الجمالية، بين دُرَب العقل المتشعِّبة، مسألة مفتوحة. وكونها هكذا فهي أبداً سؤال يتوالد. وجواب العقل هو، بدوره، تفتيح أبعاد جديدة. إنها مسألة متحرِّكة ومحرِّكة في آن معاً. هنا جدليِّتها الدائمة، إنْ في مقوِّماتها التي تفلت من المعايير أو في أبعادها، كونية كانت أو فوق كونية métacosmique.
وإذا كل دُربة من درب العقل تجهد لتحدِّد كيانها فالجمالية هي الأصعب. إنها، بأبعادها، تصدُم. إنها تأبى الإطارية كما أنها لا تُحَدُّ في موضوع. وهي، على أية حال، لا تستسلم لأي منهجية. لذا:
الجمالية لانهائية. ولانهائيتها تُهمك العقل، تضنيه، تقرِّبه منها فلا يكاد يعقل أفقاً منها حتى يشفَّ ذلك الأفق، في ملء وضوحه، عن آفاق متلاحقة ضبابية، سرابية. وكونها قائمة في الوعي فالعقل لا يكف عن المحاولة. إنها هوى العقل وغُصَّته معاً.
والعقل، في محاولته، إذا تناول الجمالية علماً، يعجز لأن المعيارية – خاصِّية العلم الأولى – تقضي على الذاتية مصدر الحس الأوَّلي، وما يلازمه من انفعال ومن حياة جَوَّانية خزينة. وإذا تَدَاوَلَها حياة جوانية تمْسَ الذاتية موضوعَه فيميل ناحية علم النفس، كما أنه يلغي ما تبلور جمالاً ظاهراً ويُيُبِس الذات في إخضاعها له مفهوماً. والشعورية، بحد ذاتها، عاجزة عن تبرير ذاتها. وهكذا: أمام مسألة الجمالية يتساءل العقل: أهي فلسفة؟
(2)
تقرُّب من المسألة الجمالية بالمقابلة
العقل، في أرقى معاناته المعرفية، عرّف بالفلسفة أنها تبرير شيئية الشيء أكانت فلسفة محضة أم فلسفة شخصية. فالفلسفة هي عقلُ العقلِ موضوعَه، أي تعليل وجوده بما هو موجود.
فالفلسفة إذاً بحث عن الحقيقة. إنها اكتناه تعليلي. وهكذا بدأت "فيلوصوفيا" عشقَ الحكمة. وواصلت وستبقى، بمعارفها الموسوعية التصاعدية، مشدودة لعقل الموجود حتى تحدده بمقوِّماته، نافذة من وجوده إلى كيان هذا الوجود. فمبدأ وجوده حتى وُجِد. هكذا الفلسفة.
والجمالية؟ هل موقفها من الجمال – موضوعها – موقف الفلسفة من الموجود لمعرفة الحقيقة؟
قيل فيها: هي حصر الجمال في شروطه للحكم على قيم الآثار الفنية.
وفي تصنيف الدُرب الفكرية، هي، أكاديمياً، باب من الفلسفة ذو وجهين: الأول، نظري موضوعه الصفات المشتركة بين الأشياء الجميلة التي تولِّد الشعور بالجمال. (المعجم الفلسفي، صليبا، مادة "جمال")؛ الثاني، عملي مادَّته النقد الفني.
وفي الوجهين دور العقل تفسير طبيعة الجمال فلسفياً، لأن "قيمة الأثر الفني لا تقاس بما يولِّده في النفس من الإحساس فحسب بل تقاس بنسبته إلى الصور الغائية التي يتمثَّلها العقل." (المرجع السابق)
وفي التصعيد الفلسفي للجمالية حاول العقل إبراز قدرته على عَقْلَنة الجمال فولد مصطلح "الجماليانية" التي، بمغالاتها، قد تعني فلسفة مفهوم الجمال. وهكذا:
المصطلح الغربي اليوناني الأصل aisthesis الذي يعني التأثر بانطباعات حسية جميلة تبعث اللذة والرضى، انتهى esthétisme للإدلال على توق العقل ليعقل الجمال. هذا المصطلح يقابله في العربية فعل "جَمُلَ" المستند إلى أثر مستحب يولِّده الحسن أو الملاحة وقد انتهى "جماليانية". إذاً: الجمال، مادة، وعقلنة هذه المادة، هما حقل الجمالية. فهل هي فلسفة؟ لا أراني أصعِّد البحث إلى معقولات المعقولات، وأترك الجماليانية لمقام آخر. لذا: الجمالية هي الطرح. ومعا نبقى في حقل طرفاه الجمال وطبيعة العقل الذي قد يسعه وعي الجمال. من هنا:
الجمال منطلق الجمالية. والجمالية انعكاس العقل عليه. والمنطلق أسبق. الانعكاس أحدث. والمنطلق بَلْوَر المَلَكَة القادرة على الانعكاس. المسلَّمة هي أساس عديد من مسلَّمات تعنينا منها واحدة: نموّ ملكة الجمال.
