يسود الاعتقاد لدى الباحثين في ديانة مصر القديمة، بأن الإله سيت هو أقدم الآلهة المعروفة لدينا من الفترات التاريخية. فلقد كان هذا الإله هو المعبود الرئيسي للسكان الأصليين قبل عصر الأسرات الأولى عند أعتاب الألف الثالث ق.م، وهو العصر الذي ترافق مع حلول أقوام جديدة وفدت إلى مصر من آسيا الغربية، حاملة معها معتقدات جديدة، ووضعت الأسس لأول مملكة موحدة في تاريخ مصر القديمة. وقد ترافق بسط السلطة لهؤلاء مع نشر معتقداتهم الدينية، وراح إلههم الأعلى المدعو حوروس ينافس إله السكان الأصليين سيت في كل مكان. وبذلك تم التأسيس لثنئاية سيت- حوروس التي استمرت فاعلة في الديانة المصرية حتى نهايات التاريخ المصري القديم.لا نستطيع رسم معالم واضحة لشخصية الإله سيت قبل انتشار عبادة حوروس. ولكن نصوص الأهرام، وهي أقدم النصوص المصرية، تقدم لنا الصورة اللاحقة له بعد أن تم إنزاله إلى المرتبة الثانية. فقد صار مجسداً لكل القوى السالبة في الكون وفي حياة الطبيعة، في مقابل حوروس الذي صار مجسداً لكل القوى الموجبة.وتتجلى هذه الصورة البدئية للسلب والإيجاب في ثنائية النور والظلام، والنظام والفوضى، وما ينضوي تحتهما من ثنائيات. فالإله حوروس هو سيد السماء والشمس التي تهب الحياة وتعكس بحركتها المنتظمة التوازن الدقيق للكون؛ أما الإله سيت فهو العدو الأول للشمس وللضوء، وهو الذي يحرف مسار الشمس باتجاه الجنوب عقب الانقلاب الصيفي، ويسرق من نور القرص فتقصُر ساعات النهار لحساب ساعات الليل؛ وهو الذي يسرق من نور القمر عقب اكتماله بدراً فيتناقص ليلة بعد ليلة حتى ينطفئ في آخر الشهر، ولكن الإله تحوث يعمل على إشعاله مجدداً في أولى ليالي الشهر الجديد. وفي هيئة الوحش الخرافي آبيب ينقض سيت على قرص الشمس لدى شروقه لكي يطفئه، مستخدماً أسلحة الظلام والمطر والغيوم والضباب، ولكن حوروس (وفيما بعد رع) يتصدى له متسلحاً بالحر اللاهب وسهام الضوء النافذة؛ وبعد صراعٍ مرير يقع آبيب صريعاً وتتبعثر أشلاؤه، ولكنه يجمعها من جديد بقواه الذاتية استعداداً للصراع التالي.والإله سيت هو سيد العماء والشواش، الذي يعارض نظام الطبيعة ويعمل على نشر الفوضى؛ ومملكته تقع في الجهة الشمالية من السماء حيث يقيم في كوكبة الدب الأكبر. وكانت جهة الشمال عند المصريين هي إقليم الظلام والبرد والمطر والضباب والبروق والرعود، وجميع هذه الظواهر كانت تحت سيطرة الإله سيت، ولم تكن ذات صلة بالخصب نظراً لاعتماد الزارعة في وادي النيل على الفيضان السنوي للنهر، وكان سيت يستخدمها لتهديد استقرار الطبيعة. ولكن الإلهة ريتريت التي تمثلها الرسوم المصرية على هيئة خرتيت له ذراعي امراة، كانت موكلة بتقييد هذه القوى بالسلاسل ومنعها من السيادة على الأرض والسماء، كما كانت تفسح طريقاً في الأعالي لمسار الشمس، التي قرنتها النصوص المبكرة بالإله حوروس. وإلى جانب ريتريت هنالك أولاد حوروس الأربعة الموكلون أيضاً بكف أذى سيت ولجم قواه العدوانية، وهو يقتفون أثر سيت على الدوام، ويظهرون على شكل أربعة نجوم تبدو خلف نجم الزاوية في كوكبة الدب الأكبر، وهو النجم الذي يدعى بمركبة الإله سيت.وتساعدنا الإشارة الهيروغليفية التي تسبق اسم سيت في الكتابة المصرية على تبيُّن خصائص أخرى لهذا الإله، فهذه الإشارة هي نفسها التي تكتب بها كلمة الصخرة، وفي هذا دلالة على ارتباط سيت بالأراضي الصخرية الجرداء وبالصحارى. وبهذا الخصوص يخبرنا المؤلف المصري مانيتو من العصر الهيلينستي المتأخر، بأن أي حمولة حجرية كانت تدعى عظام الإله سيت؛ كما يخبرنا المؤرخ الإغريقي فلوطرخس، في سياق حديثه عن الميثولوجيا المصرية، بأن الأسماء التي يطلقها المصريون على هذا الإله تنطوي جميعها على معاني القوى السالبة والكابحة والمعطلة، والمخربة.فنحن والحالة هذه أمام قطبية كونية لا تحمل أي دلالة قِيَمِيَّة. لقد تأمل المصريون الكون وحياة الطبيعة ورأوا فيها قوتين ساريتين متعارضتين ومتعاونتين في الوقت نفسه، ورأوا في جميع الظواهر نتاجاً لتداخل هاتين القوتين وفعلهما المشترك. من هنا لا عجب إذا رأينا الأعمال الفنية في مطلع عصر الأسرات تمثل الإلهين في جسد واحد يحمل رأسين، رأسا لحمار هو رمز الإله سيت وآخر لصقر وهو رمز الإله حوروس؛ ولا عجب أيضاً إذا قرأنا في نصوص الأهرام أنهما يدعيان بالأخوين وبالتوأمين أيضاً، على الرغم منالعداء الأبدي بينهما، والصراع الدائم الذي لا يصل إلى نتيجة حاسمة، مثلما أن التناقض بين القوتين الكونيتين لا يصل إلى حد إلغاء واحدة وسيادة الأخرى، لأنه لا غنى عن صراعهما وعن تعاونهما من أجل صيرورة العمليات الجارية على مستوى الكون والحياة الطبيعانية.