياء هي “معانٍ للأفعال”، بالمثل يبدو أنّه من الخطأ الجسيم التحدّث عن شيء معلوم على أنه المساوق لفعل معرفتي بحيث تغدو إمكانية الذهاب إلى قلب الأشياء مُتاحة عن طريق تحليل تجربتنا في معرفته. إنّ تَوْأما ما هو مُساوق لِتَوأمٍ آخر لكن العمليات الذهنية على الواحد هي في الأغلب عمليات على التوأم الآخر، وليست على التوأم الأخر في حدّ ذاته. وهذا المنحى يؤدّي أيضا إلى نتائج خطيرة في ممارسة المنهج الفينمينولوجي: وهو ما قادت إليه تحليلات “الوجود والزمان”. لأنّ حضور معرفة بعض الوقائع (والتي هي حاضرة في أيّ تجربة وعي)، على الرغم من أنه ليس معترف بها صراحة، فهي تتسرب خلسة مُتلحّفة بعبارات مثل “معرفة” و “إشراق” بالإضافة إلى العديد من المصطلحات الصبيانية التي يرغب هايدغر في نحتها وإدماجها في قاموسه الفلسفي الجديد. هناك مثلا الصفة العامة لوعينا الوجودي على أنه “الوجود ـ في ـ العالم”، من الأكيد أنها تشمل ضمنيا ردود أفعالنا الأخرى ومواقفنا المبنية على قاعدة معرفة ما. نحن لدينا عالم، أو نحن “في ـ العالم” فقط إذا كنّا على الأقلّ نعرف أنّ شيئا ما هو موجود. وبالمثل فإن محاولة اشتقاق معرفتنا بالأشياء من خلال طريقة استعمالنا للآلات لا يفي بالغرض، لأن استعمال آلة ما يفترض ضرورة معرفة ماهيتها، وما يمكن عمله بها، والغاية من استعمالها. وإذا أردنا أن نسمّيَ الأشياء التي نعرفها “مساوقات لأفعال المعرفة”، يجب علينا، على الأقلّ، الاعتراف بأن تحليل ماهية تلك الأشياء ليس في مرتبة أدنى ولا ينبغي أن يكون بالضرورة مسبوقا بتحليل أفعال معرفتنا بها، لكن فقط بمحاولة طلب معرفة أكبر بالأشياء ذاتها(7). هذا الالتباس المُعتّم، كما يقول رايل، هو بالإضافة إلى ذلك مسؤول عن عملية تحديد المعنى الذي تطرحه تعاليم الفينومينولوجيا. الأشياء التي أعرفها والتي أضفيها معنى ما، عن طريق الرموز كقضايا، هي من جهة لفظية “المعنى” المُضفَى على الكلام: لكنها ليست (إلاّ بالعرض) تجربة حياتية أو مُجرّد فعل للوعي؛ ولا هي أيضا شيء مُكوَّن من طرف فعل وعي (an act of consciousness). فقط من جهة تعبير آخر لكلمة “المعنى” يفيد شيئا مشتقّا من حالة أو فعل وعي ـ خصوصا حينما لا يكون الشيء مشارا إليه برمز ما، لكن من حيث أن هذا الرمز يرمز إلى ذاك الشيء. ولكن إن اعترض معترض بأنه حتى فعل الترميز ذاته يخضع لحالات وعي خارجة عن مجال الضرورة المعرفية، وأنّ « رمزا ما يرمز (a symbol symbolizes) لأننا نحن اخترنا أن يكون كذلك، وبالتالي فإن معناه (أو لامعناه) هو ليس إلاّ نتاج فعل الوعي (is the product of an act of consciousness)»، يجيب رايل، وهو محق في ذلك، أنّ « منشأ دلالة رمز ما ليس هو منشأ الشيء الذي مُهمّته الترميز بقدر ما أنّ الغابة التي ينمو فيها عمود الإشارة هي الشبه للمدينة (the parental home) التي يصوّب إليها عمود الإشارة(8)». يقول رايل بأنه خطّ هذا النقد ضدّ تعاليم هوسرل ـ هايدغر في المعنى، نظرا لأن نَهجَهما التمثلي يؤدي، في نهاية المطاف، إلى نوع من الذاتوية: فعَالَم الأشياء والأحداث ليس إلاّ نسيجا من المعاني المتولَّدة من أفعال الوعي. وهو يعتقد بأنّ السبب الوحيد في أنّ هرمينوطيقا الدازاين عند هايدغر، التي أخذت أو وعدَت بأن تأخذ شكلا من أشكال الميتافيزيقا الأنثربولوجية، نظرا