إن إحدى أهم الحقائق الأساسية للحياة هي أن المستقبَل يبدو مختلفا عن الماضي، ولكنهما قد يبدوان متطابقين في المقياس الكُسمولوجي (الكوني) الكبير.
لا يتراءى لنا الكونُ سليما. وقد يبدو هذا كلاما غريبا إذا عرفنا أن علماء الكسمولوجيا يكادون لا يملكون معيارا للمقارنة. فكيف لنا أن نعرف الشكل الذي يُفترض أن يتّخذه الكوْن؟ ومع ذلك، فقد طوّرْنا على مرّ السنين حَدْسا قويًّا لما يمكن أنْ يُعدَّ شكلا «طبيعيا»؛ ويبدو أنّ الكونَ الذي نراه لا يتّفق وهذا الوصف.
لكن علينا ألا نسيء فهم ما نعنيه؛ فقد رسم علماء الكسمولوجيا صورة ناجحة إلى أبعد الحدود لما يُؤلّف الكون، وللطريقة التي تطور بها. فقبل 14 بليون سنة، كان الكون أسخن وأكثف من الجُزْء الداخلي لنجم. ومنذ ذلك الوقت، بدأ يبرد ويقلّ كثافة نتيجة لتمدّد نسيج الفضاء. وتفسِّر هذه الصورةُ تقريبا كلَّ رصدٍ أجريناه. بَيْدَ أن عددا من السِّمات غير العادية، خاصة في المراحل المبكّرة من نشوء الكون، يوحي أن هنالك المزيدَ ممّا يجب إضافته إلى ما نفهمه عن قصة الكون.
ومن بين السمات غير الطبيعيّة للكون، تبرز واحدة؛ ألا وهي لاتماثل الزمن time asymmetry . فالقوانين الميْكروسكوپيّة (المِجهريّة) للفيزياء التي يستند إليها سلوك الكون لا تميّز بين الماضي والمستقبل؛ ومَعَ ذلك، فإنّ الكون في بواكيره ـ حارٌّ، كثيفٌ، متجانسٌ ـ يختلف كلّيا عمّا هو عليه اليوم: بارد، غير كثيف، غير متجانس. لقد استهلّ الكونُ وجودَهُ خاضعا لانتظام، وهو آيلٌ منذ ذلك الحين بازدياد نحو اللاانتظام. إنّ لاتماثل الزمن، وهو السهم الذي يتجه من الماضي إلى المستقبل، يؤدّي دورا جليّا في حياتنا اليومية؛ إذ إنه يفسّر لماذا لا نستطيع تحويل عجّة البيض (الأومليت) إلى بيض؛ ولماذا لا يمكن الحيلولة دون ذوبان مكعّبات من الثلج موضوعةٍٍ في كأسٍ من الماء؛ ولماذا نتذكر الماضي، لكن ليس المستقبل. هذا، وإن أصل اللاتماثل الذي نعانيه يمكن تعقّبه بالسير إلى الوراء وصولا إلى انتظام الكون في زمن قريب من الانفجار الأعظم. وفي كل مرة تكسرُ فيها بيضة، فإنك تمارسُ الكسمولوجيا الرّصدية.
ربما كان سهمُ الزمن أكثرَ السماتِ الواضحةِ للكون التي تُوقِع علماء الكسمولوجيا في ضياعٍ كاملٍ عند محاولتهم تفسيره. إلاّ أنّ هذه الأُحجية حول الكوْن الذي نلاحظه تشير بازدياد إلى وجود زمكان spacetime أكبر بكثير مما لا نلاحظه. وهذا يضيف دعما إلى الفكرة التي مفادها أننا جزءٌ من كونٍ متعدّدٍ multiverse، تساعدنا ديناميّاته على تفسير ما يبدو أنه سماتٌ غير طبيعيةٍ لجوارنا المحلّيّ.
أحجية الإنتروپية (الاعتلاج)(**)يُضَمِّنُ الفيزيائيون مفهومَ لاتماثل الزمن في القانون الثاني الشهير للدّّيناميك الحراريّ thermodynamics، الذي ينص على أن الإنتروپية في نظامٍ مغلقٍ لا تتناقصُ البتَّةَ. وعلى وجْه التقريب، فإنّ الإنتروپية مقياسٌ للفوضى التي تسود نظاما ما. وفي القرن التّاسعَ عشر، فسّر الفيزيائي النمساوي
الإنتروپية بدِلالة الفرق بين الحالةِ الميكروية (المجهرية) microstate لجسم وحالتِهِ الماكروية (الجاهرية) macrostate. فإذا طُلِبَ إليك وصف فنجان من القهوة، فأغلب الظن أنك سوف تشير إلى حالته الماكروية: درجة حرارته وضغطه وسماتٍ عامةٍ أخرى. وبالمقابل، فإن حالته الميكروية تحدِّد بدقةٍ موضعَ كلّ ذرّةٍ من القهوة وسرعتها. هذا، وإن كثيرا من الحالات الميكروية المختلِفة تقابل كلّ حالة ماكروية معيّنة؛ فبمقدورنا تحريك ذرّةٍ هنا وهناك من دون أن يلاحظ ذلك أي شخص ينظر إلى المقاييس الماكروية.