(3)
العقل: فلسفي وجمالي
هذه المَلَكَة، هل تبلورت مُجانِبَةً العقل، أم لازمته في وحدة الحياة الصاعدة التي، بقدر تساميها في الوعي، تصبح أقدر على وعي تنوُّعها وتفريع حقول وعيها؟
إن التسليم بالتلازم يحملنا حتماً على القول بوحدة العقل وقدرته على تنويع محمولات معقولاته. في هذا التنويع يسعنا الإدلال على عقل فلسفي وعقل جمالي وعديد من العقول هي ميِّزات أفراد البشرية. ولكن:
هذه الوحدة المتنوِّعة هي التي تبرِّر السؤال عما إذا كانت الجمالية فلسفة. ذلك أن هذه الوحدة مشتركة وعامة، والتنوُّع هو الخصوصية. من هنا منطقية استنتاج فلسفة الجمال، أي الجمالية، وجمال الفلسفة، أي الفلسفة التي حققت شروط جمالها. فما العلاقة بينهما؟
كل من الفلسفة والجمالية فعل انعكاس على موضوع. وقد يجعل عقل الواحدة منهما عقلَ الأخرى موضوعاً له. وهكذا تغدو الفلسفة موضوع الجمالية، كما تغدو الجمالية موضوع الفلسفة. فإذا كانت العلاقة ممكنة على صعيد العقل يمكن تعميمها على صعيد موضوعات العقل، أي الموجودات التي تصبح مسائل كلٍّ من الفلسفة والجمالية، وذلك لأنهما وَعْيان قادران على فهم الموجودات ولكنهما يتنوَّعان بهوية العقول. لذا:
إذا كان المعقول مطلوباً لحقيقته الوجودية فما يكتَنِهُه العقل هو فلسفة حقَّانية. وإذا كان المعقول مطلوباً لجماله، فما يبلوره العقل هو فلسفة الجمال. وتلك العلاقة على صعيد العقل (أي الوحدة العاقلة والمتنوِّعة) هل تمتد إلى المعقول مطلَبِها؟ باستفهام آخر: هل المعقول هو بدوره موجودٌ حق دون جمال، أو جمال صرف دون حقّ؟
هذا الاستفهام الذي لا يتناول إلا أقنومي الحق والجمال من الموجود المعقول، مِحْوَره العلاقة التكوينية بين الموجود حقاً وجميلاً والموجود جميلاً وحقاً. وبقدر ما يتسع العقل لإدراك وجود هذه العلاقة يدرك وجهي الكينونة؛ فلا موجود دون جمال ولا جمال دون وجود. هذه العلاقة عرفها الفكر الفلسفي في تاريخه، لكنه عرفها في وحدة العقل أكثر مما عرفها في كينونة الموجود حقاً وجمالاً. وحتى معرفته إياها في وحدة العقل جاءت أقرب إلى الحقَّانية منها إلى الجمالية. من هنا اتَّسمت المعرفة الحقانية بالعقلانية، بينما المعرفة الجمالية اتَّشحت بالحدسية. فالأولى أكثف موضوعية ومنطقاً، والثانية أعمق ذاتية وقداسيّة.
لماذا هكذا؟ وما كانت النتيجة؟
الجواب على الـ "لماذا" يوجِب معرفة طبيعة العقل ومبدئه. أما النتيجة فتقضي بمعرفة طبيعة تاريخية التراث الفلسفي الجمالي.