لأن هايدغر يفترض مسبقا بأن المعاني التي جاءت تأويليته لسبرها وإيضاحها، ينبغي أن تكون مكوّنة من طرف الذات. هذا حسب رايل هو الإرث السلبي واللاواعي الذي ورثه هايدغر من هوسّرل وكان له أثر مفسد على نسقه الميتافيزيقي. ولا يُخفِي الرجل إعجابه بتحاليله الفينومنولوجية التي فعّلها لوصف كيفية اشتغال الروح الإنساني. إلاّ أن هذا الإعجاب لم يَمنعه من ترديد حكمه الذي رأيناه أعلاه من أنّ الفينومينولوجيا كفلسفة أولى، في الوقت الحاضر، تقود إلى الإفلاس والكارثة، وقد تنتهي إمّا بذاتوية مدمّرة لنفسها أو إلى “تصوّف هوائي” (a windy mysticism) كما هي الحال عند هايدغر. مُراجعة جافة وأكاديمية إلى أبعد الحدود، واضحة وجلية في تعابيرها، وقد انتقى صاحبها النقاط التي ارتآها مُهمة وخطيرة في عمل هايدغر والمعضلات النظرية التي أخلصت إليها: ما شدّ انتباهه هي التعبيرات الصبيانية في مصطلحات هايدغر، والمنعرج الذاتوي الذي قد تؤدي إليه الفينومينولوجيا، ثمّ اعتباطية الدلالات التي تذهب بروح الموضوعية العلمية. لم يتناول النقاط التي قد توحي بتوجّه سياسي واضح ولا استوقفته تلك العبارات المحرجة مثل “القدر” و“المصير” و“البطولة” و“الموت”، لم يفعل ذلك وقد يكون عن حصافة وحيطة، لأن آثار الحرب الأخيرة مازالت عالقة بالأذهان ومن غير المجدي إعادة إثارة النّعرات والعداوات بين الشعوب الأوروبية. 3 ـ الماركسيّون في مواجهة الهايدغارية: الفلسفة التي نبعت من تخمينات هايدغر، بعد الضجة الكبرى التي أحدثتها، وربما بعد أن قام بإشهارها عن غير قصد كارناب (R. Carnap) في مقاله الشهير “مجاوزة الميتافيزيقا عن طريق التحليل المنطقي للّغة”، لا يمكن أن تمرّ دون أن تسترعى انتباه المفكرين الاشتراكيين. تيودور هارتفيغ (Hartwig) في كتابه عن الوجودية (Der Existenzialismus)، حاول التصدي لهذه الفلسفة ووضعها في مكانتها الخاصة، أي باعتبارها إيديولوجيا رجعية. فالتنظير الفلسفي، من وجهة نظر سوسيولوجية ماركسية، كان دائما في تلاحم متين مع تطور الحياة المادية السياسة، بحيث أن هناك علاقة تفاعل ضرورية بينهما. الحالة الراهنة التي برزت فيها الايديولوجيا الوجودية، هي حالة أزمات اقتصادية واجتماعية، ومن الطبيعي أن تنعكس هذه الأزمات على الإنتاج الفكري وتأثر فيه. الوجودية ـ حسب هارتفيغ ـ هي هروب روحي من واقع اقتصادي فوضوي ومُشوّش، ولذلك فهي قد لعبت دور « المُصاحَبة الموسيقية لاقتصاد رأسمالي يُنتِج بصيغة عشوائية(9)». هارتفيغ يقول بأن هناك ارتباطا بين الوجودية والفاشستية: لقد نَبَعا من نفس الواقع الاجتماعي، ومن نفس الإحساس الذي نشأ في خضمّ الأزمة الاقتصادية العامة والتي رافقتها حالات توتر وفقدان الأمان الوجودي بالعيش. السمة الغالبة على فكر هايدغر هي مواقفه المثالية الشخصانية، والتي تمثل ردّة فعل البورجوازية الصغيرة التي شعرت بأنها مُهدّدة من طرف المسار التقدمي للتاريخ. والدليل على أن فكر هايدغر هو مصاحبة موسيقية لأزمة الاغتراب التي تعيشها الإنسانية الحديثة، هو أنه عوضا عن ادانة ذاك الاغتراب كما تفعل الماركسية، فهو يجذره، ويجعل منه ملازما أنطولوجيا للوجود. إن تشديد الوجودية الهايدغارية على بؤس الإنسان، على مقذوفيته في العالم، يشبه إلى حدّ ما قانون مالتوس الذي يُبرّر البؤس