إنَّ عبقرية السؤال هي في توالديته وتناسليته وقدرته على التفجّر دائماً، فالمنبع الذي ينبع منه السؤال (=العقل) هو منبع لا نهائي ضمن شرطه الزمكاني. فالتشظّي السؤالي هو تشظٍّ بعدد العقول البشرية، لذا لا يمكن الركون إلى إجابة واحدةٍ (وإنْ كانت الأسئلة مُتشابهة بطريقةٍ أو بأخرى) قيلت في زمن ما ومكان ما، لأنها بالضرورة غير خالدة وغير عابرة للأذهان على إطلاقها.
وهنا قد ينشأ إشكال (السؤال) و(الجواب) لناحية تلازمهما مبدئياً في الوجود، وبالتالي الاكتفاء بإجابةٍ واحدة لسؤالٍ ما، إذ لا داعي لتكرار المشهد بشكلٍ لا نهائي.
قديماً، سُئلَ سؤال: "مَنْ أنا"؟ وقد قُدمّت (إجابات كثيرة) على هذا (السؤال الأحادي). الآن، وبعد تقادم كبير في المنظومة الزمانية لا زال سؤال: "مَنْ أنا"؟ يُسأل بذات الوتيرة وذات الحميمية التي سُئل بها أول مرة، فهو سؤال ذاتي مُتعلّق بالذات السائلة لحظة سؤاله، حتى لو كان لدى هذه الذات السائلة كل الإجابات التي قدمّت عبر التاريخ كلّه.
بمقاربةٍ بسيطة سنكتشف أن مأزق الطرح الإسلامي الحديث، ليس في السؤال بقدر ما هو في الإجابات، وأعتقد أن المأزق الحقيقي للتجديد الإسلامي يكمن في (فارق الزمن) بين السؤال والإجابة على هذا السؤال. فالسؤال الذي سُئل آنفاً هو ذات السؤال الذي سُئل الآن، وسيسأل لاحقاً تبعاً لعدد الذوات البشرية وتبعا لظروف شرطها الزمكاني، ولكن لا يُمكن اعتبار إجابة ذاتٍ بعينها إجابة قطعية ونهائية، على اعتبار أن هذه الذات تحتكم إلى ظرف موضوعي يرتهن –حُكماً- لظرفي الزمن والمكان، وبما أنَّ هذه الذات خارج الإطار الإطلاقي للزمن، لناحية تموضعها في الزمن والمكان، فبالضرورة أن تأتي إجابتها ناقصة وغير مكتملة.
لكن خطلاً كبيراً وخطأ عظيماً –فيما يخص الحالة الإسلامية؛ موضوعنا هَهُنا- يُراوِح مكانه، لناحية اعتبار الإجابات القديمة إجابات قطعية ونهائية لأسئلةٍ لا تفتأ تتجدّد، فاللحظة الزمنية الإسلامية –ضمن سياقات الخطاب الاستنزافي- هي لحظة إطلاقية، ولا سبيل إلى تفتيتها. على أساس أن اللحظة الزمنية الإجابية –لحظة تجلِّي السؤال في العقل على هيئة إجابة تنويرية- هي لحظة عبقرية لا يمكن تكرارها بالمرة، لذا لا ضير من العودة القهقرى إلى الخلف من أجل التقدّم إلى الأمام.