(4)
طبيعة العقل وطبيعة الموجود
طبيعة العقل أنه طالب معرفة. والمعرفة تظل سؤالاً متوالداً حتى يبلغ العقل يقيناً، ولو نسبياً، يركن إليه، وبقدر ركونه إلى هذا اليقين يبرِّر وجوده. وتبرير الوجود حقيقة تعليلية تستند إلى حقيقة موجودة. وضرورة تبرير الموجود هي التي لازمت العقل أولاً. وبتبرير الوجود عقلياً برَّر العقلُ وجودَه. إنه موجود حقيقي يعرف أنه يعرف، ويعرف، بما يعرف، ما ينقص معرفته. والنقص في المعرفة ليس فقط إدراك العقل حدود الحقيقة التي يعرف بل هو تحدٍّ له، للحقائق المحدودة، فينشدُّ، مدفوعاً بتأكيد حقيقته، إلى التأكُّد من حقائق الموجودات التي لا يعرفها حتى يعرفها فيتحقق أكمل فأكمل.
والجمال كموجود قائم بحقيقة، والعقل يتقصَّاه، يحاول تبريره، يعلِّل وجوده في الموجودات، يسعى لاكتشاف ماهيَّته فيها، ويجد أنها ماهية علاقة الموجود بمقوِّمات وجوده، بكيفية هذا الموجود، بتواصل هذه المقوِّمات، بتواحدها فيما بينها، بمقدار تناغمها المباشر أو غير المباشر. إنها ماهية تناسق وتواقع وحنين واستجابة.
وهذه الماهية هي نفسها في الموجود كموجود بحقيقة وجوده، وفي الموجود ذاته كطريقة
وجود. والعقل يسعه أن يؤكد وجوده بالاثنتين: حقيقة الموجود وحقيقة طريقة وجوده. ولكن، هل هذا التأكيد هو ذاته في الاثنتين؟
للوهلة الأولى، لابد من افتراض تباين بينهما تكشف عنه ظاهرات العقل في إدراكه الموجود. لكن العقل، في مباشرته معرفة الموجود، يتدرَّج من محسوسه إلى كمِّيته، إلى عناصره، إلى مقوِّماته المكانية-الزمانية، إلى علة وجوده، إلى ما يؤكده موجوداً. وهكذا:
من الكمِّ إلى مبدأ الكمِّ يترقَّى العقل الفلسفي، لكنه لا يكتفي. فالموجود ذاته يبقى مصدراً ومنهلاً لمقوِّمات أخرى ملازمة لهذا الموجود وتبرز في دقائق أبعد من الكمّ والمبدأ الإيجادي. إنها تدور في كيفية تناسق الكم، في جوهر الإيقاع الذي ينسِّقه، في طريقة تنظيمه، في ماهية حنين عناصره المتعاطفة. وهكذا:
إذا كان العقل يباشر الموجود كحقيقة فإنه يواصل فيه ككيفيَّة وجود. وتاريخ العقل دلَّل على أن الأولى سبقت والثانية لحقت. فالتباين عرضي لجهة زمن الإدراك . إذاً:
ليس من تباين في التكوين أو تعاكس أو تفارق، بل تواصل لا مبرِّر له. إلا أن الأولى أقرب إلى العقل بينما الثانية أصعب منالاً. الأولى قوامها حيرة العقل أمام الحقيقة. فالعقل والموجود يتواجهان فيها، في فعل تيقُّن. الثانية قوامها تفاعل العقل ونظام الموجود وما يصدر عن هذا النظام من تناسق، تناغم، ترتيب، تجاوب يحار العقل في مصدره، في انعكاسه على متأمِّله إحساساً وحدساً وسراً.