عن طريق عدم تكافؤ التطور الديموغرافي والإنتاج المادي. الجانب السياسي الراهن لهذه الإيديولوجيا لا يمكن أن يَخفى على أحد، وهو أن البورجوازية وجدت تِعلّة للتملّص من مسؤوليتها عن بؤس الطبقة الشغيلة: فقانون الطبيعة الحتمي عند الفكر البورجوازي، وأنطولوجيا نهائية الدازاين عند هايدغر، هما وجهان لعملة واحدة، حيث أنهما يُريحان البورجوازية من تحمل مسؤولياتها، ويبرران استغلالها، ويسدّان أمام الطبقة الشغيلة أي منفذ للتمرّد ضد المسبب في بؤسها. أما على الجانب النظري فإن هارتفيغ يُركّز بشدة على الجانب المعادي للعلم من فكر هايدغر. فعلا، في “الوجود والزمان”، هايدغر يلاحظ بشيء من الغبطة حالة الأزمة التي تمرّ بها العلوم الوضعية، ولكن ـ يعترض هارتفيغ ـ يبدو أنه لم يتفطّن إلى وجود أزمة تضرب الفلسفة في العمق. لو أنّ هايدغر تعاطى الفيزياء الحديثة، لكانت لديه آراء متوازنة، ولوضَع أقلّ ثقة في المنطق الإنشائي للفلسفة. الفلسفة الوضعية، كما يلاحظ الكاتب، كانت قد تجاوزت منذ زمان الميتافيزيقا وإشكالاتها، وبالتالي من غير المستساغ أن يتجاهل هايدغر نتائج البحوث العلمية. وفي هذا الشأن فإن نظرية النسبية مثلا تفرض مفهوما للزمن مغايرا للتجربة التي نقوم بها في العالم المحسوس؛ كل تفكير حول هذا المفهوم يجب أن يَتعلّم من الاكتشافات الحديثة. وعلى هذا الأساس فإنه من غير المشروع أن يتناول هايدغر « مكانية الدازاين والمكان (Die Räumlichkeit des Daseins und der Raum)» في الفقرة 24 من الفصل الثالث، على هذا النحو: « لا المكان هو في الذات، ولا العالم في المكان. بل بالأحرى المكان هو الموجود “في” العالم، لأن الوجود في العالم، مُكوِّن للدازاين، قد فتح دائما المكان. إذن المكان ليس هو في الذات، ولا الذات تَعتبِر العالم “كما لو أنه” في مكان؛ الحقيقة أن الذات مُعتبَرَة في أنطولوجيتها الأصيلة، الدازاين، هي في ذاتها مكانيّة. ولأجل أن الدازاين مكاني بهذا المعنى، فإن المكان يَتمَظهر ماقبليا(10)». لكن حسب هارتفيغ، المكان الإقليدي الذي هو أقرب إلى حدوسنا الطبيعية قد أظهَرَ عدم كفايته للتعبير عن مقولة المكان النسبي. فعلا، المكان المنظور يجب أن يُمَيَّز عن المكان المُتصوَّر علميا؛ فالمكان عامة ينبغي اعتباره بالتناسب مع مُحدّب يَتَغيّر باطراد متطابق مع مجال الجاذبية(11). أما في ما يخص تحليلات هايدغر للحالات الوجدانية مثل “الانشغال” كمُكوِّن للدازاين؛ الرعب من حيث هو ضرب من “الوضعية الوجدانية”، يقول هارتفيغ إن الكلمة الأولى والأخيرة في هذا الشأن لا تعود إلى الفلسفة بل بالأحرى إلى علم النفس. فتحليلات هايدغر إذا قارناها بالملاحظات الإكلينيكية الميدانية لعلماء النفس، تبدو ـ حسب هارتفيغ ـ «ثرثرة أنطولوجية». ثم إن تجاهل هايدغر المتعمّد لنتائج أبحاث التحليل النفسي هو ادّعاء خطير، فضلا عن أنه إخلال بالموضوعية العلمية. هارتفيغ يرى أنه بدون مساعدة التحليل النفسي لا يمكن تفسير ظاهرة الضمير. فهايدغر مثلا يُلصق بالضمير مسؤولية خطيئة أصلية، على الشكل المسيحي البروتستانتي. وبخصوص هذه الملاحظة فإن مفاهيم هايدغر بدت للعديد من المفكرين وكأنها نابعة من مقولات لاهوتية مُقنّعة. ماكسيمليان باك (Beck) أشار هو أيضا إلى أن « الإنسان الذي يُطمَح إلى تحليل وجوده هو طبعا