الإنتروپية هي عدد الحالات الميكروية المختلِفة المقابلة للحالة الماكروية نفسها. (تقنيا، إنه عدد خانات، أو لغاريتم، ذلك العدد). وعلى ذلك، فإنه توجد طرقٌ أكثر لترتيب عدد معطى من الذرات في تشكيلٍ عالي الإنتروپية من ترتيبها في تشكيل منخفض الإنتروپية. تصوّر أنك تصبّ حليبا في فنجان قهوتك. هنالك عدد كبير جدا من طرق توزيع الجُزَيئات بحيث يصبح الحليب والقهوة ممتزجيْن معا كّليّا؛ لكنْ يوجد عدد قليل نسبيّا من الطرق لفصل الحليب عن القهوة المحيطة به. لذلك فللمزيج إنتروپية أعلى.
ومن وجهة النظر هذه، فلن نُصابَ بالدهشة من أن الإنتروپية تنحو إلى التزايد بمرور الوقت. إن الحالات ذات الإنتروپية العالية تفوق كثيرا في عددها الحالات ذات الإنتروپية المنخفضة؛ وتقريبا أي تغيير في النظام سيوصله إلى حالة ذات إنتروپية أعلى، بكلّ بساطة، بفضل قوانين الاحتمالات. وهذا هو السبب في أن الحليب يمتزج بالقهوة؛ لكنْ لا يمكنه البتة الانفصال عنها. ومَعَ أنه من الممكن فيزيائيّا لجزيئاتِ الحليب كافة أن تُخطّط تلقائيّا لترتب نفسها الواحدة بجوار الأخرى، فإن هذا يبدو بعيد الاحتمال إحصائيّا. وإذا انتظرتَ كي يحدث هذا طوعا حين تعيد الجُزيئات تنظيم نفسها عشوائيا، فعليك في الحالة النمطيّة الانتظار مدة أطول من العمر الحاليّ للكوْن القابل للرصد. سَهْمُ الزمن هو، ببساطة، نزوع النُّظُمِ إلى التطوّرِ صوْب واحدة من الحالات الطبيعيّة الكثيرة ذات الإنتروپية العالية.
لكن تفسير السبب في تطور الحالات المنخفضة الإنتروپية إلى حالاتٍ عالية الإنتروپية يختلف عن تفسير السبب في تزايد الإنتروپية في كوننا. ويبقى السؤال: لماذا كانت الإنتروپية منخفضة عند البداية؟ يبدو هذا غيرَ طبيعيٍّ للغاية إذا علمنا أن الحالات المنخفضةَ الإنتروپية نادرة جدّا. وحتى لو سلّمنا أن لكوْننا اليومَ إنتروپية متوسطة، فهذا لن يفسر السبب في أن الإنتروپية كانت حتى أقلّ. ومن بين جميع الظروف الابتدائية المحتملة، التي ربما تطوّرت إلى كونٍ يشبه كوننا، فإن للأغلبية العظمى منها إنتروپية أعلى، لا أدنى(1).
وبعبارة أخرى، ليس التحدي الحقيقي عدم تفسير السبب في أن إنتروپية الكوْن ستصبح غدا أعلى ممّا هي عليه اليوم؛ إنما هو تفسير السبب في أن الإنتروپية كانت أدنى أمس، بل حتى أدنى أوّلَ من أمس. ويمكننا تعقّب هذا المنطق بالعودة إلى الوراء، وصولا إلى بداية الزمن في كوننا القابل للرصد. وفي النهاية، فإن لاتماثل الزمن هو سؤال يتعين على الكسمولوجيا الإجابة عنه.
فوضى الفراغ(***)
كان الكون في بواكيره مكانا استثنائيّا. فقد كانت جميع الجُسَيْمات التي تكوّن الكوْن، الذي نرصده حاليّا، مضغوطة في حيّز تسوده حرارةٌ وكثافةٌ فوق العادة. والأهمّ من ذلك هو أنهما كانتا موزعتيْن بانتظام تقريبا عبر هذا الحيّز الصغير. ففي المتوسّط، كانت الكثافة تختلف من مكان إلى آخر بما يناهز جُزءا واحدا فقط في 100.000 ومَعَ تمدّد الكون وتبرّده تدريجيّا، عزّز جذْب الثقالة (الجاذبية) gravity تلك الاختلافات. فكوّنت المناطق التي تحوي عددا أكبر قليلا من الجُسيْمات النجومَ والمجرّاتِ؛ في حين فرغت المناطق التي تحوي عددا أقل من الجسيْمات لتكوّنَ البقاعَ الخالية.
