السريالية في مغامرتها الكونية
محمد مظلوم |
| |
يحدَّد الشاعر العراقي المقيم في فرنسا عدنان محسن، برهة تاريخية تراجيدية لنشوء السريالية ومصيرها بتحرير بيان ولادة وشهادة وفاة محصورتين بين 1924 عام نشر البيان السريالي، وعام 1969، العام الذي كتب فيه جان شوستير مقالاً في «لوموند» ينعى فيه السريالية بعد وفاة اندريه بروتون، ويرى محسن في تقديمه لكتاب «المغامرة السريالية/ مختارات ونصوص» (دار الجمل)، وهو مجموعة مقالات نقدية ونصوص شعرية ترجمها عن الفرنسية، أن هذا هو العمر المحدد للسريالية كحركة. ولعل هذا ما دفعه إلى نعتها بالمغامرة، لكن المغامرة نعتٌ يرتبط عادة بأفعال تنطوي على قدر كبير من المجازفة، وآيلة إلى نهايات ومصائر غير محسوبة، فهل كان الأمر مع السريالية كذلك؟ وهل ولدت مع بيان بروتون وماتت مع موته حقاً؟ وما هي الحدود التي يمكن بها وصف تلك المغامرة؟ أكانت مجرد مغامرة فرنسية، أم أوروبية؟ أم هي مغامرة كونية؟ لو نظرنا إلى السريالية، حركةً وجماعةً وبياناً، وربطنا مصيرها بالمصير العضوي والفني لرموزها سنجد أنها بدأت الاحتضار قبل ذلك التاريخ، فقد توفي تزارا وإيلوار، وتوجه أراغون بما يشبه الردَّة نحو شعر ملتزم شكلياً ومضمونياً إضافة الى ارتباطه المصيري بالحزب الشيوعي، بينما استمر عدد آخر من الشعراء السرياليين لكن بلا سريالية، مثل رينيه شار، وفيليب سوبو. بينما توفي سلفادور دالي «آخر السرياليين» عام 1989. لكن الأمر أبعد من ذلك وهو ما تشي فصول الكتاب بجانب منه، فقد تخطت تلك المغامرة حدود عصرها والتاريخ للرسمي للحركة، نحو التاريخ والمستقبل ذهاباً وإياباً، وقام بروتون بقراءة سريالية شاملة، بأثر رجعي، للتاريخ الإنساني وحاول تأصيل النزعة السريالية في أماكن صعبة في تاريخ الأدب والفن والفلسفة والخيارات الحياتية الفردية، فلم يكتف، بتقصي النزعة السريالية لدى رامبو ولوتريامون، بل اعتبر دانتي سريالياٌ، والماركيز دي ساد سريالياً في سلوك الهيمنة، وهيراقلطس بالديالكتيك... إلخ. كذلك فإن السريالية في تركيزها على الصدمة البلاغية، والخرق غير العادي للمألوف صارت جزءاً حيوياً في غالبية الأعمال الأدبية والفنية، سواء التي عاصرتها أو أعقبتها. ولذا فإن تأثيرها أهمَّ من مصيرها، إذ امتدت سطوة ذلك التأثير لتطاول أسماء شعرية بارزة ظلت توصف بأنها محافظة وقادمة من مكان مختلف. إذ لا يمكن إنكار تأثيرها حتى على شاعر «كاثوليكي» مثل إليوت، فإضافة إلى ذخيرته في التجربة الوجدانية سواء في كتابة «الأرض الخراب» أو «برورفروك» وغيرهما والتي كانت فرنسية باريسية على وجه التحديد، فأنه تأثر في شكل واضح بالآباء الملهمين للسرياليين مثل: مالارميه، وبودلير، وجيرار دي نيرفال، وصولاً إلى مخترع كلمة سريالية «غيوم أبولونير» وتحديداً عمله السريالي المبكر «أثداء تيرسياس» وعلى رغم أن إليوت وقف في الظاهر في مكان آخر عندما وصف الدادائية، البذرة الجينية للسريالية في مقاله «درس بودلير/ 1921» بأنها: «تشخيص لمرض العقل الفرنسي وأياً