حتى الآن لا يبدو لنا أن ثنائية سيت- حوروس قد اتخذت مضموناً ثنوياً ينطوي على صراع بين الخير والشر على المستوى الكوني ومستوى النفس الإنسانية. فالإله سيت لايمثل مبدأ الشر الكوني، بل هو القوى الكونية السالبة مُعبراً عنها بلغة الرمز الأسطوري، والإله حوروس لا يمثل الخير الكوني، بل هو القوة الكونية الموجبة. فإذا جاز لنا التحدث عن "شر" أو "خير" متعلق بهما، فإنه الشر الطبيعاني المقابل للخير الطبيعاني، والمجردين من أي قيمة أخلاقية. ويتبع ذلك انعدام الصلة بين خير وشر الإلهين ومسألة الخير والشر على المستوى الاجتماعي، أو مسألة السلوك الأخلاقي الفردي. ذلك أن الأخلاق الاجتماعية عند هذه المرحلة من تطور الفكر الديني لدى المجتمعات القديمة، لم تكن شأناً دينياً، بل شأن اجتماعي ناجم عن جدلية الحياة الاجتماعية ومتطلبات العيش المشترك. وقد ترتب على غياب الصلة بين الدين والأخلاق فقدان الصلة بين خلود الروح والتصورات الأخروية المتعلقة بالثواب والعقاب في الحياة الثانية. فعند هذه المرحلة كان الخلود في جنة الآلهة وقفاً على الفرعون فقط الذي هو ابن الإله حوروس وممثله على الأرض، وعلى من يختار الفرعون بنفسه من حاشيته فيخصه بخلود مماثل لخلوده ويهبه تكاليف دفن لائق. ولكن خلود الفرعون، أو من يرافقه في مرحلته، لم يكن رهناً بالسلوك الأخلاقي بل بسلسلة معقدة من الطقوس والصلوات والتعاويذ السحرية، وبإعداد مقبرة باهظة التكاليف. أما بقية شرائح الشعب فإن حياة ما بعد الموت بالنسبة إليها لم تكن إلا استمراراً شبحياً للحياة الأرضية، يخفف من بؤسها مراعاة طقوس الدفن وعناية أهل الميت بروحه بعد الموت.خلال الألف الثالث قبل الميلاد، حقق الطور الأول من التاريخ المصري الذي ندعوه بالمملكة القديمة أهم منجزات الثقافة المصرية في التكنولوجيا والعمارة والفنون. وفيما يتعلق بالمعتقدات الدينية، فقد حل الإله رع تدريجياً محل الإله حوروس، وصار رئيساً للبانثيون المصري وأباً لجميع الآلهة. وكان يتجلى في العالم المادي على هيئة قرص الشمس. أما حوروس وسيت فقد تابعا صراعهما ولكن من خلال ميثولوجيا مختلفة. فقد أنجب رع إبنين هما شو- الهواء وتفنوت- الرطوبة، ومن زواج شو وتفنوت ولدت السماء نوت والأرض جيب، ومن زواج السماء والأرض ولد أربعة آلهة هم: أوزوريس وسيت وإيزيس ونفتيس؛ فتزوج أوزوريس من إيزيس، وسيت من نفتيس. وقد أنجبت إيزيس لأوزوريس ولداً هو حوروس أما سيت فكان عقيماً. وكان بعد فترة أنّ سيت قد قتل أخاه أوزوريس وقطع جسده إلى أربع عشرة قطعة وزعها في جميع أرجاء مصر، ولكن إيزيس عثرت عليها وجمعتها ونفخت فيها الحياة فقام الإله من بين الأموات. ولكن أوزوريس قرر مغادرة الأرض والصعود إلى السماء، وهناك رحب به رهط الآلهة وأعطوه سلطة مطلقة على عالم الموت، فصار قاضياً في العالم الأسفل يحاسب الموتى على ما قدمت أيديهم في الحياة الدنيا. أما أخاه سيت فقد حول نشاطه العدواني إلى حوروس الذي ورث عرش أبيه، وابتدأت جولات لا تنتهي من الصراع بين الطرفين.هذه التغيرات في المعتقدات الدينية ترافقت مع تدهور تدريجي لسلطة فراعنة المملكة القديمة نحو نهايات الألف الثالث قبل الميلاد، واستقلال الأقاليم البعيدة عن العاصمة. وكان من نتائج تراخي قبضة السلطة المركزية انهيار نظام الري وتراجع غلة المواسم الزراعية وانتشار المجاعة، وانعدام الأمن وغياب سلطة القانون. ومع نهاية حكم الأسرة السادسة انهارت المملكة القديمة ودخلت البلاد في الفترة التي يدعوها المؤرخون بالفترة الانتقالية الأولى. خلال هذه الفترة ترسخت اللامركزية السياسية، واستقل حكام الأقاليم الذين راحوا يبنون قصورهم الفارهة الخاصة وينمون ثرواتهم؛ ولم يعد الفرعون مصدر قوتهم وجاههم، كما أنه لم يعد شفيعهم من أجل الخلود في عالم الآلهة، فراحوا يشيدون صروح دفن لهم في مناطقهم، ويسعون لتحقيق الخلود دون شفاعة الفرعون ووساطته.ولم يمض وقت طويل حتى أخذت كل شرائح الشعب تتطلع إلى الخلود وإلى حياة سعيدة بصحبة الآلهة بعيداً عن ألم وشقاء الحياة الأرضية. وبذلك ولدت فكرة الجنة السماوية المعدة لجميع الصالحين بصرف النظر عن منشئهم الطبقي، وصار الإله الصاعد أوزوريس هو الشفيع الوحيد للموتى الذي يمسك بمفاتيح العبور إلى العالم الآخر لكل من عمل صالحاً في دنياه. وبهذه الطريقة تم ربط الأخلاق بالدين؛ فلقد كان أوزوريس إلهاً أخلاقياً يحض على فضائل الأعمال ويجزي بها، ويكره الرذائل ويعاقب عليها. ومع ارتباط الأخلاق بالدين تحولت الثنوية القطبية الكونية إلى ثنوية أخلاقية، وخضعت ميثولوجيا سيت- حوروس إلى تعديل جوهري من أجل ملاءمتها مع العقيدة الشعبية الجديدة.كانت العبادة الأوزيرية عبادة أخروية تركز على النهايات دون كبير عناية بالبدايات. فقد كان المصري حراً لينخرط في أية عبادة ويؤدي ما شاء من الطقوس لمن يشاء من الآلهة، ولكنه عند التفكير بالموت والتهيئة لرحلة العالم الآخر، كان يلتفت إلى أوزوريس ويؤدي ما يتوجب عليه أداؤه لكي يؤمن مزدلفاً آمناً إلى الحياة الثانية. لقد كانت سنوات حياته ووقت مماته معروفة سلفاً من قبل أوزوريس، الذي يحتفظ لديه بسجل تدوَّن فيه الآجال يدعى لوح القدر، وسجل آخر يدعى لوح المصائر تدون فيه أعمال جميع البشر من قبل كاتبين حافظين هما تحوت وسيشيا، يحصيان الأعمال الصالحة والطالحة لكل إنسان ويحفظانها إلى يوم الحساب، الذي يُرى فيه كل واحد أعماله عندما يقف أمام الميزان في قاعة العدالة.عندما يفلح الميت في عبور المفازات المرعبة التي تفصل عالم الأحياء عن عالم الأموات، يلقاه الإله أنوبيس الذي يحمل رأس ابن آوى، فيقوده من يده إلى قاعدة العدالة التي يتصدرها أوزوريس وأمامه ميزان كبير منصوب يقف إلى جانبه إله الحكمة تحوث في هيئة قرد؛ وعلى الجهة الأخرى من الميزان يقف الوحش عم- ميت آكل الموتى متحفزاً للانقضاض على الميت إذا ثبتت إدانته. على طول جدار القاعة يصطف آلهة الأقاليم المصرية وعددهم اثنان وأربعون، فيمر الميت من أمامهم معلناً براءته من اثنتين وأربعين خطيئة تختصر كل ذنوب البشر، قائلاً: لم أقم بعمل شرير يؤذي أحداً من الناس. لم أكن قاسياً مع الفقراء. لم أتسبب بمرض أحد أو حزن وبكاء أحد. لم أقتل ولم أعط أمراً بالقتل… وهكذا إلى آخر القائمة. بعد ذلك يؤخذ قلب الميت ويوضع في إحدى كفتي الميزان، وفي الكفة الثانية توضع ريشة طائر هي رمز لربة العدالة والحقيقة معات، فإذا تساوت كفتا الميزان تُعلن براءة الميت، وإلا فإن الوحش عم- ميت ينقض عليه ويمحو من الوجود أثره. وبعد اجتيازه لامتحان الميزان يؤخذ الميت إلى الجنة الأوزيرية، وهي عبارة عن أرض خصبة تتخللها شبكة من المياه العذبة تهبها خضرة دائمة، فيعيش فيها بصحبة الآلهة وأرواح بقية الصالحين.