[من النظام إلى الفوضى]
الإنتروپية (الاعتلاج) في المطبخ(****)
تقدم البيضة النيئة مثالا على لاتماثل الزمن؛ فالبيضة الطازجة تنكسر بسهولة، لكن البيضة المكسورة لا تجمع نفسها تلقائيا لتعود إلى حالتها الأولى، وذلك لسبب بسيط وهو أن عدد طُرق انكسارها يتجاوز طُرق عدم انكسارها. وبالمصطلح الفيزيائيّ، فإن للبيضة المكسورة إنتروپية أعلى.
من الواضح أن الثقالة كانت، وما زالت، حاسمة في تطوّر الكون. ولسوء الحظ، فنحن لا نفهم الإنتروپية تماما بوجود الثقالة. فالثقالة تنشأ عن شكل الزمكان spacetime؛ لكنْ لا يوجد لدينا نظرية شاملة للزمكان. وهذا هو هدف أي نظرية كموميّة (كوانتيّة) للثقالة. وفي حين يمكننا ربْط إنتروپية مائع بسلوك الجُزْيئات التي تكوّنه، فنحن لا نعرف ما الذي يؤلف الفضاء. لذلك فإننا لا نعرف الحالات الميكروية للثقالة المقابلة لأي حالة ماكروية معينة.
ومع ذلك، فلدينا فكرة تقريبية عن كيفية تطور الإنتروپية [انظر المؤطر في الصفحة المقابلة]. ففي الحالات التي يمكن فيها إهمال الثقالة، كمثل فنجان من القهوة، يكون للتوزيع المنتظم للجُسيْمات إنتروپية عالية. وهذا الظرف هو حالة اتزان. وحتى حين تُعيد الجسيمات تنظيم نفسها، فإن امتزاجها يكون قد بلغ حدّا لا يبدو معه أن الكثير منها يحدث ماكرويا(2) macroscopically. لكنْ إذا كانت الثقالة مهمة، وكان الحجم ثابتا، فيكون لتوزيعٍ ممهّد إنتروپية متدنّية نسبيّا. وفي هذه الحالة، يكون النظام بعيدا جدّا عن الاتزان. فتتسبّب الثقالة في تكتّل الجُسيْماتِ بنجومٍ ومجرّاتٍ، وتزداد الإنتروپية بشكل ملحوظ؛ انسجاما مع القانون الثاني.
إذا أردنا أن نعظّم قيمة إنتروپية حجمٍ ما حين تكون الثقالة فاعلة، فنحن نعرف ما الذي سنحصل عليه: إنه ثَقْب أسود. ففي السبعينات من القرن الماضي، أكّد [من جامعة كيمبردج] اقتراحا مثيرا لـ [الذي يعمل الآن في الجامعة العبرية بالقدس] مفاده أن الثقوب السوداء تنسجم بدقةٍ مع القانون الثاني. وكما هو الحال في الأجسام الحارّة التي صيغ القانون الثاني في الأصل لوصْفها، فإن الثقوب السوداء تبثّ إشعاعاتٍ، ولها إنتروپية؛ بل قدر كبير منها. فإنتروپية ثقب أسود واحد، كتلته تعادل مليون كتلةٍ شمسيةٍ ـ مثل ذلك الثقب الموجود في مرْكز مجرتنا ـ أكبر 100 مرّة من إنتروپية جميع الجسيمات العادية في كوننا المرصود.
وفي نهاية المطاف، فحتى الثقوب السوداء تتبخّر ببث إشعاع هوكينك. وليس للثقب الأسود أعلى إنتروپية ممكنة؛ لكنْ له فقط أعلى إنتروپية يمكن حشْرها في حجمٍ معيّن. بَيْدَ أن حجم الفضاء في الكون ينمو بلا حدود فيما يبدو. ففي عام 1998، اكتشف الفلكيون أن تمدُّدَ الكونِ متسارعٌ. وأفضل تفسير مباشر لهذا هو وجود طاقة معتمة(3). وهي نوع من الطاقة توجد حتى في الفراغ (الفضاء الخالي)؛ ولا يبدو أنها تتناقص بتمدّد الكون. إنها ليست التفسيرَ الوحيدَ للتسارع الكونيّ؛ لكنّ المحاولاتِ الجاريةَ للتوصل إلى فكرةٍ أفضل لم تنجح حتى الآن.
وإذا لم تتناقص الطاقةُ المعتمة، فإنّ الكون سيواصل تمدده إلى الأبد، وستختفي المجرّات البعيدة عن الأنظار(4). أما المجرّات التي لن تختفي عن الأنظار فستنهار؛ متحوّلة إلى ثقوبٍ سوداء تتبخّر بدورها في الظلام المحيط بها، مثلما يحدث لبُرَيْكة ماءٍ في يوم حارّ. وما سيتبقّى هو تقريبا كوْن فارغٌ. عند ذلك فقط، سيكون الكون قد زاد إنتروپيته إلى حدها الأعلى، وسيكون في حالة اتزان؛ ولن يحدث البتة أي شيء ذي بال.
الإثنين أبريل 17, 2017 9:22 am من طرف فؤاد