كان الدرس المستقى منها إلا أنها تبقى غير قابلة للتطبيق المباشر في لندن» إلا أن شعره في تلك الفترة لم يخل مما يمكن تسميته نزعة سريالية تمثلت في اقتناص الصور من حالات سهادية حلمية، والرمزية المتداخلة للصور والأشياء في «أغنية حب ج الفريد بروفروك» وكذلك في قصيدته «الأرض الخراب» بما انطوت عليه من تلقائية نفسية وشعورية متدفقة، وذهنية مشوشة، والاستفادة من الثقافات غير الأوروبية، وخلق الغرائبي من اليومي، ومخلوقات تنوس بين البشري والمسخ «خفافيش بوجوه أطفال» بخاصة في مخطوطتها الأصلية قبل تدخلات باوند التي ركزت على إعادة توجيه الذهن. ولا يمكن تجاهل مدى تأثيرها الأساسي في جيل الـ «27» في إسبانيا وجيل «البيت» في أميركا. وإضافة إلى الشعراء ذوي الأصول العربية الذين كتبوا بالفرنسية مثل جورج شحادة وجويس منصور وجورج حنين وصلاح ستيتية، طاولت العاصفة السريالية بلاد المشرق العربي، فالتقطت في سوريا، مبكراً وإن كان مبتسراً، من شاعرين هما: أورخان ميسَّر، وعلي الناصر، فَعَنْوَنا ديوانهما المشترك، الصادر عام 1948، «سريال» قبل أن يستأثر ميسَّر بعنوان الديوان في طبعة لاحقة صدرت بعد وفاته بسنوات، وفي لبنان يمكن رصد تأثيرها في عدد من شعراء مجلة «شعر» لعلَّ أبرزهم شوقي أبو شقرا وأنسي الحاج الذي كتب مراراً عن إندريه بروتون. وكذا في العراق حيث نلمس لدى حسين مردان نزعة سريالية مشوبة بالهلوسة في ديوانه «صور مرعبة». ولاحقاً وبالتزامن مع بيان نعي السريالية في فرنسا كتب فاضل العزاوي بيانه الشعري ووقعه معه شعراء ستينون، بإلهام واضح من السريالية حيث يحتل الحلم مركزية أساسية في ذلك البيان، إضافة إلى مقولات: «العالم الناقص» و «الكون المهجور» وتحدي المنطق النثري التقليدي للعالم والأشياء واختراقه. بينما ما زال صلاح فائق يستمدُّ صوره من ذلك العالم الذي لم يكتمل اختراقه تماماً. ناهيك عن الشاعر عبدالقادر الجنابي المقيم في باريس وهو أسس ما يشبه حركته السوريالية الخاصة وأصدر مجلات عدة منها «الرغبة الإباحية». بيد أن السريالية نفسها غير معزولة عن التأثر بالتوجهات المعرفية الكبرى كالفرويدية والماركسية وكذلك نمط الحياة الاجتماعية خلال الحرب العالمية الأولى وعالم ما بين الحربين، فقد تبنَّت الحلم الفرويدي إلى جانب «الثورة» الشيوعية، وفي ما يتعلق بعلاقتها بالماركسية يترجم عدنان محسن مقالاً نقدياً لفيردينان ألكيه، يحاول فيه التأكيد على مأزق الجمع بين مقولة ماركس عن «تغيير العالم» ومقولة رامبو عن «تغيير الحياة» ذلك أن خلاصة التجربة السريالية تتلخص، كما رأى بروتون، في محاولة الجمع بين هاتين المقولتين، بيد أن هذه المقاربة أوصلت السرياليين، وفق ألكيه، إلى الاصطدام بالتوتر بين مفهومين مضمرين هما: الحرية والالتزام! كذلك لا يمكن فصلها عن إغواءات الدادائية، مثلما لا يمكن فصل الفن السريالي عن جذوره «التكعيبية» التي كان أبولونير أول من ابتكر لها هذا المصطلح أيضاً، وتنظيراته لاتجاهات الرسم نحو العالم الميتافيزيقي تحرراً من