وبهذا تقدم لنا ديانة مصر القديمة نموذجاً عن كيفية الانتقال من مفهوم القطبية إلى شكل من أشكال مفهوم الثنوية، وعن الدور الذي تلعبه الأخلاق في هذا الانتقال، عندما تتحول من شأن دنيوي إلى شأن ديني، وما ينجم عن ذلك من ظهور فكرة الشيطان، وهي الفكرة الملازمة لمعتقد الآخرة والحياة الثانية سعيدة كانت أم شقية. ولكن المعتقد الأوزيري لم يصل بهذه الأفكار إلى أقصى غاياتها، لأن القطبية لم تتحول تماماً إلى ثنوية جذرية أو ثنوية أخلاقية. فعلى الرغم من علو شأن الأخلاق في العبادة الأوزيرية، إلا أنها لم تطغ تماماً على الطقوس، وبقيت التمائم والتعاويذ والتلاوات السحرية وكلمات القوة جزءاً لا يتجزأ من الممارسات الدينية. وعلى الرغم من تحول أوزوريس إلى إله أخلاقي، إلا أنه لم يتحول إلى مبدأ كوني للخير، مثلما لم يتحول خصمه سيت إلى مبدأ كوني للشر. لقد اتخذ سيت الكثير من ملامح الشيطان الكوني إلا أنه لم يتقمص فعلاً هذه الشخصية بكل أبعادها اللاحقة.إن من أهم نتائج تقصير ثنوية سيت- أوزوريس/ حوروس عن بلوغ الثنوية الأخلاقية، هي بقاء التصور المصري للتاريخ ضمن مفهوم التاريخ المفتوح، حيث الزمن الدنيوي هو سيالة متدفقة أبداً نحو اللانهاية، وغياب أهم عناصر الثنوية الأخلاقية الكاملة وهو معتقد نهاية العالم والبعث الأخير الشامل للموتى. فلقد بقيت التصورات الأخروية هنا في حدود القيامة الفردية والمصير الخاص بكل روح على حدة. الأمر الذي يترافق مع غياب مفهوم شامل عن الإنسانية والمجتمع الإنساني، ودور الإنسان كنوع متميز وخاص في دراما خلاص العالم. على أن الأوزيرية قد قدمت لمفهوم الثنوية الكونية والتاريخ الدينامي الذي يسعى نحو غاية محددة، عدداً من أهم عناصره، وهي:1- صلة الأخلاق بالدين، وصلة المصير الفردي بالأخلاق.2- القيامة الفردية، أو الصغرى.3- الثواب والعقاب الأخرويان.4- تصورات أساسية أولى عن جنة الآخرة.وجميع هذه العناصر سوف تدخل العديد من عقائد الديانات المشرقية اللاحقة. وكانت العقيدة الزرادشتية أول من التقط هذه الأفكار وسار بها إلى نتائجها المنطقية. وهذا ما سوف نتعرض له في مقالة لاحقة
الديانة الزرادشتية وميلاد الشيطان
الخميس 19 نيسان (أبريل) 2007،
لم تكتمل ملامح الشيطان الكوني في تاريخ الدين الإنساني إلا مع الديانة الزرادشتية التي أسسها النبي زرادشت في زمن غير مؤكد من النصف الأول للألف الأول قبل الميلاد. ولد زرادشت في إحدى المناطق الإيرانية النائية عن مركز الحضارة. وعلى ما تقوله النصوص المقدسة الزرادشتية، فإن مظاهر الطبيعة كلها احتلفت بولادته، وحدثت سلسلة من المعجزات التي رافقت هذا الحدث المهم في تاريخ الكون والإنسانية؛ أما الشيطان فقد هرب واختبأ، ثم ما لبث أن أرسل زبانيته لإهلاك الرضيع، فلما اقتربوا منه تكلم في المهد ونطق بصلاة لله طردت الشياطين. وعندما شب على الطوق جاء الشيطان ليجربه وعرض عليه أن يعطيه سلطاناً على الأرض كلها مقابل تخليه عن المهمة التي كان يعد نفسه لها، ولكن زرادشت نهره وأبعده عنه.انخرط زرادشت منذ يفاعته في سلك الكهنوت، وصار كاهناً على دين قومه. غير أن هذا الكاهن ما لبث أن انشق على المعتقدات التقليدية، وأحدث انقلاباً كان له أعمق الأثر في الحياة الروحية لإيران وللإنسانية على حد سواء، عندما جاءه وحي النبوة وهو في سن الثلاثين. فبينما كان الكاهن الشاب يشارك في إحدى المناسبات الطقسية، دعت الحاجة إلى بعض الماء، فتطوع زرادشت لجلبه ومضى إلى النهر القريب؛ وبينما هو يملأ قربته تجلى له على الضفة كائن نوراني، فخاف منه وحاول الفرار، ولكن الكائن طمأنه وكشف له عن هويته قائلاً بأنه ملاك من عند الله، وأنه واحد من الكائنات الروحانية الستة التي تحيط بالإله الواحد وتعكس مجده. ثم أخذ بيده وعرج به إلى المساء حيث مَثَلَ في حضرة أهورا مزدا، وهو الاسم الذي يطلقه زرادشت على الله، وتلقى منه الرسالة التي يتوجب عليه إبلاغها للناس.العقيدةيتميز المعتقد الزرادشتي بابتكاره لأكثر التفسيرات منطقية لوجود الشر في العالم. ففي البدء لم يكن سوى الله- أهورا مزدا؛ وجود كامل وتام، وألوهة قائمة بذاتها مكتفية بنفسها. ولكن هذه الألوهة اختارت أن تخرج من كمونها وتُظهر ماعداها إلى الوجود، فكان أول خلقها روحان توأمان ها سبينتا ماينيو وأنجرا ماينيو. ولكي يكون لهذين الروحين وجود حقيقي مستقل عن خالقهما، فقد منح لها خصيصة الحرية. وبداعٍ من هذه الحرية المطلقة فقد اختار سبينتا ماينيو الخير ودُعي بالروح القدس، واختار أنجرا ماينيو الشر ودُعي بالروح الخبيث. بعد هذا الخيار الأخلاقي للتوأمين، كان لا بد من تصادمهما ودخولهما في صراع مفتوح. على الرغم من أن الله كان قادراً منذ البداية على سحق أنجرا ماينيو ومحو الشر في مهده، إلا أنه آثر عدم التناقض مع نفسه بالقضاء على مبدأ الحرية الذي أقره، والسير بخطته التي تقوم على مقاومة الشر استناداً إلى ذات المبدأ الذي أنتج الشر. وهنا عمد بمعونة الروح القدس سبينتا ماينيو إلى خلق ستة كائنات روحانية قدسية شكلت بطانته الخاصة التي تحيط به على الدوام، ويُدعَون بالأميشا سبينتا أي الخالدون المقدسون. وقد أوجدهم الله من روحه كمن يشعل الشموع من مشعل متقد. ثم إن هؤلاء أظهروا إلى الوجود بالطريقة نفسها عدداً كبيراً من الكائنات القدسية الطيبة هم الآهوريون، فعهد إليهم الرب بمهمة مكافحة الشر كل في مجاله. وبالمقابل فإن أنجرا ماينيو أظهر إلى الوجود عدداً كبيراً من الكائنات الروحانية المتفوقة هم الديفا، فراحوا يساعدونه في تخريب كل عمل طيب يصدر عن الله. وبذلك تم تشكيل عالم الملائكة وعالم الشياطين قبل خلق العالم المادي.