الإنسان آدم: خطيئة ـ موت ـ عدمية (Schuld-Tod-Nichtigkeit) هي “الخطيئة الأصلية” للإنسان المُداس من طرف لانهائية الإله، والنازل في هاوية المَحدوديّة(12)». أما اعتراض هارتفيغ على الطريقة التي زج بها هايدغر بمعتقد الخطيئة الأصلية في سياق تحاليله الفلسفية، يمكن تدعيمه من خلال الفقرة 59 من “الوجود والزمان”، حيث يرى أن « التجربة اليومية للضمير لا تَعرف شيئا مثل استفاقة الخطيئة(13)»، لأن الضرب الأصيل لوجود الدازاين هو “أن يكون مقذوفا به”. في رأي هارتفيغ هذا التحليل الهايدغاري للضمير (Gewissen) خاطئ على طول الخطّ، ذلك لأن حالات وجدانية مثل الرّهبة والرعب والانشغال، التي اعتبرها أوضاعا وجودية، يُمكن فهمها بطريقة أفضل من طرف علم الأنثربولوجيا. هذه الوِجْدانات على كل حال موجودة في المجتمعات البدائية، لكنها تتنزّل كمكوّنات عينية لمَعيوشهم اليومي: الخوف من الحيوانات المفترسة، الرعب أمام قوى الطبيعة المجهولة، الإنشغال بتوفير الغذاء. أما تحاليل هايدغر فإنها، حسب هارتفيغ، غير ذات معنى أصلا، وفكرة “بنيات وجودية” لوعينا لا طائل منها. لا يمكننا أن نُفسّر الوعي دون الرجوع إلى اللاوعي، وإلى سيرورة الإحساس بالذنب التي قد تكون ثاوية فينا منذ الصّغر لأسباب بيّنها المحللون النفسانيون. ولذلك فإنها خيالية تلك التأويلات اللاهوتية للوعي، ومحاولة صهرها في قوالب فلسفة الوجود هي محاولة عبثية. لكن حتى نظرية التحليل النفسي، بالنسبة لهارتفيغ، غير كافية لتفسير العصاب الجماعي المتجسّد في ظاهرة الوجودية. هذا علاوة على أنها لا تَفي بأغراض التحرر، نظرا لأنها تتربص بها منعرجات استبدادية معادية للديمقراطية. ضدّ هذا التصوّر العدمي ـ هارتفيغ ـ يدعو إلى تجاوز الفردانية البورجوازية، عن طريق تَمتين الحس الاشتراكي لأنه لا يمكن تحقيق المساواة، والعدالة الاجتماعية إلاّ بالعمل التعاضدي؛ وبهذا المعنى يجب أن تُفهم الممارسة الثورية للماركسية. 4. صناعة الأساطير والثرثرة: أنا أعجب كيف قال دريدا بأن “الوجود والزمان” لم يُقرأ بِجدّ ولم يُفهم بما فيه الكفاية، وهذه الفكرة ما زالت سائدة بين أتباع هايدغر إلى اليوم. كان عليهم أن يَبحثوا ويُنقّبوا في الأدبيات الفلسفية العديدة التي تَحَمّل فيها أصحابها عناء الغوص في ذاك الكتاب ونقده بصورة جدية. لقد قدّمتُ مثالا من الفيلسوف الانجليزي جلبارت رايل، وعرضتُ موقفه السلبي من عمل هايدغر هذا. وها أنا ذا أقدّم مثالا آخر أكثر نقدا من الأول، وهذه المرة جاء من أحد الفلاسفة الذين كانت لهم معرفة شخصية بهايدغر منذ بدايته، وهو يوليوس كرافت (Julius Kraft)، الذي فرّ هاربا إلى أمريكا إثر إصدار الرايخ الثالث للقوانين العنصرية ضد اليهود، والتي مزقت المجتمع الألماني في العمق. فلسفة الوجود، حسب كرافت، تصبو إلى أن تكون شيئا جديدا كلّ الجدّة، ونقطة تَحَوّل هامة في تاريخ الفلسفة، وعلى الرغم مِن أن العديد من الناس انجرّوا وراء هذا المعتقد، بعد أن كرّره أصحابه حتى التّخمة، فإن « النسق كما هو في ذاته لا يُبرّر هذا الهدف أبدا(14)». فهو يُبدي فقط مجرد زخرفة في ثوب حديث لنمط قديم من التفكير والذي، إن حُذفت منه تلك الزخرفة، فإنه سيفقد حتما ليس فقط أية قوة إيحاء، بل سينزوي خارج إطار أي حوار فلسفي جدّي. إذا تمعنا جيدا في فلسفة