وبقدر ما يترقَّى العقل ويدقُّ في إدراك شيّات هذا الإحساس وعقْلَنَة ذاك الحدس وكشف لُمَع من ذلك السر يتمرس بمقوِّمات الجمال، تائقاً إلى تجريد نظام متكيِّف مع كليات الجنس والنوع والخصوصية. وهكذا:
العقل في حرصه على حقيقة الموجود يستند إليها ليَكْنَه نظامه فيدرك الحركة فلسفياً ليرقى في إدراكه النظامَ في الحركة، والإيقاعَ في النظام، والتناسقَ في الإيقاع، والنبراتِ في التناسق، والتنوُّعَ في النبرات، وجدليةَ الذبذبات في التنوع. إذاً:
العقل في عَقْلِه الموجودَ يعْقَلُه كمَّاً بحقيقة؛ وفي عَقْلِه الموجودَ كيفيَّة يدركه زماناً في نظام. وهكذا:
من الجواب على الـ "لماذا" نصل إلى تاريخية طبيعة التراث الفلسفي والجمالي. العقل، عبر
تاريخه، تكثَّف فلسفياً مدفوعاً بلجاجة الحقيقة ليعرف ويعرف أنه يعرف. وإشباعاً لهذه اللجاجة أخضع دُرَبَ المعرفة في اتجاه حقيقة الموجود. وهكذا استمراراً. والعقل ذاته شارف جمالياً كيفية الموجود مدفوعاً بتحقيق غبطته بالنظام القائم في الموجود. وهكذا:
معرفة الحقّ سبقت معرفة الجمال في تاريخ العقل. لكن هذا السبق على الصعيد المعرفي لا يحتِّم أبداً السبق على صعيد الحس والحدس والشعور بسرِّية الجمال. الحس الجمالي أسبق من المعرفة، لكنه لا يعقل ذاته؛ والحدس الجمالي أقدم من العقل، لكنه يقتضي عقلاً يرتفع إلى مستواه؛ وسرِّية الجمال تبقى ملازمة الموجود في أبعاده التي تفلت من أُطُر العقل ومداركه. من هنا:
محرِّكات الجمالية أشمل أبعاداً وأكثر تنوعاً وقد تكون أشد لجاجة من محركات الفلسفة في العقل. فالحس والحدس والسرِّية والمخيِّلة وحتى الوجدان الصوفي، كونها، هي في ذاتها، طاقات فاعلة ومنفعلة بالأشمل منها، بالأبعاد، باللامتناهي، فإنها تمنح العقل ما تُبَلْوِرُه وفق طبيعاتها دون أن تنحدَّ، كطاقات ومصادر، بمقاييسه ومعاييره. وهو بدوره، في معضلة معرفة الحقيقة لا يقفز قفزاً. والحقيقة مخاض عسير. فكيف يسعه أن يعقل تلقائياً ما هو أبعد في عملية العَقْلَنَة؟ لعل الجواب يكمن في مدى تمدد دائرة الوعي وطبيعة هذا الوعي عل صعيد الفرد. ولعل حال الفرد هذه هي حال الحضارات والشعوب والوعي البشري أجمع. لذا:
العقل، في المفهوم العام والمفهوم الجمالي، ليس تراكماً تاريخياً، إنه تزمُّن تاريخي أو تزمين التاريخ.
(5)
التزمُّن الحقاني الجمالي
هذا التزمن عام وشامل، يتناول الوجود الخارجي والكيان الداخلي. الخارجي يتَبَلْوَر جمالياً فيغدو أجمل. والداخلي يتَجَوْهَر جَوَّانياً فيغدو أعمق وأرهف. وجدلية الدُرَب العلمية تلازمها جَوَّانياً أبعاد كيانية تستيقظ فتستنهض قوى كامنة تصبح بدورها ملَكات إدراكية في اتجاه الموجود الخارجي، وحدسية استبطانية في اتجاه الأعماق الكيانية اللاواعية والمنطوية على مخزونها التراثي الحياتي العام. وهذا الحدس الاستبطاني يكاد يكون مصدر المصادر الجمالية في عملية "الوَعْيَنَة"conscientisation التي تبقى أبداً نسبية حيال ذلك المخزون.
والتزمُّن، خارجياً كان أو داخلياً، من حيث هو تزمُّن، ليس تراجعياً، وما لا تراجع في تَجَوْهُره المتواصل يفرض حضوره كُلاً أكثر تركيباً وأعمق تكثُّفاً. من هنا لغة تفرض التفضيل ( أكثر، أعمق، إلخ) نفسها فالجمال المَوْعيُّ ليس مطلقاً، بل جدلي. فهو في مستوى يسعى الوعي لاكتشافه في الخارج كما في الداخل. إذاً: الجمالية المتطورة بنمو الموجود الخارجي جمالياً هي جمالية في الوعي وقد باتت طبيعته. وهكذا:
مفهوم الجمال ومادته متلازمان في العقل الذي بلغ الجمالية. وهذا يعني فيما يعني أن الجمال صيرورة. والصيرورة هي أن أي خلاصة جمالية هي بدورها صيرورة، ومثلُهَا العقل الجمالي. ويعني أيضاً أن الجمال حقيقة نوعية قيموية ملازمة الوجود. وهذه الحقيقة بمقوِّماتها هي التي، في التزمُّن الجمالي، جعلت العقل يُبَلْوِر مفاهيمه في أحد اتجاهين:
إما الاتجاه الاستقرائي بدافع جمالي جَوَّاني يستشرف ماهيَّات الموجودات في كائن الحق والخير والجمال الميتافيزيائي.