بعد أن تأسس الشر على المستوى الروحاني، عرف أهورا مزدا أن القضاء على الشيطان وأتباعه لن يتيسر قبل خلق العالم المادي، لأن عالم المادة سيكون بمثابة المسرح المناسب للصراع بين جند الحق وجند الباطل، ولسوف يعمد أنجرا ماينيو إلى مهاجمة خلق الله بكل ما أوتى من قوة، لأنه خلقٌ حسن وطيب وكامل، ولكن هذا الهجوم سوف يفُتُّ في عضد الشيطان تدريجياً حتى يفقد قوته وسلطانه في آخر الأمر، ويُحسم الصراع لصالح الخير عند نهاية التاريخ. ولقد خلق أهورا مزدا العالم على ست مراحل زمنية (تعادل الأيام الستة في المعتقدات المشرقية اللاحقة). في البداية خلق السماء من صخر كريستالي، ثم خلق الماء، فالأرض، فالحياة النباتية، فالحياة الحيوانية، وأخيراً خلق الإنسان الأول. بعد انتهاء أهورا من خلق الكون انقض عليه أنجرا ماينيو بكل قوته، فغطس في البحر ولوثه بالملح، وتوجه إلى الينابيع فجففها، وإلى الخضرة فأذبلها، ونشر الصحارى وبث فيها الأفاعي والعقارب وكل دابة مؤذية، وعمد إلى النار فلوثها بالدخان، ودخل في عقل آدم وحواء المدعوين هنا "ماشيا و "ماشو" وزرع فيه النقائص الأخلاقية. ولكن الأميشا سبينتا تصدوا له ولجنده، ودخلوا معهم في صراع لا هوادة فيه. هذا الصراع لن يكون له نتائج إيجابية إلا بعون الإنسان، الذي يتوجب عليه أن يعي مسؤولياته الخلقية ويدعم قوى الخير بفكره وقوله وعمله.وعلى هذا، فإن التاريخ يسعى بشكل دينامي إلى نهايته عبر ثلاث مراحل؛ فلقد خلق أهورا مزدا العالم في أكمل وأطيب صورة ممكنة، واستمر على هذه الحالة ردحا من الزمن كان الشيطان خلاله نائماً، وهذه هي المرحلة الأولى مرحلة الخلق الكامل التي يسود فيها الخير. في المرحلة الثانية يهاجم الشيطان خلق الله فيمتزج الخير بالشر. في المرحلة الثالثة تبدأ عملية الفصل بين الخير والشر، وتنتهي بدحر الشيطان وعودة العالم إلى ما كان عليه في البداية. ولقد ابتدأت مرحلة الفصل هذه بميلاد زرادشت، وسوف تنتهي بظهور مخلَّص العالم المدعو ساوشيانط، الذي سيقود المعركة الأخيرة الفاصلة بين قوى النور وقوى الظلام. سوف يولد المخلِّص من عذراء تحمل به عندما تنزل للاستحمام في بحيرة كانا سافا، حيث تتسرب إلى رحمها بذور زرادشت التي حفظها هناك الملائكة إلى هذا اليوم الموعود.يرتبط معتقد نهاية التاريخ ارتباطاً وثيقاً بمعتقد البعث والحساب والحياة الثانية. فبعد أن يودَع الميت في القبر، تمكث روحه عند رأسه ثلاثة أيام تتأمل في حسناتها وسيئاتها. وخلال ذلك يزورها ملائكة الرحمة ويواسونها إذا كانت من الأرواح الصالحة، أو ملائكة العذاب الذين يذيقونها عذاب القبر إذا كانت من الأرواح الشريرة. وفي اليوم الرابع تُساق الروح إلى جلسة الحساب، فتمثُل أمام ميترا قاضي العالم الآخر الذي يقف خلف ميزان الحساب، وعن يمينه وشماله مساعداه اللذان يقومان بوزن أعمال الميت، فيضعان حسناته في إحدى الكفتين وسيئاته في الكفة الأخرى، ليتوجه بعد ذلك إلى الفردوس أو إلى الجحيم عبر طريق يدعى بصراط المصير، وهو عبارة عن جسر يتسع أمام الروح الطيبة فتسير عليه الهوينى إلى الجهة الأخرى حيث بوابة الفردوس، ولكنه يضيق أمام الروح الشريرة فتتعثر وتسقط لتتلقفها نار الجحيم. يتألف الجحيم من عدة طبقات يقع أسفلها في مركز الأرض، وكل طبقة تستقبل أهلها حسب فداحة ذنوبهم وتقدم لهم من صنوف العذاب ما يوازيها. أما السماء فتتصاعد على ثلاثة درجات تنتهي بالسماء العليا المدعوة نمارو ديمانا، أي مسكن الغناء، وهناك تقيم الروح في بَرَكة وسلام إلى يوم القيامة.مع ظهور المخلص تحل الأيام الأخيرة وتقترب الساعة. يوم تلفظ الأرض ما اُتخمت به من عظام الموتى، ويُفرغ الجحيم والفردوس من سكانهما ليعودوا إلى الحشر العظيم، حيث يلتقي من مات منذ آلاف السنين بمن بقي حياً إلى يوم الدينونة. عند ذلك يسلط الملائكة ناراً على الأرض تذيب معادن الجبال وتشكل نهراً من السائل الناري يرده الجميع، فأما الأحياء فيعبرونه كمن يخوض في نهر حليب دافيء، وأما الأشرار فينجرفون في التيار الذي يفنيهم ويمحو عن الأرض أثرهم بعد عذاب أليم. وفي ذلك الوقت يكون جند الظلام قد اندحروا في المعركة الفاصلة مع جند النور واستؤصلت شأفتهم، فيغوص نهر النار إلى أعماق الجحيم حيث لجأ الشيطان أنجرا ماينيو ومن بقي معه، فيلتهمهم جميعاً ويتم التخلص من آخر بقايا الشر. كما أن الجحيم نفسه يتطهر مثلما تطهرت بقية أجزاء الكون، ويغدو إقليماً من أقاليم الأرض الزاهرة، التي تحولت إلى جنة يسكنها الصالحون خالدين فيها أبداً.