الوجود فستبدو لنا أنها فلسفة مُتعسّفة، وكل فلسفة تحمل هذه السّمة فإنها غريبة عن الحقل المعرفي، وبالتالي غير موفية بشرط الإقناع العلمي؛ يُمكنها، في أقصى الحالات، أن تُغري، يَعني أن تُغلق نفسها في مُوضَة التسلّط(15). وليس من سبيل الصدفة أن فلسفة الوجود تَستخدِم لغة سرّية لكي تُبهِر بها النفوس وتُدعّم قيمتها: لقد غدت هذه التقنية علامتها المميزة ومنهجيتها الخاصة. فلسفة الوجود تزعم بأنها فلسفة ملتصقة بالحياة، بالمعيوش اليومي، على خلاف تلك الأنساق الفلسفية المجردة المقطوعة عن العالم والتي تُنتِج تخمينات فاضلة. يجب العيش في البداية، ثم التفلسف كما يقول المثل اللاتيني (primum vivere deinde philosophare). لكن، يعترض كرافت، حتى هذه الدعوة لا تخلو من تسليم نظري مسبق، وعلى هذا الأساس فإن فلسفة الوجود هي مواصَلة لفلسفة الحياة التي أسسها برغسون، مع اختلاف جوهري: وهو أن الحياة في فلسفة الوجود ليست هي بالحياة اليافعة، “الخضراء” كما في “التطوّر الخلاق”، بل هي “رمادية” كالنظرية التي تُناهضها فلسفة الوجود. منابع فلسفة الوجود يَردّها كرافت إلى كيركغارد وخصوصا إلى موقفه من الدين والفلسفة. لقد شرّطت قناعته البروتستانتية في الخطيئة الأصلية جملة مواقفه الفلسفية: “رهبة ورعب” هذا ما ينصح به كيركغارد، “قلق وغثيان” هذه وِصفة هايدغر. وعلى الرغم من قرفه من الفلسفة، فإن زعيم التيار الوجودي كيركغارد، الذي عارض بشدّة عقلنَة هيجل للمسيحية، ينطلق من مسلّمة مضمرة: مسلمة اعتباطية مفادها أنه إذا فشلت فلسفة هيجل فإن الفلسفة برمتها فاشلة. وفلسفة هيجل فاشلة إذن، يستنتج كيركغارد، الفلسفة برمّتها هي مجرد أوهام. الدين المسيحي غير قابل للتجريد، وغير خاضع للعقلنة الفلسفية، إنه فقط موضوع فعل إيمان. لكن الإيمان لا ينتمي إلى مملكة المعرفة، ذلك لأنه إذا كان هناك مجال مستقلّ للإيمان، ينبغي أن يتموقع خارج مجال المعرفة النظرية. هذا الشرط يتحقق فقط في الذاتية، في الوجدان، في المعجزات والأسرار، في “الوجود” الذي هو ذاتي، حميمي. الوجود عند كيركغارد، هو ليس إلاّ العادة السيكولوجية التي على أساسها يشارك الإنسان المسيحي في دينه الموحى. يقول كرافت بأن شيئين يَشدّان الانتباه في هذا الموقف الوجودي: صدقه اللاهوتي أوّلا، وتهافته الفلسفي ثانيا. صدقه اللاهوتي يَصله بقولة ترتوليانوس “أومن لأنه محال” (credo quia absurdum): الاعتقاد غير قابل لأي نوع من العقلنة. الوجودية الحديثة هي، في جوهرها، تراجع نحو اللاهوت، حتى ولو أنها، عرضيا، مثلما فعل هايدغر، تتباهى بكونها ملحدة. لكنها تبقى على الرغم من هذا فلسفة لاهوتية من حيث رفضها مبدئيا البراهين على مقدماتها، وبالتالي فهي تسحب المبدأ المنهجي في المعتقد اللاهوتي على الفلسفة. من خلال مقدماتها ونماذجها التاريخية فإن « فلسفة الوجود ـ في رأي كرافت ـ هي فلسفة مفارقات، وأساس مفارقاتها الخاصة هو المقدّمة التي ترى أن حكمة الفلسفة تكمن هي ذاتها في مفارقة(16)»؛ ثم إن تركيبة فلسفة الوجود ليست لاهوتية من الجانب الصوري فقط، بل من الجانب المادي أيضا لأنها تحاول، عن طريق نقد الطبعانية (naturalism)، إقامة أنطولوجيا جديدة، يعني محاولة الرجوع إلى نمط من التفكير تمّ تجاوزه في الفلسفة المعاصرة. وما يثبت غايتها اللاهوتية