وإما الاتجاه الارتدادي على الحقيقة الجمالية التي تُعَجِّزُ العقل فينسلخ الوعي عن المخزون النوعي القيموي والتاريخي، ويتفوَّش مسطَّحاً لا صلة له بالمجاري الجَوَّانية متَمَحْوِراً على الموجود كمَّاً ومبدأ. إذاً:
الحقيقة الجمالية هي: إما استكمال العقل في استكماله الحقيقة بحقيقة الجمال الذي يلازمها، وإما صدمة العقل الذي عجز عن إدراكها.
وهكذا جاء تراث الفكر في التاريخ. فهو، في أحد تياريه الرئيسيين، غبطة العقل بجماليَّته؛ وفي الثاني شقاء العقل في انكفائه على حقيقة الموجود وحدها. وأخلص إلى القول:
هناك جدلية قائمة بين المعقولات والحقيقة الجمالية في العقل. وهذه الحقيقة هي التي ظهَّرت تاريخ الجمالية كفلسفة تعقل الموجود لتعي جمال وجوده ساعية لاكتشاف تناغم تكوينه وسنَّة هذا التناغم. وخلاصة:
هذه الجدلية في العقل هي التي حدَّدت هوية الفلسفة. فإما هي فلسفة حقيقة الموجود، وإما هي فلسفة جمال الموجود. من هنا قد تبدو الجمالية في تاريخ الفكر، تابعة للفلسفة ومتأتِّية عنها أو ملحَقة بها. ولكن، إذا كان الأبعد منالاً يأتي لاحقاً، فإن الجمالية تظهَّرت في بعض قيم الفكر الإنساني، وقد بلغت شأواً بعيداً في الفلسفة فدقَّت عَقْلَنَتها حتى بلغت ذلك الأصعب الأبعد؛ أو إنها عقول بطبيعتها حدسية وأكثر استبطاناً فَقَصُرت، في عَقْلَناتها، مسافات الكم والحقيقة وبلغت آفاقاً من الحقيقة الجمالية. ولعلنا، استشرافاً، نجرؤ على القول بأن العقل البشري الآخذ، أعمق فأعمق، باكتشاف حقائق الموجودات ومعرفة دقائق تنظيمها، مقبل على إدراك مبادئها من منظور جمالي فلسفي، وإن كان أكثر الأحيان، ولايزال حتى الآن، يتسقَّط الجمال من منظور فلسفي. وهكذا:
جدلية الفلسفة الحقَّانية والجمالية التي أبرزت ملامح طبيعة تاريخية الإرث الفكري تدعو لتمثيل أرقى مناخاتها في تفاعل العقل بين الحقَّانية والجمالية.
(6)
الحقَّانية والجمالية وشهادة التاريخ
في عمق التزمُّن التاريخي، في صميم الصراع لتحديد هوية العقل والوجود وما أبعد منهما، الجمالية غاية، وها نحن ذا مع أفلاطون. والجمالية غاية تميتها الفلسفة الحقانية . وها نحن ذا مع هيغل. فلا بُعْد العهد بينهما (اثنين وعشرين قرناً)، ولا للمفاضلة على سواهما، بل لأن كل منهما بلغت معه جدليَّة الحقَّانية والجمالية نقطة الأوج، أي، على صعيد العقل، حتمية تحديد هوية مصير العقل: أحقَّاني هو أم جمالي. فكيف هو مع أفلاطون؟
من تموُّج السائل الأنوثي اللامتناهي التكرار عند هسيود، إلى الهرمونيا الستيرة وراء المبادئ الجميلة والمتوزعة في المرئيات فتجعل الكون يغنِّي عند فيثاغوراس، إلى جدلية الصيرورة التي تقيم التوافق في أعماق المتباعدات عند هيراقليطس، حيث على العقل الفنِّي أن يحاكي النِسَب السرِّية بين الكثرة والواحد، إلى الفعل الإبداعي والفطري في الشعر الذي يفضي إلى سرّ الجمال عند بروتاغوراس، إلى هذا السرّ المستعصي الذي هو "عذاب عذب" عند غورجياس، حيث الظاهر يبقى مائعاً إذا لم يتزمَّن والكائن، إلى تقريب مفهوم الفن من الفلسفة التي غايتها بلوغ الحقيقة عن طريق التوليد، وهي (الفلسفة) بهذا، الموسيقى الأكثر سمواً عند سقراط… استقرأ العقل مبادئ جمالية باتت تقتضي طاقات إدراكية فوقية في عقل يتميز بقدرة هي أقرب إلى "الجنون" ليستطيع معرفة أظلال الجمال. هذا العقل هو أفلاطون.