العباداتكانت الديانة الأصلية التي أسس لها رزادشت ديانة بسيطة ولا تعتمد إلا القليل من الطقوس. فلقد دعا زرادشت أتباعه إلى خمس صلوات في اليوم، تقام عند الفجر والظهيرة والعصر والمغرب ومنتصف الليل. وتتخذ صلاتا الظهيرة ومنتصف الليل أهمية خاصة، لأن منتصف النهار هو الوقت الذي تكون فيه قوى النور في ذروة سيطرتها على العالم، أما منتصف الليل فهو الوقت الذي تكون فيه قوى الظلام في ذروة فعالياتها، فيقوم المؤمنون لإيقاد النار دعماً لقوى النور. ولترتيل الصلوات. وتسبق الصلاة عملية الوضوء التي تتضمن غسل الوجه واليدين والقدمين. بعد ذلك يقف المصلي منتصباً مسبل الذراعين في حضرة أهورا مزدا، ويتلو في صلاته مقاطع خاصة من أناشيد الغاثا القديمة المنسوبة إلى زرادشت.تتجلى بساطة الديانة الأصلية في غياب المعابد والهياكل والمذابح. وزرادشت نفسه لم يعنَ بتشييد أماكن خاصة للعبادة، لأن الله موجود في كل مكان ويمكن التوجه إليه في أي مكان طاهر. كما منع النبي صنع الصور والمنحوتات لأهورا مزدا وبقية الكائنات القدسية؛ لذا فقد خلت المراكز الحضرية للمملكة الأخمينية من المعابد الضخمة، وكانت الصلوات تقام في البيوت أو في أماكن مفرزة للعبادة في الهواء الطلق مزودة بموقد للنار المقدسة. ولكن الملك أردشير الثاني الذي حكم من عام 485- 425 ق.م، خرج على هذه التقاليد وكان أول من بنى المعابد الضخمة على الطريقة البابلية وزينها بصور للكائنات السماوية. ولكن فريقاً من الكهنة عارضوا هذا الإجراء وردوا عليه بإقامة معابد تتصدرها شعلة النار المقدسة بدلاً من تماثيل الآلهة، وبذلك ظهرت لأول مرة معابد النار في إيران، وأخذ أهل الديانات الأخرى يصفون الزرادشتيين بأنهم عبدة النار، في الوقت الذي لم تكن النار بالنسبة إليهم إلا رمزاً للألوهة المطلقة الخافية. ومع ظهور معابد النار نشأت طبقة جديدة من الكهان المتفرغين لطقوس النار عُرفت تاريخياً باسم ماجي، وباللغة اليونانية ماجوس التي استمدت منها التسمية العربية مجوس.الواجب الخلقيعلى الإنسان أن يُعنى بأخيه الإنسان وببقية مخلوقات الأرض، لأنهم جميعاً صنعة الله الواحد. وعليه أن يرعى جسده وروحه في آنٍ معاً؛ وتتحقق رعاية الجسد من اتباع الفرد لقواعد النظافة والصحة العامة، والاعتدال في المأكل والمشرب وتجنب الإفراط في كل شيء؛ أما رعاية الروح فتتحقق من اتباع النظام الأخلاقي السليم الذي يتلخص في ثلاثة عناصر هي: 1- الفكر الحسن، فلا يتداول الفرد في عقله إلا الأفكار الطيبة ويُبعد عنه الأفكار الخبيثة. 2- القول الحسن، فلا يصدر عنه سوى الكلام الطيب. 3- العمل الحسن الذي يفيد به نفسه وأسرته ومجتمعه، ولا يبادر إلى أذية أي مخلوق. من خلال هذه الأخلاق يستطيع الإنسان أن يكافح الشر ويساعد القوى الإلهية الخيرة على دحر الشيطان ورهطه.طقوس الموت:تقوم طقوس الموت في الزرادشتية على نظرة النبي إلى الموت باعتباره ناتجاً من نواتج فعاليات الشيطان في العالم. فأجساد الأحياء تنتمي إلى أهورا مزدا، بينما تنتمي جثث الموتى إلى الشيطان. إن لمس أي جثة هو مصدر للنجاسة، وعلى من احتك بها أن يطهر نفسه بالماء؛ كما أن أي جزء مقتطع من الجسم الحي مثل قصاصات الأظافر أو قصاصات الشعر هو جزء ميت ويجب عدم الاحتكاك به. وجميع الحيوانات التي تتغذى على الجثث من النمل والذباب والكلاب والضباع وما إليها، هي حيوانات نجسة يجب قتلها أينما وجدت. من هنا فقد خضعت عملية دفن الموتى إلى طقوس خاصة يقوم بها اختصاصيون يعرفون كيف يطهرون أنفسهم بعدها. فقد كانت جثة الميت تسجى على مصطبة حجرية في منطقة نائية أو في سفح جبل، ولا يسمح لها بالاحتكاك بتربة الأرض كيلا تلوثها، وهناك تترك مكشوفة حتى تتحلل بالعوامل الطبيعية أو انقضاض الجوارح عليها. وبعد فترة كافية لتحلل الجسد تدفن العظام تحت التراب انتظاراً لبعثها في يوم القيامة.قواعد الطهارة:لم تضاه الزرادشتية قبلها أو بعدها ملَّة في الحفاظ على طهارة الجسم والمأكل والمشرب. ويأتي حرص الزرادشتي المبالغ به على النظافة من اعتقاده بأن الفساد والتحلل والعفونة وكل أنواع القذارة هي من عمل الشيطان. من هنا فإن النظافة والبُعد عن الاحتكاك بكل ما هو قذر وملوث هو شأن يعادل الصلاة والعمل الطيب، لأن في التزام قواعد الطهارة محاربة لقوى الشيطان. وبذلك يستطيع الإنسان المساهمة في محاربة الشر الكوني من خلال أدائه لأصغر واجباته اليومية.التطور التاريخي:بقيت تعاليم زرادشت التي بثها في أناشيد الغاثا لفترة طويلة بمثابة الإنجيل الذي يحفظ جوهر الدين ويجمع المؤمنين حول العقيدة. ولكن لغة هذه الأناشيد صارت قديمة بمرور الزمن، ودعا أسلوبها البليغ المختصر الكهنة إلى التوسط من أجل تبسيط أفكارها وشرحها للناس. وقد تراكمت هذه الشروحات تدريجياً حتى شكلت مصدراً آخر من مصادر الديانة الزرادشتية، وجُمعت تحت اسم الأفيستا؛ ثم تطلبت هذه المجموعة من الشروحات بدورها الشرح والتفسير فنشأ على هامشها كتاب الزند أفيستا، أي شرح وتعليق على الأفيستا. وقد لعب المجوس دوراً مهماً في تحرير وتطوير الأفيستا، ولكنهم أدخلوا تعديلات مهمة على أفكار زرادشت الأصلية، فبنوا لاهوتاً متكاملاً عن مجمع الملائكة ومجمع الشياطين، فصارت الملائكة التي تعمل تحت إمرة سبينتا ماينيو تُعد بالآلاف، وكذلك الشياطين التي تعمل تحت إمرة أنجرا ماينيو. كما تحول الأميشا سبينتا من قوى مجردة وغير مشخصة إلى كائنات إلهية لكل منها وظيفة محددة في نظام الكون والطبيعة، وصارت فروض العبادة والتقديس تقدم إليها بما هي كذلك. كما أدخل المجوس على العقيدة الأصلية تعديلاً جذرياً انحرف بها عن فكر زرادشت، عندما جعلوا أنجرا ماينيو يقف على قدم المساواة مع أهورا مزدا، ونظروا إليهما كخصمين متصارعين منذ البدء؛ وبذلك تحول أهورا مزدا من إله يسمو فوق الروحين البدئيين المتنافسين إلى طرف مباشر في الثنوية الكونية.