المُقنّعة، طموحها في اشتقاق الواقع الإمبيريقي مِن علّة أولى. هايدغر وجد ضالّته في مفهوم العدم، جاعلا منه الجوهر الأول، وهذا العمل يُرجعه إلى أحضان اللاهوت، وتَبقَى محاولته، في العمق، مجرّد تأسيس دينيّ للعالم الإمبيريقي: « فلسفة الوجود هي محاولة جديدة ترمي لتقوية، دون معرفة، ما لا تثق بمعرفته: الحقيقة الدينية(17)». “هايدغر هو من بين فلاسفة الوجود الأكثر أصالة في اصطناع الأساطير؛ وأكثرهم جديّة في تنسيقها هو كارل ياسبرس”: هذا رأي كرافت. مع هايدغر نعثر على هذه الفلسفة الجديدة اللاعلمية (non-scientific) في شكلها المحض. فهو يفتتح عمله “الوجود والزمان” بتصدير مُهيب، إذا قرأناه جيدا وتمعّنا فيه بجدّية، فلا حاجة لمواصلة قراءة ما بعده. لقد أوّل خطأ أغراض محاورة السفسطائي لأفلاطون، التي تحاول الفحص في الميتافيزيقا عن طريق التفكير الواضح، طارحا السؤال التالي « هل لدينا اليوم إجابة عن سؤال ما معنى كلمة وجود؟ لا. أبدا. إذن يجب طرح السؤال مرة أخرى حول معنى الوجود». يبدو من الوهلة الأولى أن السؤال المطروح هنا هو بالدرجة الأولى فيلولوجي، وليس بفلسفي إطلاقا. لكن من يعتقد كذلك يَنسَى كلمة هامّة استخدمها هايدغر في سؤاله، أي كلمة “حقيقي”. فاهتمامه لا ينصب على تعدد معاني كلمة “الوجود”، ما يرغب فيه هايدغر هو التوصّل إلى المعنى الصحيح للوجود، الذي يُمظهر الوجود الحقيقي(18). لكن، حسب كرافت، من المعلوم أن معنى حقيقيّا للوجود هو مجرد تناقض، إذ أن لا شيء يَقِينا من أن نسمّي وجودا ما، شيئا نشتهي تسميته كذلك، وهايدغر استعمل هذه الطريقة على نطاق واسع. ولهذا فإن انتقاء مصطلحات مثل الـ“حقيقية” أو الـ“واقع” تصبح عملية اعتباطية خصوصا إذا عمد أحدهم إلى خلط الجانب الفيلولوجي مع التحديدات المنطقية والميتافيزيقية، ثم التعاليم الدينية (معنى الوجود). الخلط، يقول كرافت، هو نقطة الانطلاق (the starting-point) لنسق هايدغر، الذي عمّده بنوع من الأبّهة (bombastically) داعيا إياه بـ“أنطولوجيا أساسية”. إنها مجرد ميتافيزيقا فيلولوجية وذلك بوجهين: الأول، لأنها تَعفِي تحليلها للمعاني اللفظية من واقع اللغة، والثاني لتكريسها تلك الاملاءات على أنها حقيقة فلسفية(19). ويشير كرافت إلى أن هايدغر باستعماله المكثف للتحليل الفيلولوجي، فهو يسير على هدي نيتشه حيث أن نقده وتركيباته الاعتباطية مشتقة أو مَبنية على “حرية التأويل”، لكن هناك اختلافا جوهريا بين هايدغر ونيتشه لأن تأويلات هذا الأخير فيها بعض الإيحاءات، رغم أنها أنصاف حقائق، مُعَبَّر عنها بلُغة واضحة وأسلوب خلاب، في الوقت الذي غدت فيه أنطولوجيا هايدغر، من أوّلها إلى آخرها، تتآكل في خليط قاحل ومجموعة من الالتباسات(20). لقد انعكست منهجية الخواء الفيلولوجي، عند هايدغر، على مُجمل تحليلاته في “الوجود والزمان” لكي تُشرّط حتى مقاربته لمصطلح علم الفينومينولوجيا، الذي أصبح عنده شكلا من أشكال فينومينولوجيا الثرثرة (verbalistic phenomenology). فهو يَعمَد إلى تقسيم كلمة فينومينولوجيا إلى قسمين: “فينومينون” و “لوغوس” محاولا استقصاء معنييهما على حدى. النتيجة التي استخلصها مزدوجة: الأنطولوجيا الأساسية تصبح الآن فينومينولوجيا، وذلك بفضل الثرثرة. قبل كل شيء يُترجم الفعل اليوناني “ظهر” (φαινεσθαι) ومنه