مأزق شعب أم أزمة نخب... د/ جمال علي حسنContributed by زائر on الأثنين 30 يونيو 2008
Topic: ثورة يوليو
مأزق شعب أم أزمة نخب
حير
حال مصر والمصريين الكثير.. بعد أن تردى وضعها وأوضاعهم وانتهى بها وبهم
إلى تراجعها خلف حدودها المرسومة بخط هندسي مختلق.. واصطفاف أهلها في
طوابير طويله طلبا للقمة عيش ينقصها الكثير من الكرامة.. وبعد أن ظل مطلب
التغيير يراوح مكانه منذ سبعينات القرن الماضي
وحتى الآن.. مع اشتداد حدة الأزمة وتعدد أوجهها.. ورغم اشتداد ضروراته مع
اشتداد ضراوتها... وبعوده قليلة لتاريخنا الحديث.. بخمسينات وستينات القرن
الماضي.. الزمن الذي اطمأن فيه المصريون لنظام يوليو وركنوا إليه.. بعدما
لامس ضميرهم وأحلامهم.... مغتبطين بما حققه من استقلال وجلاء وانتصار..
ومن انجازات اجتماعية واقتصادية.. ومن مكانة اقليمية ودولية.. ولم يكن
ارتكان وهن وانصراف ولكنه كان طمأنينة ثقة وأمل وتعلق بالحلم.. قدموا فيه
ما يلزم تحقيق هذا الحلم عطاء وبذل وتضحية.. وبدى الأفق أمامهم واسعا
متفتحا مشرقا... وأفاق الجميع -من الارتكان المطمإن الحالم الواثق- على
قارعة هزيمة يونية.. تهز الوجدان والعقيدة وتزلزل الوجدان.. وتحدث هذا
الشرخ الذي مكن للقوى المضادة والمعادية تحقيق أغراضها وتنفيذ مشروعها...
نعم.. لقد خرج الشعب المصري.. بل والشعب العربي جميعه.. رافضا لهذه
الهزيمة الصادمة المفجعة.. مقاوما لتداعياتها.. مصمما على غسل عارها..
ومقدما كل التضحيات في سبيل ذلك.. وهو ما تحقق نصرا تلو نصر منذ معركة
أبطال الصاعقة برأس العش صبيحة اليوم التالي للهزيمة في الثاني عشر من
يونية 67 أي بعد وقوع الهزيمة بأقل من 48 ساعة.. وصولا إلى نصر أكتوبر
المجيد.. وتجسد الإصرار الشعبي على الانتصار في ملحمة مدينة السويس
الخالدة لتعيد للذاكرة بطولة بورسعيد الباسلة.. بعد أن تاه من القيادة
السياسية طريق النصر في وهم اتصالاتها المبكرة بالعدو عبر أميركا...
ولكن.. وللأسف الشديد.. ومنذ بداية السبعينات تاه من شعبنا المصري الطريق
وتشعبت به السبل.. تحت وقع اهتزازات الوجدان والعقيدة.. وللأسف تعمق التيه
بعد أن تحقق الانتصار... فتحت دعاوى الإعداد للمعركة.. تنكرت القيادة
السياسية لكل قواعد النهوض، تلك التي تبنتها ثورة يوليو، وتلك التي طالبت
بها الجماهير بعد قارعة الهزيمة.. من استقلال وطني ودعامته بالبناء
الاقتصادي والاجتماعي.. ثم من ضرورة الحرية السياسية... وتحت وهم استثمار
نصر أكتوبر، سلمت نفس القيادة للعدو مقدراتها على طبق من فضة.. وتخلت عن
دورها القيادي لإقليمها... وظل النظام الذي تشكل بعد رحيل عبد الناصر يدور
حول مفاهيم زائفة و صدماته الكهربائية المتخيلة.. متنكرا لمشروع النهوض
المقاوم لقوى السيطرة الخارجية وضروراتها من البناء الاقتصادي الحقيقي و
البناءالاجتماعي العادل.. ثم الحرية السياسية التي أصبحت مطلب الجماهير
بعد هزيمة يونية.. ولكن نظام السادات ظل غارقا في شعاراته حول ديمقراطيته
الزائفة بتطبيقها الشكلي الديكوري الفارغ... ثم من بعد ما استبان مأزق هذه
السياسات الزائفة بعد حادث المنصة الشهير الذي راح فيه السادات ضحية
لتوجهاته، وضحية لقوى التجمد الديني التي أطلق عنانها.. اطلق نظام مبارك
لكل الأقلام حرية الصراخ ومن كل التيارات، حقيقها وزائفها.. في محاولة منه
لتحجيم مارد "التيار الديني" وإعادته للقمقم.. ليضرب هذه القوة بتلك..
ويغرقنا في آتون هذا الصراع وصخبه... ووسط إفراط نظام مبارك في تجاهل
الأصوات المعارضة والمتناقضه.. التي أطلق لها العنان تحجيما للتيارات
الدينية.. غرق مثقفونا ونخبنا في صراعاتهم وعالي أصواتهم.. وصرنا نسمع
عجيجا ولا نرى طحينا كما يقول المثل... وخرجت علينا جموعنا المثقفة ونخبها
–بأول المطاف ونهايته- متصارعة حول انتمائتها.. مختلفة حول أطروحاتها..