وفي عقيدة الزورفانية التي طورها فريق من المجوس، صار أهورا مزدا وأنجرا ماينيو (الذي يتخذ هنا اسم أهريمان) ابنين توأمين للإله الأعلى المدعو زورفان، أي الزمن. وقد عهد زورفان إلى أهورا مزدا بمهمة خلق العالم ليغدو مسرحاً للصراع المكشوف بين قوى الخير وقوى الشر، وحدد لصراعهما ردحاً معيناً من الزمن ينتهي بغلبة أهورا مزدا على خصمه أهريمان؛ وبقي بمثابة العلة الأولى والإطار الذي تجري ضمنه أحداث الكون. وقد تحولت هذه العقيدة من هرطقة تعيش على هامش زرادشتية الأفيستا إلى دين رسمي للدولة في عهد الأسرة الساسانية، حيث تحولت الزرادشتية في المراحل المتأخرة للتاريخ الإيراني القديم من ديانة عالمية تتوجه إلى جميع بني البشر إلى ديانة قومية خاصة بإيران. وهذا ما أضعف موقف الزرادشتية تجاه الديانات العالمية اللاحقة وهي المانوية والمسيحية والإسلام
لاهوت إبليس الملاك الساقط: الأفكار التأسيسية
الاربعاء 25 نيسان (أبريل) 2007
تكاد شخصية الشيطان أن تكون غائبة عن كتاب التوراة العبرانية، فهو لا يظهر إلا مرات قليلة حيث يتخذ دور التابع ليهوه المنفذ لأوامره في معظم الأحيان. وربما كان واحداً من ملائكته موكلاً بإتيان بعض المهام الشريرة، على ما نفهم من مطلع سفر أيوب وهو الموضع الوحيد في التوراة الذي يلعب فيه الشيطان دوراً بارزاً. ولعل السبب في بقاء الشيطان في دائرة الظل، هو كون الخير والشر وجهان متكاملان للإله التوراتي الواحد، فهو صانع الخير وصانع الشر يوجههما بطريقة تخفى غاياتها عن أفهام عباده. نقرأ في سفر إشعيا 45، 76: "أنا الرب وليس آخر، مصِّور النور وخالق الظلمة، صانع السلام وخالق الشر، أنا صانع كل هذا". ونقرأ في سفر يشوع بن سيراخ 11، 14-15: "الخير والشر، الحياة والموت، الفقر والغنى، من عند الرب". ونراه في سفر التثنية 32، 39-42 يتباهى بأن سهامه تسكر بالدم ويأكل سيفه اللحم مغمساً بدم القتلى: "أنا أميت وأحيي، سحقت وإني أشفي… إذا سللت سيفي البارق وأمسكتْ بالقضاء يدي، أُسكر سهامي بدمٍ ويأكل سيفي لحماً بدم القتلى والسبايا ومن رؤوس قوات العدو". وهو حين يغضب يخرج دخان من أنفه ونار من فمه. (المزمور 18، 7-8). وعندما يتحرك يسبقه الوباء ومن عند رجليه تخرج الحمى. (حبقوق 3، 4-6).لقد دونت آخر الأسفار التوراتية التي اعتبرت قانونية خلال الفترة الانتقالية من القرن الثاني إلى القرن الأول قبل الميلاد، وهي الأسفار الـ 39 التي أقرها مجمع يمنيا في فلسطين عام 90 للميلاد باعتبارها الأسفار الرسمية المكونة للكتاب المقدس العبري.إن خلو الإيديولوجيا التوارتية من مفهوم واضح عن الشيطان قد جعلها خلواً أيضاً من فكرة التاريخ الذي يقوده صراع الخير والشر إلى نهاية للزمن يعقبها تحويل كامل للوجود إلى مستوى ماجد وجليل، كما جعلها خلواً من فكرة الثواب والعقاب والجحيم والنعيم في العالم الآخر. إن التاريخ يتحرك بشكل خطي في الإيديولوجيا التوراتية ولكن لا نحو خلاص الإنسانية جمعاء من ربقة الشيطان في اليوم الأخير الذي ينتصر فيه الخير على الشر، بل نحو يوم ينتصر فيه بنو إسرائيل على كل أعدائهم ويجعلونهم عبيداً في خدمتهم؛ عند ذلك يحل ملكوت الرب على الأرض، وهو مملكة يوتوبية يحكمها الإله يهوه بشكل مباشر. وخلال هذه الأحداث يلعب المسيح اليهودي دوراً حاسماً، فهو الإنسان المتفوق الذي يُمسح ملكاً على إسرائيل ويجمع منفييها من جهات العالم الأربع، ويحارب أعداءها في كل مكان ممهداً لقيام ملكوت الرب.لقد دُوّنت أواخر الأسفار التوراتية التي اعتبرت قانونية، خلال الفترة الانتقالية من القرن الثاني إلى القرن الأول قبل الميلاد، وهي الأسفار التي أقرها مجمع يمنيا في فلسطين نحو عام 90 للميلاد باعتبارها الأسفار الرسمية التي يتألف منها الكتاب المقدس اليهودي وعددها 39 سفراً. ولكن الأسفار التي تم استبعادها من المجموعة الرسمية، وأسفار أخرى تم تدوينها لاحقاً وصولاً إلى نهاية القرن الثاني الميلادي، وجميعها اعتبرت منحولة، أي معزوة إلى أسماء شخصيات توراتية لم يكونوا مؤلفيها الحقيقيين، مارست تأثيراً على الفكر الديني اليهودي لا يقل عن تأثير الأسفار الرسمية، ومدت الفكر الرباني والتلمودي اللاحق بكثير من عناصره المؤسِسة. وبتأثير من الأفكار الزرادشتية التي شاعت في المنطقة المشرقية، فقد قدمت هذه الأسفار غير الرسمية أفكاراً جديدة على الإيديولوجيا الدينية التوراتية، أهمها فكرة الشيطان الكوني، وصراع الخير والشر الذي يقود حركة التاريخ، والقيامة العامة للموتى في اليوم الأخير. والثواب والعقاب، ومسيح آخر الزمن، والجنة والنار. وقد انفردت هذه الأسفار بالتأسيس للاهوت إبليس باعتباره ملاكاً عصى ربه فأُبعد عن مملكة السماء مع من أغواهم من الملائكة، وتحول إلى شيطان يعارض إرادة الرب ويعمل على زرع الشر في العالم، وعلى وجه الخصوص في نفوس البشر. وسوف نعمل فيما يلي على متابعة تطوير الأسفار غير القانونية لهذا اللاهوت الخاص، واستمراره في العقائد المشرقية التالية.