الجمالية عنده أن الجمال لا يسعه أن يقوم في موجود مرئي محسوس. هو، في ذاته، شرط بهاء المرئي. وفي ماهيته مثال، على الفنان أن يقترب منه بعقل يستقرئ الموجودات بقدر ما يستذكر ماهية المُثُل ويعي العلائق الممكنة بين المرئي والمثال. هذا العقل الجمالي هو مصدر التكوين الفني. فالقبيح ليس موضوعاً. لذا:
تصوُّر مثال الجمال، كونه أسمى تصورات المُثُل، يبقى، وهو يبثُّ الإشراق في الموجودات، وحده حافز الإبداع التصاعدي لأنه لا ينتهي. إذاً:
في هذه الصعوبة – الاستحالة – على الفن أن يتمرس بكل الفوارق بين المحسوس واللامحسوس، وأن يجد، في المقابل، التعبير الذي، في منتهى رهافته وصيرورته، قد يطبِّق أكثر النسب دقة ورهافة. وهو، حتى في هذه الحال، لا يعدو أن يكون أكثر من توسُّط بين طرفين: الأول هو الكائن أي الجمال، والثاني هو شيء سبق وحقق مستوى يخوِّله الانتماء إلى الوجود الجميل. وهكذا:
أفلاطون، في تصوُّره الكائن الأخير كائن الجمال، كان مصير الجمالية معه أنها غاية. ونمو العقل في إدراكها نموٌّ جمالي . وإذا جدليَّته مع ذاته جعلت عقله الجمالي يُخضِع الفلسفة الحقَّانية للجمالية. فانعكاسه على تلميذه أرسطو أدى إلى تبرير الكائن على أنه قائم بالحقيقة التي فيه. وجاءت فلسفته حقَّانية، والجمالية تابعة لطبيعة صيرورة المادة والصورة حقيقة أكمل في الوجود.
ومع أرسطو تركزت الأكاديمية التي ستفرض نفسها، في تاريخ الفن والجمال، كلما اختلّ التوازن بين محاكاة الطبيعة واجتيازها. ومع الأكاديمية تقرر التصنيف والتعقيد والتنظيم، فانبثقت الشكلانية التي ستميل بالجمال إلى فلسفة في الفن.
وارتدّ أفلوطين على أرسطو، فإذا بالجمال أسمى من الإدراك. إنه من مصدر آخر: إنه ألق "الواحد". وتجسيده يكون في روعة التناسب أكثر منه في التناسب ذاته.
وقد تجاذَب العقلَ الجمالي الأفلوطيني خلال العصر الوسيط قطبان: الأول، الخلق دون مادة أي خارج الزمان؛ الثاني، أَخْذُ العقل بالجمال المرئي.
وعن التأليف بين جمالية أفلاطون وحقَّانية أرسطو انبثقت ركائز النهضة في فلسفة الفن مع عقلين عميقَي التقصِّي في خفايا المضمون ونافذَي الدقة في التقنية التظهيرية التعبيرية. إنهما ألبرتي (1404-1472) وليوناردو دافنشي (1452-1519).
الرومنطيقية وجدت المنفذ في ارتدادها على الأكاديمية والكلاسيكية، في أوَّلية المخيِّلة على العقلانية. فالفرد هو العبقري . وعبقريَّته تستند إلى الحدس قبل العقل. وهذان البعدان هما وراءجمالية ليبنتس (1646-1716) التي تجعل الكون يعكس الهرمونيا الداخلية التي في الجوهر الفرد Monad. وفي تقصِّي علاقة الإحساس الجمالي بالعقل وجد بومغرتن أن في الإنسان مَلَكَةً خاصة دعاها "المعرفة الحسية التامة". وهي، في تماميَّتها، وسيطة بين الإحساس وما يلازمه من غموض والعقل وما يلازمه من وضوح.