غارقة في الإجابة عن تساؤلاتها السطحية الساذجة.. ومقارناتها المضللة ...
فنحن إما منقسمون بين هذا التيار الديني "الجامد"، الذي مازال يسيطر على
الشارع كنتيجة حتمية لحالة الفراغ الفكري والثقافي.. وبين النظام الحاكم
وعصابته، المسيطرة بجموع الوصوليون السلطويون "الحزب الوطني"... أو غارقون
في هذه المقارنات العقيمة، بين العصور التي مرت بها مصر.. التي مانفك
مثقفونا، وكما يحلوا للكثير من الصحفيين ومن مقدمى البرامج من "أنصاف
الإعلاميين".. كبرنامج الطبعة الأولى ومقدمه.. طرح هذا السؤال الساذج حول
المقارنة بين ما قبل الثورة وما بعدها.. أو ما بين عبد الناصر والسادات..
فمازال هؤلاء، وبعد مرور ما يقارب الستة عقود على قيام ثورة يوليو.. ومرور
أربعة عقود على انتهائها وانتهاء نظام عبد الناصر، وبعد ما يقترب من
الثلاثة عقود على رحيل السادات، مازالوا يبحثون عن إجابة سؤال متكرر
خائب.. لم يعد له على ارض الواقع وجود.. يدلل على سطحية طارحيه، وانغلاق
عقولهم حول ثأرهم الشخصي.. وكأننا نتناول السياسة وقضايا الأمة بمنطق
مشجعي لعبة كرة القدم والتعصب الطفولي لأنديتها.. وكأن ليس لنا من طرح غير
طريقة السادات أو طريق عبد الناصر...!!؟؟ متناسون أن الأمة قد أفاقت من
هذا الاستقطاب المصطنع، وأجمعت جماهيرها بعد طول مراس ومكابده، على أن ما
انحازت إليه ثورة يوليو وعبد الناصر من طبقات شعبية هو الحل لمشاكل
شعبنا.. وأن نظام دولة يوليو البوليسي من المؤكد غير قابل لإعادة الطرح أو
الانتاج.. ومن المؤكد انه كان سببا لفاجعة هزيمة يونية المريرة.. كما أن
ما سار إليه السادات من انحراف عن أهداف ومبادئ يوليو دون إصلاح لدولتها
البوليسية.. وما تبعه فيه مبارك.. قد أعاد انتاج دولة أكثر سوءا من دولة
عبد الناصر.. بعدما كرس كل مساوئ بوليسية الدولة.. وعراها من كل فضائلها
التحررية والاقتصادية والاجتماعية.. منتجا دوله تحتكر فيه القلة السلطة
والثروة وتدفع بكل أجهزة الدولة لخدمة هذا الاحتكار..وتكرسه بنظام بوليسي
مستعدا أن يطلق النار في وجه الجموع من معارضيه كما حدث في 18 و19 يناير
سنة 77 بزمن السادات.. وكما تكرر بصورة أكثر ضراوة في المحلة في السادس من
أبريل سنة 2008 بزمن مبارك... كما أن الليبرالية السياسية أو الاقتصادية
لنظام ما قبل يوليو التي انحصرت بين مجتمع النصف في المائة.. لا تعتبر
مخرجا لأزمة مجتمعنا اليوم.. بعد انفتاح السموات وتعدد قنوات إعلامه.. وما
يفرضه هذا الانفتاح من مشاركة شعبية حقيقية واعية، غير تلك التي كانت تتبع
فيها القرى المصرية قبل الثورة بالكامل سيدها وولي نعمتها.. كما ان
تجاهلها للعدل الاجتماعي يجعلها مجتزئة لحل أزمة شعبنا الاجتماعية اليوم،
فالمطلوب إلى جانب الليبرالية السياسية، أولا: ألا تقتصر على النخب..
ثانيا: أن تحقق المساواة وتنهي الفقر وطوابير البحث عن العمل ورغيف
الخبز... ................................................. وللأسف بدلا
من أن تكون نخبنا طليعة التغيير، واعية بالمشكلات والحلول، مقدمة للجماهير
التشخيص والعلاج..ظلت هذه النخب المشتته المتناقضة تعيب على شعبنا الصابر
المكافح.. عدم خروجه وثورته.. وظلت غارقة في تناقضاتها ومتاهاته وقناعاتها
منغلقة عليها.. وكثيرا ما تندرت عليه.. عندما أطلق شعبنا في انتخابات
الرئاسة "الديكورية السابقة" هذه الجملة التي تدلل على عدم وجود برنامجا
للتغير.. "إلى نعرفه أفضل من إلى ما نعرفوش"... فشعبنا المصرى المخضرم..