يتألف الأدب التوراتي المنحول من ستة وخمسين وثيقة تستغرق في آخر وأهم طبعة حديثة لها[1]يبتديء لاهوت الملاك الساقط بالتوضح في الوثيقة المعروفة بسفر أخنوخ الأول[2]في هذا السفر لايتحدث الكاتب عن ملاك واحد ساقط باعتباره أصلاً للشر، بل عن مجموعة من الملائكة يبلغ عددهم مائتين. فعندما تكاثر البشر بعد وفاة آدم وحواء، وولد لهم بنات حسان وجميلات، حدث أن فريقاً من الملائكة أبناء السماء رأوهن فاشتهوهن، فقال بعضهم لبعض: هلم بنا نختار لأنفسنا زوجات من بين بني البشر وننجب منهن نسلاً. فقال لهم رئيسهم سيمياز: أخشى أن تتراجعوا عن فعل هذا الأمر بعد الشروع به وأدفع وحدي ثمن هذه الخطيئة العظيمة. فأجابوا جميعاً: دعونا نقسم قسماً، ولتحل اللعنة على كل من يتراجع عن فعل هذا الأمر. فأقسموا جميعاً وارتبطوا بقسم اللعنة هذا؛ ثم هبطوا من السماء على قمة جبل حرمون. وهذه أسماء رؤسائهم: سيمياز، راميئيل، تامئيل، دانئيل…إلخ. هؤلاء هم رؤساء العشرات، وكان الجميع تحت إمرتهم.ويتابع الكاتب فيقول بأن هؤلاء الساقطين الذين ينتمون إلى فئة ساهري السماء الموكلين بتفقد أحوال الأرض على الدوام، قد اتخذوا لأنفسهم زوجات من بين الناس، فولدت الزوجات لهم عمالقة طول الواحد منهم ثلاثة أذرع. ولكن شر العمالقة كثر على الأرض وأكلوا الأخضر واليابس، وعندما لم يبق ما يكفي لطعامهم راحوا يلتهمون البشر أيضاً، فصعد صراخ البشر إلى السماء. عند ذلك نظر الملائكة ميكائيل وسورافيل (= إسرافيل) وجبرائيل من الأعالي، ورأوا ما يجري على الأرض من شر وعنف، فمضوا إلى الرب وأطلعوه على الأمر. بعث الرب مع الملائكة إلى أخنوخ يأمره بأن يذهب إلى الساقطين وينقل لهم قضاء السماء بشأنهم؛ فهم سيشهدون ذبح أولادهم العمالقة، وبعد ذلك يقيدون في ثنايا الأرض لسبعين جيلاً حتى يوم الدينونة، عندها سيقادون إلى هوة النار وإلى العذاب الأبدي. سمع الساقطون حكم الرب عليهم فارتاعوا، وطلبوا من أخنوخ أن يشفع لهم عنده ويقبل استرحامهم؛ فمضى أخنوخ وجلس عند ضفة النهر حيث قرأ استرحام الساقطين، وكرر ذلك حتى وقع عليه سبات وعرضت له رؤيا، فرأى فيما يرى النائم أنه قد عُرج به السماء حيث مثل في حضرة الرب:"كنت ساجداً طيلة الوقت أرتعد. ثم كلمني الرب بصوته قائلاً: تقدم يا أخنوخ واسمع كلامي… اذهب إلى ساهري السماء الذين أرسلوك لتسترحم من أجلهم وقل لهم: لقد كان أحرى بكم أن تسترحموا من أجل الإنسان لا أن يسترحم الإنسان من أجلكم. لماذ توليتم عن السماء العليا المقدسة لتناموا مع النساء وتتدنسوا ببنات الناس، وتأخذوهن لكم زوجات مثل بني البشر وتنجبوا منهن نسل العمالقة؟ لقد كنتم قديسين وروحانيين، ولكنكم تدنستم بدم النساء وأنجبتم أولاداً من لحم ودم، ومثل الذين يموتون ويفنون صار لكم توق لجسد اللحم والدم. لقد أعطيت أولئك نساءً ليخصبونهن وينجبوا منهن أولاداً لكي لا يفنى جنسهم على الأرض، أما أنتم فكنتم روحانيين وخالدين فلم أعطكم زوجات لأن السماء مسكنكم. والآن فإن العمالقة أولادكم نسل الروح والجسد سيدعون أرواحاً شريرة، لأن أرواحاً خبيثة سوف تصدر عن أجسادهم المذبوحة ويكون في الأرض مسكنها. لن يأكلوا ويشربوا على الرغم من أنهم يجوعون ويعطشون. سوف يسببون الأذى والعنف والدمار على الأرض، ويدفعون الناس إلى الخطيئة وإلى المعصية، ويقومون ضد أبناء الناس وضد النساء لأنهم منهن أتوا. عندما يَهلَك العمالقة سوف تعيث الأرواح الخارجة منهم فساداً وترتع بلا رادع إلى يوم الحساب الأخير، يوم يهلك الساهرون الساقطون. فقل لهم لن يكون لكم سلام أبداً".بعد ذلك يأخذ الملائكة أخنوخ في جولة تكشف له أسرار السماء، ويستغرق وصف هذه الجولة بقية الجزء الأول من السفر. وقد رأى، من جملة ما رأى، خزانات الرياح، وخزانات البروق والرعود وخزانات الغيوم والثلوج. ورأى منابع الأنهار كلها ومنابع البحر. ورأى الملائكة التي تحرك عجلات القمر والشمس وبقية الأجرام السماوية، والملائكة التي تسند قبة السماء عند آفاق الأرض حيث بوابة السماء التي تخرج منها النجوم في مواعيدها، وبوابات الرياح الأربعة، وبوابات الثلج والبَرَد والضباب والندى. ورأى مكان المطهر حيث تلبث أرواح الموتى في انتظار يوم الحساب الأخير. ورأى جنة الأبرار وجحيم الكفار.تحتوي الأجزاء اللاحقة من السفر على عدد آخر من الرؤى مصاغة بأسلوب شعري ترميزي يفتقد إلى الشروحات التفصيلية التي ميزت الجزء الأول. ولسوف نقتبس فيما يلي أهم هذه الرؤى المتصلة بموضوعنا، وهي التي تدور حول المخلَِّص المنتظر المدعو بابن الإنسان، والتصورات الآخروية المتعلقة بنهاية الزمن.مبدأ الأيام وابن الإنسان:، التي يُرجع الاختصاصيون زمن تدوينها إلى أواخر القرن الثاني قبل الميلاد. وقد عُثر على مقاطع متفرقة من هذا السفر باللغة الآرامية بين نصوص قمران (مخطوطات البحر الميت)، كما عُثر على مقاطع متفاوتة الطول منه باللغتين اليونانية واللاتينية. أما النص الكامل فمتوفر فقط باللغة الإثيوبية، لأن الكنيسة الإثيوبية قد تبنته باعتباره جزءاً من كتاب العهد القديم.نحواً من ألفين من الصفحات. وقد اخترت التوقف عند أهم هذه الوثائق التي تحتوي على الأفكار التأسيسية للاهوت الملاك الساقط."هناك رأيت الذي رأسه مبدأ الأيام (= الرب). كان شعره مشتعلاً بياضاً مثل الصوف، ومعه كائن آخر له مظهر إنسان ووجهه ممتليء نعمة كملاك قديس، فسألت الملاك المرافق أن يكشف لي سر ابن الإنسان من هو، ولماذا يرافق مبدأ الأيام. فقال لي: هو ابن الإنسان الممتليء بالخير والذي به يحيا الخير. لأن رب الأرواح قد اختاره، وقدره كل خير أمام رب الأرواح إلى الأبد. إن ابن الإنسان الذي رأيت، سوف يرمي الملوك والجبابرة والأقوياء عن عروشهم وكراسيهم، لأنهم لم يحمدوه ولم يمجدوه ولم يعترفوا بمصدر مُلكهم وسلطانهم. سوف يخلع قلوب الأقوياء، ويكسر أسنان الخطأة ويخفض وجوه العتاة ويمرغها بالعار… فيضطجعون ولا يقومون".