لوهلةٍ قد يبدو ذلك كنوعٍ من التقدير والاحترام والتبجيل لأُسسٍ افترض مبدئياً قدرتها وفائقيتها على الصمود الزمكاني، وقابليتها للتجدّد المُستمر، إلا أنَّ المعيار الزمني للحظة الإجابة على السؤال هو معيار مُتقلقل وغير ثابت إلى ما لا نهاية. وأيّ –بناء على عدم ثبوتيته - تأبيد له وحصره ضمن ظرفٍ معيّن، فيه انتهاك لناموس الله الدافق منذ اللحظة الأولى للخلق. فلو كانت الإجابة القديمة، والصادرة بالضرورة عن ذاتٍ ما، صالحة لكلّ ذات لانعدمت القيمة الوجودية للذات اللاحقة، ولصارت الذات السابقة أجلُّ قيمةً من الناحية التكوينية والتأسيسية من (الذات اللاحقة)، وفي ذلك مطعنٌ في القيمة الوجودية بين ذات وذات، وهذا عين الظلم لناموس الله، لأنَّ ذاتاً مطلقة لا يمكن أن تكون مُنحازة لذات على حساب ذات أخرى، بل –قطعاً- هي تقف على مسافة واحدة من الكل، كضرورة وجودية بالدرجة الأولى. إذ لو كانت كذلك، لانعدمت القيمة التحقّقية للذات اللاحقة مقارنة بالذات السابقة، من حيث هي عاطلة عن الوجود والعطاء، مقارنة بذات قادرة وفاعلة. فلو أسلمنا بأنَّ الإجابات القديمة (والتي قدمت في إطار إيجاد حلول آنية لمشكلات آنية) هي الحلّ لمشكلات آنية، لأوقعنا ذلك في عدّة إشكالات، أهمها:
- لانعدمت فكرة الدفقية في الشرط الزمني الإنساني، ولأصبحت الذات الفردية ضمن شرطها الموضوعي ذاتاً إطلاقية، من حيث قدرتها على استجلاء مُجمَل الذوات الإنسانية في التاريخ الكُلّي ووضع أسس تقدّمية لها، بطريقةٍ غير قابلة للشكّ أو الجدل. وعلى هذا الإشكال سينبني سؤال: أي ذات أحقّ –من غيرها- بهذه المعيارية الوجودية، ومن ثمّ ماذا عن الذوات الأخرى، هل هي أقلّ شأناً وقيمةً من الناحية التكوينية والوجودية؟!.
- لما كان من معنى لاستمرارية الحياة أبداً، إذ كان من الأولى أن تنتهي الحياة عن لحظة التجلِّي الأولى للإجابة على سؤال التجديد، لناحية الانتهاء من وضع الحلول لهذه الحياة وإشكالاتها.
من هنا، يتمظهر الإشكالُ فيما يتعلّق بالإصرار على الإجابات القديمة للأسئلة الحديثة (مثل: ماذا علينا أن نعمل لكي نخرج من هذا النفق الحضاري المظلم، خصوصاً فيما يتعلق بنتاجاتنا الثقافية؛ هل نستنزف التراث اجتراراً فقط من باب الحفاظ على خصوصياتنا؟. وهل نرتكن إلى كهفنا لنحتمي من التغيّرات الخارجية؟ وهل نتعامل بسلبيةٍ مع كل قادم من الخارج؟ وهل نحترز على خطابنا الديني بطريقةٍ أمومية عاطفية، ونتعامل مع منتقديه بعنفٍ مُبالغ فيه؟...الخ) على هيئة مأزق حضاري! فالإصرار على ما هو قديم تحت شعار الخصوصية والهوياتية مسألة فيها خطورة على ما يُمكن أن يؤول إليه الخطاب الديني، في تعامله مع مُدخلات ومخرجات الحضارة العربية الإسلامية الراهنية، خصوصاً أنَّنا أمّة تقتات على ثمر ذاكرتها، أكثر من اعتمادها على عقلٍ نقدي تحليلي، أمكنه فكّ العالَم القائم، ومن ثمّ إعادة تركيبه عبر تأويلٍ جديد، ينحازُ للواقع أكثر من انحيازه لإرثٍ ثقيلٍ أثقلَ كاهل الكتف الحضاري للأمة العربية والإسلامية، نظراً لاجتراره وتكراره بصورٍ مهولة وغير معقولة، وخارج نطاق الدفقة الزمنية.