معمقاً هذا الحس أمسى الجمال مع شافتسبوري (1671-1713) حدساً داخلياً، ولكنه مماثل للعقل. وهكذا وصل إلى التوازن بينهما: فلا طغيان للعقل على هذا الحسّ، ولا الحس يطغى على العقل.
وهذا الحس، في توقه ليماثل العقل، خرج في فلسفة كانط العامة عن الموضوعية لأن اللذة التي في أساسه هي ذاتية، وبالتالي فإن الحكم القيموي ذاتي. والجمال الذي شروط الحكم عليه قائمة في البشر هو، كما يقول، "ما يروق كلياً ولكن دون مفهوم" و"وجوده شرعي دون شرع" و"قصديَّته لا نهاية لها". لذا الجمال عند كانط هو مما لا يُعرَف بقواعد ومفاهيم؛ فمعياره فيه وهو موضوع ملكاتنا فوق الحسيّة suprasensorielles. إنه جوهر. ولكنه جوهر توحيه المخيِّلة الحرّة. من هنا هو "حدس لا يطابقه أي مفهوم" لأن المخيِّلة لا تستطيع أن تصبح معرفة. لذا فإن هذه الأبعاد في جمالية كانط تقتضي مَلَكَة قادرة على استحضارها. إنها العبقرية التي تستقطب المُثُل الجمالية. والعبقرية هي الطبيعةُ ماثلةً فيها. من هنا عادت الكلِّية إلى جدليّة الحقَّانية والجمالية. وهذه الكلِّية هي التي ضمَّنت نقد الحكم، عند كانط، مصدراً ميتافيزيائياً ينعكس مداورةً في كلِّية المحسوس.
هذا المضمون الميتافيزيائي هو مرتكز الفن الذي، بحد ذاته، يوحي المطلق، عند شلِّنغ. ففيه يتألَّف النظري والعملي اللذان يجتازان ذاتيهما استمراراً حتى يبلغا مستوى الأنا السامية التي عنها يصدر الفعل الفني. وهذه الـ"أنا" هي، من جهة، لاواعية كما الطبيعة، ومن جهة أخرى، واعية كما العقل. والفعل الفني، مستقطِباً كل هذه الأبعاد، يرسِّخنا في الطبيعة كما يصلها بنا. من هنا فهو أسمى من الفلسفة لأنه يُحضِر المطلق في الفكر بينما الفلسفة تقتصر على معرفة بريقه. وهكذا علاقة الفن بالعبقرية تكوينية ضرورية. والفن، رغم توزُّعه في نماذج متنوعة، واحد. وفي تطور الفكر يتَعَقْلَن الوجود. ولكن، من جدلية "الواحد" مع الوجود المُعَقْلَن، تحدث فلسفة جديدة تتَّسم بمثيولوجيا جديدة، ويعاود الفن دوره خصوصاً عن طريق الشعر .
هذه العناوين لما بلورته جدلية الحقَّانية والجمالية في تزمين التاريخ وصلت هيغل (1770-1831) صاخبة بالتفاعل التاريخي الطويل فقررت صيرورة الفلسفة صيرورة تزمينية، منطقية تاريخية هي عينها صيرورة المطلق. والفن ملتصق بها ويوحي تلك المطلقية حدسياً في تجلٍّ صرف. ولكنه لا يوحيها إلا بعد أن يدركها العقل. وما فوق العقل هو الدين في مرتبة أسمى. والفلسفة في مرتبة دون الدين. والفن دون الاثنين. وهيغل إن انطلق من شلَّنغ فلكي يرتد عليه، وفي ارتداده هذا ارتداد على الفن ذاته. من هنا اندرج الفن في حركة الصيرورة وما يلازمها من أزمنة ومراحل. وأصبح الفن الملازم الصيرورةَ الفكرية في اتجاه انحداري بينما الفلسفة في اتجاه تصاعدي. وهكذا مر الفن بثلاثة أطوار:
في الأول جاء الفن رمزياً ميثولوجياً لأنه صادر عن الفكر الديني والميثولوجي.
في الثاني جاء الفن كلاسيكياً فتوازنت فيه الفكرة والشكل.
في الثالث جاء رومنطيقياً وحداثة.
وكون لامتناهي الفكر لا يمكن أن يصبح موجوداً بالفعل إلا في لامتناهي الحدس، فاللاثبات الذي يفكِّك، كل لحظة, كل شكل ملموس، يُحْدِث الخلل في نظام الفنون كما في كل منها. والاختلال يعقبه الانحطاط دائماً.
