مأزق القوميين العرب! د. عبد المنعم سعيد
لا أدري ما إذا كان ممكنا اعتبار الأستاذ محمد حسنين هيكل واحدا من
القوميين العرب أم لا، لكن على الرغم من بعده التنظيمي فإن هؤلاء اعتبروه
دائما واحدا منهم باعتبار علاقته بالرئيس جمال عبد الناصر، ونتيجة أنه كان
دائما من معارضي فكرة «مصر أولا» التي تعطي للوطنية المصرية بعدا أعمق بين
المصريين مما كانت تعطيه «القومية العربية». لكن أيا ما كانت العلاقة
بالحركة في اتجاه واحد، أو بالهوية الفكرية، فإن القوميين العرب باتوا
يشعرون بحيرة بالغة إزاء ما بات يسمى في الولايات المتحدة، والغرب عموما،
الربيع العربي، وبغض النظر عن التسمية، تبدو إرهاصات الثورات العربية التي
انفجرت خلال العام الماضي في بلاد أخرى خلال العام الحالي. هذه الثورات
السابقة، وتلك التي توشك أن تكون لاحقة، لم تستثنِ بلدا عربيا، ملكيا كان
أو جمهوريا، سواء أخذت شكل انفجار كامل، أم قلاقل ومظاهرات وإضرابات. وهي
كذلك لم تستثنِ أحدا مهما كانت هويته، محافظة أو حتى ثورية، على اعتبار أن
«الثورية» في القاموس العربي ارتبطت دوما بالقوميين العرب الذين، مثلهم
مثل الحركات الكبرى، كانوا مساحة ممتدة بين يمين ويسار. هنا فإن الثورة
الليبية من قبل، والأخرى في سوريا الآن، وبينهما داخل ادعاءات شتى، كانت
الثورة في اليمن، طالت من كانوا يدعون «الثورية» و«الوحدوية» و«القومية
العربية».
«الربيع العربي» جاء بشكل ما، وأحيانا ثورة على الثورة؛ لأنها استبدادية
وديكتاتورية، وفيها من الفاشية ملامح عدَّة، لكن الأستاذ محمد حسنين هيكل،
في حديث مطول للغاية (13 صفحة على 3 أيام في صحيفة «الأخبار» القاهرية
الغراء مع الأستاذ ياسر رزق)، وجد نفسه في ذلك المأزق بين الثورة الجديدة
وتلك القديمة، وما بين الاستبداد القائم، وما يتخوف منه القومي العربي
التقليدي بأنه ما من ثورة على الثورة العربية إلا وكانت جزءا من مؤامرة
عربية استعمارية وصهيونية، تماما كما يقول بشار الأسد الآن، ومعمر القذافي
من قبلُ. فبعد تشريح طويل وعميق لكل أجزاء الثورات العربية، خاصة المصرية،
وأركانها، وأبعادها، وماذا فعل هذا، وما لم يفعله ذاك، مع تمزيق للنظام
القديم وكل ما كان فيه، فإنه يقبل فجأة على مأزقه التاريخي على الوجه
التالي: «لا أحد في مقدوره أن يقنعني أن البستاني الموهوب في فردوس
(الربيع العربي) هو الرئيس الأميركي باراك أوباما، أو وزيرة خارجيته
الطموح هيلاري كلينتون، أو الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، أو رئيس وزراء
بريطانيا ديفيد كاميرون»!! (علامتا التعجب موجودتان في الأصل). ثم يضيف:
«لا البنتاغون بستاني الربيع العربي، ولا مجلس التعاون الخليجي هو قيادة
ثورة الديمقراطية في العالم العربي».
هنا يخلع القومي العربي قفازه، ملمحا إلى أن الثورة العربية الجديدة ليست
الأصالة التي يتصورها صانعوها، بل إنها، على الأرجح، صناعة أجنبية، سواء
أجاءت من قلاع الإمبريالية أم من المحافظين العرب، حتى لو كان الأستاذ
يحترم الكثيرين في مجلس التعاون الخليجي، كما قال، لكن ما كان تلميحا يظهر
فورا في شكل تصريح، فالواقع «أن هناك حالة ثورة في سوريا، لكن هناك من
يحاول الاستيلاء من الخارج على الثورة في سوريا!!». ماذا يكون الموقف إذن
عندما تكون لديك ثورة، لكنها معرضة للإغارة وفقدان الاتجاه نحو العدو
الأصلي القادم من الغرب؟ هنا فإن القومي العربي يصل إلى قمة مأزقه؛ لأن
تعريفه لذاته ليس مع «العربي» أو مع «الأمة»، لكنه قائم على ما هو ضده من
غرب وإسرائيل. وهنا جرى استحضار الذاكرة التاريخية للثورة العربية الكبرى
التي جرت في الشام أيضا، لكنها أخطأت لأنها اعتمدت على الشريف حسين، الذي
اعتمد على الكولونيل لورانس، الذي سلمها إلى المارشال اللينبي، الذي دفع
ثورة الشام إلى سيطرة فرنسا وبريطانيا، إثر اتفاقية «سايكس بيكو» القديمة.