الرزين بحكمة تاريخه الضارب بأعماق الزمان.. رأى أنه، ليس من الصواب أن
يقفز من مركبه الخربة.. وهو يعلم يقينا خرابها.. إلى أمواج الفوضى.. دون
أن يكون له من سبيل أو وسيلة للعبور إلى شاطئ أمان يراه وإن بأعالي الأفق
البعيد.. ومن الحمق أن يرتكب مثله هذه القفزة إلى المجهول المظلم.. وهذه
نخبه على شتاتها وعلى انغلاقها حول عقائدها المجتزئة المتفرقة... وأي عاقل
هذا..؟؟!! الذي يدفع بهذا الشعب إلى القفز من مركبه بدعوى خرابها.. دون أن
يقدم للشعب مركبا ومجدافا وقيادة ومنهاج عمل.. وضوءا بنهاية النفق.. وشاطئ
أمان يرسوا إليه وإن بعد طول كفاح.. هؤلاء النخب الذين ارتاحوا إلى رمي
الكرة والمهمة في ملعب البسطاء من جموع شعبنا.. وإدعوا التكبر والتميز على
هذا الشعب الطيب المكافح المتطلع لبصيص أمل.. وانتظروا بأبراجهم العاجية
حتى بفرغ البسطاء من ثورتهم ليستلموا مقاعد السلطة والسلطان..!! أي طليعة
تقدمية هذه التي لا ترى في الثورة والتغييرغير انتظارها وجني ثمارها..!!.
لقد خرج أحمد عرابي عندما قاد جموع شعب مصر.. متصدرا الخطر.. محددا
المطالب راسما طريق النجاة.. المتمثل في هذه المطالب الواضحة.. إسقاط
وزارة رياض باشا، وتشكيل وزارة وطنية، وقيام مجلس نيابي عصري.. ولم ينتظر
خلف الجموع.. فهب حوله كل شعب مصر... وخرج سعد زغلول كذلك محدد واضحا،
طالبا الاستقلال الوطني مصرا عليه.. متعرضا هو أولا لسهام المحتل وعقابه..
فالتفت حوله الجماهير... وخرج عبد الناصر.. وثوار يوليو.. كطليعة لهذا
الشعب المعلم.. وأرواحهم على أكفهم.. يشخصون حالتهم وحاله.. بجمل مركزة
بسيطة يفهمها الجميع.. تمس آلامهم وآلامهم.. ويصفون طريق النجاه بنفس
الدقة والبساطة.. والتي تمثلت في مبادئ الثورة الستة المشهورة.. فاستجابت
لهم الجموع وسارت ورائهم.. مقدمة الدماء قبل العرق.. وصولا للأمل
المنشود... هذه أمثلة ثورات شعبنا المصري العظيم وطليعته.. فماذا قدمت
النخب اليوم..؟؟ غير ترفعها عن شعبها وغير صراعاتها حول مغانمها وغير
الغرق في سطحية أفكارها.. وغير اتاهمها المستمر لهذا الشعب الصابر.. جالسة
في مأمنها تنتظر ثورة الشعب لتعتلي كراسي السلطة..!!. إن غاية ما تستطيعه
الجماهير هو الغضب.. وكثيرا ما استشاطت جماهيرنا عضبا.. أما من يصنع
الثورات.. ومن هو قادر على إحداث التغيير هي النخب.. وليست جموع
الجماهير... ولقد خرجت جماهير شعبنا ضد هذا النظام بكل طوائفها وتجمعاتها
غاضبة ، رافضة ظلمه وفساده.. ولكن أين كانت النخب.. القائدة..!؟ إنها كانت
منتظرة في الخلف.. لتملأ الصفحات بتحليلاتها وانتقاداتها.. ولم تتقدم
الصفوف يوما..!! ................................................. وقد
يبدو للبعض الدفاع عن مبادئ وتوجهات ثورة يوليو.. دفاعا عن اشتراكيتها أو
غيرها من سياسات انتهجتها الثورة.. ولكن ليس بالضرورة أن تكون أي من
سياسات الخمسينات والستينات هي الطريق الوحيد المطروح للاستقلال الوطني أو
للبناء الاقتصادي أو لتحقيق العدل الاجتماعي.. أو أن تظل هي الحل المثالي
في كل الأحوال والأزمان.. فهي فقط نموذج للاستقلال والبناء والعدل...
والحرية والنهوض والعدالة لها طرقا عدة تتراوح من أقصى اليسار إلى أقصى
اليمين.. وعلينا في كل عصر أن نختار من هذا التباين الكبير طريق النجاة..
بل نختار من خليط بينها واسع متعدد، نظاما يناسب تحديات كل عصر وما نواجه
به عسراته ومعضلاته... وليس لنا من رأي أو خلاف.. إن كان المرجو هو الحرية
والنهوض والعدل.. ولا يوجد طريق واحد لتحقيق هذه الأهداف... وأيضا ليس لنا
في طريق.. يهدر الحرية ويعوق النهوض وينتقص العدل... وهي كذلك خلاصة
تجاربنا في كافة العصور.
................................................. د/ جمال علي حسن – مصر