الرومانسية. على رغم إنكار بروتون في منشوراته أن تكون السريالية اخترعت من أبولونير بل انها انبثقت من أناشيد مالدورور للوتريامون وإشراقات رامبو. يكشف لنا الكتاب عن التناقضات الداخلية للسريالية، كما لو انها لا تختلف كثيراً عن الحركات السياسية الراديكالية أو أي تنظيم ثوري، فثمة فتن وانشقاقات، ومحاكمات، وغرف تحقيق، وصراعات واقعية وافتراضية، وهي كانت ساخرة في عمرها الوجيز، إلا أنها تعبيرات عن روح السريالية التي تحيل التذمر إلى تسلية، ومن ذلك المحاكمة الافتراضية «لموريس بارس» حيث للسريالية قصاصها الساخر من «الخونة» الذين يتخلون عن الحلم والفوضوية، وينشغلون بالدراسات الأكاديمية، وحضور المؤتمرات والترشح للبرلمان! وفضائح السريالية في هجاء «أناتول فرانس» عند موته هجواً مقذعاً بدل تأبينه، وهو أيقونة الأدب الفرنسي في عصره، والسجال الداخلي المضاد متمثلاً في مقال أنتونان آرتو «أكذوبة السريالية» الذي أعلن فيه أنه أصبح مطروداً من السريالية، وأن خلافه معهم يتركز حول مفهوم «الثورة» وأن المغامرة السريالية ماتت منذ أن «وجد بروتون وجماعته أن عليهم ان ينخرطوا في الشيوعية» إضافة إلى الألاعيب والحيل السريالية والكتابة التلقائية التي تعتمد على بلاغة الصدفة الفوضوية الخلاقة وتخاطر المعنى الاعتباطي. في القسم الثاني من الكتاب ضمَّ مختارات من أشعار السرياليين: بروتون، وفيليب سوبو. وأراغون، وإيلوار، وبنجمان بيريه، وتريستان زارا، وأنتونان ارتو، وريمون كينو، ورينيه شار، ودو شازال، وسواهم. وينقل عن «جان لوي بيدوان» في مقدمته لتلك المختارات «أن الشعر السريالي متل أي شعر حقيقي واحد ومتعدد في الآن نفسه، سواء في تنوعات طرقه أو في أصواته المختلفة» ويبدو هذا الاقتباس ضرورياً لتفسير تباين «الأداء السريالي» بين قصيدة وأخرى فعبارات بروتون: «زوجتي رَبْلَتا ساقيها لبُّ البيلسان/ زوجتي قَدَماها أحرفٌ للابتداء/ قَدَماها حُزمةُ مفاتيح/ قدماها عمَّالُ سُفنٍ يَشْربون» تختلف عن طريقة كتابة فيليب سوبو مراثيه على شواهد قبور زملائه السرياليين التي جاءت بلا سريالية صريحة تقريباً، إذ يخاطب إيلوار في مرثيته: «خُذْ معك عكَّازكَ وقفَّازَكَ إلى هناك/ استقمْ في وَقْفتِك/ وأغمضْ عينيك/ غيومُ القطنِ بَعيدةٌ/ أنتَ رحلتَ دونَ أنْ تقولَ لي وداعاً» وعبارة إيلوار التي تصلح درساً سريالياً: «الأرض زرقاء مثل برتقالة/ أبداً ليس هناك من خطأ الكلمات لا تكذب». تختلف عن عبارة أراغون: «بوسعي أنْ احترقَ بجحيمِ العالم كلِّه/ لكن أبداً لنْ أفقدَ هذهِ الدهشةَ في الكلام» بل إن عيارة أراغون هذه تختلف عن عبارته الأخرى هو نفسه «ما معنى الكلامُ؟ / هو نثرُ الحَصَى التي ستأكلُها الطيور» ولا شك في أن ترجمة الشعر مهمة شاقة، أكثر من ترجمة أي نوع أدبي آخر، فلنا أن نتصوَّر مدى صعوبة تلك المهمة مع قصائد سريالية، تقوم على تحدِّي دلالات القواميس، وكسر المنطق المعتاد في العلاقة بين مفردة وأخرى، وفي تصوِّري أن عدنان محسن خاض ذلك التحدي بمتعة، وقدَّمها