ولكي يتم حل هذا المأزق الأخلاقي والتاريخي فإن صاحبنا يعلن: نعم، نحن مع
الشعب السوري في ثورته، لا يأخذها أحد غيره. وترجمة ذلك أن يقف الشعب
السوري دون عون أمام 4000 دبابة، و220 ألف جندي، ومئات الطائرات، ويقبل
المجزرة ومعها الشهادة وانتهاء الثورة التي شرط طهارتها أن تنجح دون
معاونة من أحد، لا من الإقليم ولا من العالم. والحقيقة أنه لو كان الحال
كذلك في ثورات العالم كلها لما نجحت واحدة منها.
على أي الأحوال، فإن الأستاذ هيكل يحسم الموضوع كله باستحضار كتاب عن
الثورة الليبية تحت عنوان «الحرب من دون أن تحبها»، نشره في باريس برنارد
هنري ليفي، صديق ساركوزي - وهذه تهمة من ناحية - وعاشق للدولة الصهيونية
من ناحية أخرى - وهذه تهمة أعظم وأكبر من ناحية أخرى. التاريخ هنا يعيد
نفسه، فما جاء في كتاب ليفي هو «بالضبط» ما جاء في كتاب «أعمدة الحكمة
السابعة» الذي ألفه لورانس العرب، وعلى الرغم من الفروق هنا وهناك فإن
البريطاني كان صانعا للثورة العربية الكبرى، أما اليهودي ليفي فقد كان
صانعا للثورة الليبية.
هل يمكن بعد ذلك كله ألا نبكي على سقوط القذافي الذي أذاق الشعب الليبي كل
صنوف العذاب، وأعطى للشعوب العربية كل أسباب العار، وألا نقف جميعا صفا
واحدا مع بشار الأسد كما فعل «الفيتو» الروسي والصيني الذي لم يكن من
أجلنا - والكلام للأستاذ هيكل - لكنه أيضا لم يكن ضدنا؟ «بل إنه ليس ضد
الثورة في سوريا إذا كانت الثورة في سوريا قادرة ومستغنية بقوى شعبها».
وذلك كله يأتي ممن على علم كامل بقوة الأسلحة الحديثة، وفضيحة «التوريث»
السوري من الأب إلى الابن، والعنت والظلم والجحيم التي عاشها الشعب السوري
عاما بعد عام، لكن ذلك كله أمر في دمشق، لكنه في القاهرة أمر آخر. في مصر
كل ما جرى مقبول ولو عليه ملاحظات وتحفظات وحتى تخوفات، لكنه في الشام
وليبيا، حيث الحكام من طينة مختلفة هذه المرة فإن الملاحظات والتحفظات
والتخوفات تجري في الطريق المضاد، حيث الثورة أقرب إلى الخيانة العظمى.
وفي الخاتمة لفتت نظري فقرة في حديث هيكل؛ حيث هناك موعد مع حقائق الأزمة
الاقتصادية «على الرغم من مرونة في المقاومة أدهشت كثيرا من المراقبين فقد
كانوا يتوقعون لحظة الانفجار الكبرى أمس ولم يحدث، وتوقعوها اليوم، ثم بدا
أنها مؤجلة، وسمعت بنفسي من أكبر الخبراء أن مرونة الاقتصاد المصري وقدرته
على المقاومة مدهشة». بعد ذلك يصف الأستاذ عدم انهيار الاقتصاد المصري
بأنه «معجزة»، لكنه يرى في المعجزات ظواهر استثنائية، وهو ليس على
استعداد، إطلاقا، لأن يعطي نظاما سبق بعض فضل فإنه ترك اقتصادا متنوعا،
وفيه من الاحتياطيات والقدرات ما يجعله يصمد في وجه 28 مليونية وتوابعها
من اعتصامات وإضرابات، ومعه - على عكس ما قال في مكان آخر - طبقة رأسمالية
لديها أرصدة أكثر مما يعتقد الأستاذ الكبير.