يشتق معنى حق، ثم يعمد إلى تحديده على أنه المعنى الحقيقي لـ“الظاهر”، «الظاهر في ذاته (das sich an ihm selbst Zeigende)»، والآن يأتي تأويل المعنى الأساسي لـ“لوغوس (λογος)”: اللوغوس يعني خطابا ما، يَسمَح لنا بالنظر. الفينمينولوجيا يمكن تعريفها كالآتي: إنها تتمثل في (λέγειν τα φαινόμενα) “قول الظاهر”. لكن بما أن معنى (λέγειν) تتضمّن الـ(αποφαινεσθαι)، نحصل على المعنى الحقيقي للفينومينولوجيا الذي هو: “ما يتركنا ننظر إلى الأشياء ذاتها بالتحديد كما تبدو”. وإذا ما أبدلنا “ما يظهر لنا” بـ“ما لا يظهر لنا في البداية وفي مُعظمه” سنكون قد حققنا غايتنا الأنطولوجية الأولى. الفينومينولوجيا تتبع نهج التأويل، الهيرمينوطيقا، وهذا ما يدعم خاصيتها على أنها ميتافيزيقا فيلولوجية. ولمعرفة الوجود المحض في أساسه الذاتي، هايدغر ينطلق من تحليل أوّلي للإنسان، واضعا له هذه المرة لقب الدازاين ـ تسمية غريبة جدا، كما يقول كرافت، ومع ذلك فإن هايدغر وجد لها تبريرا هيرمينوطيقيا. الفينومينولوجيا الهوسرلية تفترض حدسا للذوات من طرف الوعي المحض، هايدغر مسايرا لهذا الماقبلي النظري للإنسان، يردفها بتحليل الموجود هناك؛ لكنه يستخدمها لكل الأغراض ما عدا الغرض النظري: تحليل الحياة اليومية أو، بأكثر دقة، هرمينوطيقا لصنف من المصطلحات اصطُنعت خصّيصا له، في هذه الفلسفة الحَاجّة ـ كما يصفها كرافت (Philosophy in a pilgrimage) ـ حيث يطوف بنا صاحبها لأكثر من 500 صفحة كي نَصِل إلى عتبة مَعبد الميتافيزيقا: الوجود بما هو وجود. لقد تخلى هايدغر عن مطلب هوسرل لبناء فلسفة علمية، واعتبر الفلسفة غير قابلة للقياس بمعيار العلم، وأن الفكر المجرّد غير قادر إطلاقا على اكتشاف حدث الوجود والعدم، ولهذا ماح إلى التجربة الوجدانية من قلق ورهبة. لا بل إنه حسب كرافت، بعد أن استقال عن المطلب العلمي ارتمى في دوامة التصوّف(21). الفعالية الفلسفية عند هايدغر يجب أن تكفّ عن أن تكون فعالية معرفية ذات غايات تأسيسية، وبالتالي فهي منذ البداية لا تريد إلاّ أن تكون سرّا (nur ein Mysterium) وأن يُعتَقَد فيها على أنها كذلك(22). على هذا الأساس، فإن هايدغر لا يبرر الكيانات الجديدة التي ابتدعها، بل هو يسردها فقط. الأسلوب اللغوي الجديد الذي استخدمه في “الوجود والزمان”، كان قد استبقه إليه هوسرل حينما زعم بأن التحليل الفينمينولوجي يفترض لغة خاصة، لكن في الوقت الذي تميّزت فيه لغة هوسرل بأسلوب نقيّ في أعلى مراتب الوضوح (maximalster Klarheit)، وأفكاره خاضعة لدرجة من التنسيق فإن تقنية هايدغر يغلب عليها التشويش والثرثرة. وهذه التقنية الأسلوبية الممزوجة بالغموض سَمحت لهايدغر، في الآن نفسه، بحل مشاكل فيلولوجية، دينية ـ فلسفية ومنطقية (23). إن هرمينوطيقا هايدغر التي استمدها من ديلثاي هي أساسا عملية استبدال: فهو يستبدل معاني قديمة بحديثة ويُضفي على الكلمات القديمة مدلولات جديدة(24). بالنسبة لكرافت ليس من الضروري تطوير تأويلية الكينونة الإنسانية لإيضاح مفهوم الوجود: فالإشكالية هي من البساطة بحيث أنه « بفضل معنى الرابطة الوجودية في أي جملة، بفضل كلمة “هو” يمكن إيضاح مفهوم الوجود(25)». إن تحاليل هايدغر تبدو في ظاهرها عميقة ولكنها في حقيقة الأمر فاقدة لهذا العمق الأنطولوجي