في تحوُّلات الفن هذه – على أنه دائماً فعل في الماضي –، لا ثابت في تصاعديَّته إلا الفكر الذي يجتاز الشكل أبداً. وهذا الاجتياز يقتضي أشكالاً أكثر سمواً. وإذا كان الفن فعلاً ماضوياً والفكر فعلاً تصاعدياً مستقبلياً غايته أن يدرك ذاته، فالفن طريقه الزوال، وكون الفكر غاية فالطبيعة مقصيّة. وجمالية هيغل تتحوَّل إلى فلسفة في الفن أكثر مما هي فلسفة في الجمال. و هكذا يموت الفن ومعه الجمالية لتبقى الفلسفة ويهيمن الدين. هكذا سقط، مع هيغل، أحد طرفي الجدلية الحقَّانية والجمالية.
وتَمَعْضَلَت مسيرة تلك الجدليَّة، وتشعبت المفارق في مسألة الطرف المجادِلِِ الفلسفةَ الحقَّانية، ولم يبق في السَّاح من يقدر على إعادة التعادل في جدليَّة الحق والجمال، وكان لابد من العودة إلى التيار الأفلاطوني.
فجمالية شوبنهاور أفلاطونية تأمُّلية، والفنان يمنحنا عينيه لنرى العالم. الفن، كما يقول، "هو التفتُّح الأسمى لكل ما هو موجود". والتفتُّح هو معرفة مباشرة للمُثُل لأن الفن أسمى من مبدأ العقل. إنه مرادف للعبقرية. والعبقرية والذات الإنسانية أمستا مقوِّمي الجدلية الجديدة. ولكن الذات هذه متناهية، والعبقرية وحدها تعلوها. وما تبلغه العبقرية من موضوعية يمكن مواجهتها هو البنية الأخيرة للعالم. وهذه البنية هي الموسيقى. فالعالم، حسب شوبنهاور، هو موسيقى متجسِّدة.
مفهوم "العالم موسيقى متجسِّدة" نشأ عليه نيتشه ليسقطه. والروح الديونيسية راحت تتقلص في قوى شواشية هي دون الأشكال الوجودية. وأمست الحقيقة في المحسوس، وما فوق المحسوس هو استلاب المحسوس. والفن، إذا خرج من إطار هذا المحسوس، يصبح استلاباً كذلك. وإرادة القوة لا تواكبها إرادة الفن والجمال لأن الفن ليس قَوْلَبَة الحياة في ما ليس فيها. الفن سُلالي وليس تاريخياً. والسُلالة تؤدي إلى الفردية. والفردية أساليب خاصة. والفن يتسم بالنبل بقدر ما يجسِّد الأسلوب الفردي إرادة القوة. من هنا أزلية الفن التابعة لـ"أزلية العَوْد" في الفلسفة النيتشوية هي أزلية متنوِّعة تنوُّع الأفراد والأساليب. وهكذا:
تواصل التشتُّت الجمالي حتى أواخر القرن الماضي. فالرفض النيتشوي واكبه رفض كيركغور (1813-1855) للجمالية الهيغلية، وإذا بالتاريخ يصبح، في الفن والجمالية، أسطورة. ومفهوم الدوامية يتفتَّت إلى لحظات متقطِّعة. ومهمة الجمالية هي التعبير عن اللحظة الشبقية. وازدواجية كيركغور أدت إلى السخرية بالجمالية من جهة، كما إلى تأكيد ذاته بها، من جهة أخرى. فكما يقول: "الجمالية هي طبيعتي أصلاً." من هنا:
هذه الازدواجية اجتاحت الغرب في القرنين الأخيرين في كل دُرَب الفكر، ومنها دربة الفن والجمالية. وتمَعْضُل الجمالية هذا، كما يجد باحثوها، يرجع، في أكثر عوامله، إلى هذا الاختلال الذي بدأ مع هيغل وراح يُفسِّخ مقوِّمات الجدلية الحقَّانية الجمالية ويقطع مفاصلها مشلِّعاً ما حاول العقل تأليفه في تزمينه الفكر والتاريخ في مفهومي "الوحدة" و"الكثرة" حيث "الوحدة" هي جمال نظام الكون و"الكثرة" هي التنوُّع الجميل في الوحدة العامة.
السبت أبريل 15, 2017 9:08 pm من طرف فؤاد