نلاحظ هنا أن الفكر المنحول قد تحول عن فكرة مسيح آخر الأزمنة في الإيديولوجيا التوراتية، إلى فكرة "الحقيقة المسيحانية" القائمة مع الله قبل خلق العالم. فالمسيح هو حقيقة كونية سوف تتجسد في إنسان عندما يأتي التاريخ إلى نهايته:"… قبل أن تخلق الشمس وبروج السماء ونجومها، دُعي اسمه أمام رب الأرواح. سيكون نوراً تهتدي به الأمم وأملاً لجميع المحزونين. أمامه سوف يسجد أهل الأرض ويعبدونه ويحمدون ويباركون رب الأرواح بالأناشيد. لأجل هذا تم اصطفاؤه وحجبه في حضرة رب الأرواح من قبل خلق العالم وإلى نهاية الدهر… في تلك الأيام سيُذلُّ الملوك والمتنفذون جراء ما اقترفته أيديهم… وسوف يسلَّمون إلى أيدي المختارين، فيحترقون مثل قش في نار أمام وجه القديسين وينمحي أثرهم…".القيامة والبعث:في الرؤى التالية هنالك إشارات متفرقة إلى القيامة والحساب والمعاد نلخصها فيما يلي:فمن علامات اقتراب الساعة انتشار الظلم وغياب العدالة، وشح المطر، وجدب الأرض، واضطراب مسارات الأجرام السماوية، وتغيير القمر لمواعيد طلوعه. وعندما تحل الساعة يحدث من الأهوال ما يجعل كل مرضعة تغفل عن رضيعها وترميه عن صدرها. عندها يُبعث من في القبور، وكل الذين هلكوا بدون دفن ومُحق أثرهم، كالذين هلكوا في الصحراء أو غرقوا في الماء والتهمتهم الأسماك، أو من افترستهم الكواسر؛ ويقف الجميع للحساب أمام رب الأرواح. ثم تُفتح بوابة الجحيم وهي هاوية عميقة لا يسبر غورها ومهما وفد إليها من الناس لا تمتليء، فيها ملائكة العذاب ومعهم أدوات العقاب من سلاسل وقضبان وما إليها، وفي قعرها تضطرم نار أبدية تتلقف المجرمين.سفر عزرا الرابع:يقدم لنا هذا السفر تنويعاته الجديدة على التصورات الأخروية للفكر المنحول. وهو يعود في نسخته العبرية الأصلية إلى أواخر القرن الأول الميلادي، وله ترجمات إلى كل من اليونانية واللاتينية والإثيوبية والقبطية والأرمنية. ويحتفظ الفاتيكان بترجمتين عربيتين قديمتين تحت رمز العربية 1، والعربية 2.في مدينة بابل التي سيق إليها عزرا مع بقية سبي مملكة يهوذا، تعرض له سبع رؤى متتابعة، في الرؤيا الأولى يناجي عزرا ربه ويطرح عدداً من التساؤلات حول أصل الشر ومصير إسرائيل والعالم وكيفية ثواب المحسنين وعقاب المسيئين، فيظهر له الملاك أوريئيل الذي ينقل له عن لسان الرب أجوبة تساؤلاته. ففيما يتعلق بنهاية الزمن والتاريخ يقول له إن الساعة قادمة لاريب فيها، ولكن تسبقها إشارات وعلامات. ففي ذلك الوقت يتملك الناسَ ذعر عظيم، وتغيب سبل الحق ويختفي الإيمان في الأرض. الشمس تشرق في الليل والقمر يطلع في النهار، والدم ينبثق من الأشجار. الصخر يتكلم ويسمع صوته، والنجوم تغير مجراها وتتساقط على الأرض. تتشقق الأرض عبر البطاح وتندلع نيران لا تنطفيء. تترك الطيور أعشاشها وتفر، والكواسر تهجر مقراتها، والبحر يلفظ أحياءه. تجف الحقول وتفرغ الأهراءات، ويختلط ماء الأرض الحلو بمائها المالح. يقوم الإخوة والأصدقاء ضد بعضهم ويتقاتلون بضراوة. عمل الناس لا يعطي ثماراً وكدهم يذهب هباءً.في الرؤيا الثالثة ينقل الرب لعزرا خبر مملكة المسيح القادمة على الأرض والتي ستدوم مدة أربعمئة سنة: "هو ذا يوم يأتي بعد ظهور الإشارات التي أبنأتك عنها، فتظهر المدينة التي لا أثر لها الآن ويُكشف عن الأرض غير المنظورة الآن. عندها سيرى عجائبي كل من نجا من الكوارث التي أخبرتك بخبرها. عندها سيظهر المسيح ابني والذين معه، وسينعم الذين بقوا مدة أربعمئة سنة. ثم يموت المسيح ويموت كل ذي نسمة حياة، ويعود العالم إلى الصمت البدئي مدة سبعة أيام كما كانت حاله قبل البدايات. بعد ذلك يستيقظ العالم النائم ويتلاشى منه ماهو قابل للفساد… ستلفظ الأرض الأجساد النائمة فيها، وتُخرج ردهات المطهر ما عُهد إليها من أرواح، ويظهر العلي مستوياً على عرش الدينونة. عندها تزول الرحمة ويغيب الصبر ويبقى الحساب العسير، ويُعرض الثواب والعقاب. عندها تتعرى هاوية العذاب ويبرز في مقابلها مقام النعيم، يُكشف عن أتون الجحيم ويبرز في مقابله الفردوس المقيم."عندها يقول العلي للأمم التي بعثت من الموت: انظروا الآن إلى الذي أنكرتم وصاياه، ثم انظروا إلى هذه الجهة وإلى تلك، هنا النعيم المقيم وهناك العذاب والجحيم. هذا ما يقوله العلي في يوم الدينونة، يوم لا شمس فيه ولا قمر ولا نجوم، لاسحب فيه ولا رعد ولا برق ولا ريح ولا ماء، لا صباح فيه ولا مساء، لا صيف فيه ولا ربيع ولا حرّ ولا صقيع ولا وابل ولا ندى… وحده مجد العلي يتلألأ".في الرؤيا السادسة نجد المسيح طالعاً من وسط البحر: "هبت من البحر ريح دفعت أمامها كل أمواجه. فنظرت ورأيت من قلب الريح شكل إنسان يطلع من البحر. ثم رأيت ذلك الإنسان يطير مع الغيوم في الأعالي، وأينما أدار وجهه حدثت رجَّة ورجفة، وكلما هدر صوته ذاب سامعوه مثلما يذوب الشمع المحمى. ثم رأيت حشوداً تهب من الجهات الأربع لتقاتل الرجل الطالع من البحر، ولكنه اقتطع حبلاً عظيماً بيديه وقذفه عليهم، فتملك الذعر تلك الحشود التي تجمعت للقتال ولكنها عزمت على الهجوم. فلما رآها تقترب منه لم يرفع يداً ولم يمسك حربة أو سلاحاً، ولكنه أطلق من فمه زفيراً نارياً ومن لسانه عاصفة من الشرار، فامتزج الاثنان في تيار ملتهب انصب على الحشود المهاجمة فأتت عليهم جميعاً، ولم يبق في أماكن تجمعاتهم سوى الغبار والرماد وروائح الدخان. ثم رأيت الرجل يهبط من الجبل ويدعو إليه حشداً آخر هادئاً ومسالماً، فتقاطر إليه أناس بعضهم فرح وبعضهم حزين وبعضهم ير