ولربما أفْضَى الراهن الإسلامي إلى واقعٍ إثقالي سيزيفي، يُعاني الأمرّين في تعاملاته مع مستجداته، إذ لا زالت تُستحضر إجابات قديمة (وإنْ كانت ذات بُعد إبداعي لحظة تفتّقها وبلورة مسلكياتها) مع كل سؤال حاضري. ولربما –مرة أخرى- تجلَّى هذا الإرباك في إشهار سيف القبول، تحت وطأة الخصوصية الثقافية والبُعد الهوياتي للأمة الإسلامية، لناحية اعتبار الإجابات القديمة إجابات قاطعة ونهائية، بعيداً عن أية تظهيرات جديدة، إذ لا يُعقل أنْ تتأبَّد اللحظة الراهنة وتأخذ بُعداً لا نهائيا إلا إذا كانت مُتخارجة عن عالَم غير هذا العالَم المحكوم بشرطي الزمن والمكان. فالتعالي الميتافيزيقي ضمن الشرط الفيزيائي هو تعالٍ حدسي، شعوري، تداخلي فيما يتعلّق بالذات الجوّانية والخلجات السيكولوجية. لذا هو غير عملاتي على المستوى الواقعي إذ تنتظر الإنسان كومة من المشاكل التي تتطلّب حلولاً عملية لا تحتمل التأجيل، ابتداء من المشاكل الصحية وليس انتهاء بالمشاكل الاجتماعية والعنف والجريمة وما إلى ذلك.
ولقد احتملت التجربة التاريخية للإنسان أثراً عيانياً على عدم احتماله لدفقة الزمن إذا كانت خارج نطاقاته المعهودة، فالانوجاد في زمنٍ خارج الزمانية (بعيداً عن خلجات الذات الجوّانية أو الزمانية الوجودية بتعبير عبد الرحمن بدوي) هو تشظٍّ غير عاقل للذات الإنسانية وقهر إحداثي لشرط انوجادها الموضوعي، ولقد كشف النص القرآني عن حادثة موت "أصحاب الكهف" (الذين ناموا ثلاث مائة سنة وزيادة، وبالتالي تعدّاهم الزمن الخارجي وأصبح من المُتعذّر استمرارهم لعجزهم عن تدارك الفائت منه، ومن ثم استجداد حادثات خارج نطاق معقوليتهم وتأطيرهم الفكري) لأنهم –ساعة استيقظوا من نومهم- وجدوا أنفسهم خارج السياق الزمني لظرفهم الانوجادي الموضوعي، لذا لم يكن ثمة مناص من موتهم. لقد تقهقرت ذواتهم من الخارج أمام هذا الدفق الزمني الاندفاعي (وإنْ احتفظت ذواتهم من الداخل بطوفانها الوجودي) لذا كان عليهم أن يناموا –الآن- نومة أبدية!.
مأزق الحاضر الإسلامي الآني، هو نوعٌ من الحَصْر الوجودي بإزاء الاندفاعة الحضارية باتجاه الأمام، فاللحظة الإبداعية تثبتّت في الذاكرة إذ ابتُدِعَت إجابات وتثبتت في الوجود المُطْلَق، وصارت معياراً قياسياً لكلّ الزمن اللاحق. وكما حدث لأهل الكهف إذ ناموا نَوْمَة أبدية لانوجادهم خارج زمانيتهم الموضوعية، كذا حدث للواقع الإسلامي فهو ينام نَوْمَة أبدية، إذ ينوجد خارج نطاق زمانيته، فهو إذ يستنهض الذاكرة الملحمية القديمة لحلّ الإشكالات الحاضرة، لا يفعل شيئاً سوى الحفاظ على النومة الأبدية، إنه يتقهقر باتجاه العدَم الخالص، طالما أنه (مُنفعلٌ بالماضي) (لا فاعل في الحاضر). ومسألة التسلّح بالخصوصية والهوياتية الإسلامية، أثناء التعامل مع الإجابات القديمة التي منحت صفة الصحيح المُطْلَق، لن تتشفّع لنا أمام هذا العماء الذي يجتاح كياننا من أساسته، ولوهلةٍ قد تبدو فكرة انهدام هذا الكيان انهداماً كاملاً، فكرة قابلة للتحقّق، ما زلنا على عهد الانوجاد خارج الزمن الموضوعي لشرطنا الحضاري. ففي النهاية –وقبل أن يتداركنا الغرق الكُلّي- ينبغي علينا أن نعي أنَّ شروط زماننا هي غير شروط (ليس زمن موغل في تاريخيته فحسب، إنما أيضاً زمن قريب جداً علينا) هي غير شروط أي زمن آخر، وبالتالي علينا أن نأخذ (فعلاً) في هذا الزمن (لا انفعالاً) بأزمانٍ أخرى، أو أنْ ننتحر؛ ننتحر حضارياً.