المزعوم. مثال على ذلك هو ثرثرة المعرفة. في إحدى صفحات “الوجود والزمان” يكتب هايدغر: « إذا أعدنا فحص ما يتجلى في المعطى الفينمينولوجي للمعرفة، يصبح واضحا أن المعرفة ذاتها تتأسس مبدئيا في ذلك الوجود ـ بَعدُ ـ لدُنّ ـ العالم (Schon-sein-bei-der-Welt) الذي يكوّن وجود الدازاين بما هو كذلك(26)». الثرثرة هنا تمسّ “الوجود ـ بَعدُ ـ لدُنّ”، فبكلمة “وجود ـ لدنّ” هايدغر يقصد، طبعا، الوجود ـ لدنّ الذي يفهم، وإذن « الإيهام بتأسيس أعمق للمعرفة ـ [تأسيس] يذهب أبعد من الفكرة المبتذلة التي ترى أن مَن يعرف يجب أن يُوجَد لكي يستطيع أن يعرف ـ تم إنجازه فقط عن طريق سفسطة لغوية(27)». وبهذه الطريقة فإن هايدغر، انطلاقا من كيانوية (Existential) “الوجود في العالم (in-der-Welt-sein)”، وبِجَمعِه الحرفين الأول: “في (in)”، والأخير: “وجود (sein)”، بَنى ضرب الـ“في الوجود (Modus In- Sein)” كشرط صوري لـ“الوجود ـ في ـ المكان”، يعني للانشغال: فِعلُ المعرفةِ يَستمدّ معناه الأنطولوجي العميق من ذاك “الإنشغال” الذي يتعامل بأدوات يومية(28). في النهاية يشير كرافت إلى الأغراض الإيديولوجية الثاوية وراء تخريجات هايدغر بخصوص النشاط المعرفي قائلا: « إن شيلر ذاته كان قد خلط، في نظريته للأخلاق وفي فلسفته للدين، الملكة المعرفية بفعاليات نفسانية أخرى وربَط بها نظرية التجلي الطبيعي للإله في الإنسان. هايدغر يكتفي بالأداة التي تتمظهر ويجتهد أمام قرّائه ـ الذين تَربّوا في المنهج الماركسي أو عموما السوسيولوجي على اعتبار المعرفة بنية فوقية لعلاقات الإنتاج وللمكانة الطبقية ـ لجعلهم واعين بالعمق الأنطولوجي لآرائهم. لكن قرّاءا آخرين، على العكس من ذلك، سيَضعون مقولات “الانشغال”، “الأداة”، “الاستعمالية” في رواق العجائب اللفظية لنظرية المعرفة(29)». هناك مثال آخر للالتباس اللغوي الذي يحدثه هايدغر في ذهن القارئ ويوهمه بالجدة النظرية، في الوقت الذي هو، مجرّد سفسطة. لكي يقدّم، في “الوجود والزمان”، حجة فينومينولوجية ما قبلية على ضرورة الموت انطلاقا من بنيات الزمن المعاش، يقول بأن « نهاية الكينونة كدازاين هي بداية هذه الكينونة كمجرّد حضور(30)»، لكن بالنسبة لكرافت هذه الفكرة، مُترجمة للألمانية (auf Deutsch)، تَعني بكل بساطة أن « نهاية الحياة هي بداية الموت (Das Ende des Lebens ist der Beginn des Totseins)(31)». وهي، على كل حال، إشكالية فيزيولوجية وليست بفلسفية. كرافت، في تقييمه لفلسفة “الوجود والزمان” يصل إلى نتيجة قد تكون جارحة لأتباع هايدغر، وهي، على أية حال، في تعارض مطلق مع ما قاله هايدغر عن نفسه، ومع التحديد الذي ألقاه على نقاد هايدرغ بأن يعودوا ويتمعنوا في ذاك الكتاب الزاخر أفكارا جديدة وفذة. نحن الذين لم نعش تلك الفترة، علينا أن نطوّع خيالنا ونحاول الولوج في جوّ ثقافي متأزم، طرح فيه هايدغر على الفلاسفة الأكاديميين نمط تفكير فلسفي جديد، رأوا فيه تهديدا من الداخل يضرب كيان الفلسفة في الصميم، ويهمّش مهمتها التثقيفية العظيمة. مِن مُجمل تحليلات “الوجود والزمان” يمكن الاحتفاظ، حسب كرافت، بشيء واحد وهو الثرثرة: « وصْف الثرثرة هو الثمرة الوحيدة على الإطلاق ذات الأهمية البالغة في الأنطولوجيا الأساسية، والت | |
|
الخميس أغسطس 06, 2015 8:42 pm من طرف هرمنا