لقد تمّ كنس الإله المسيحيّ منذ سنوات عديدة، كما تمّ قذفه في قمامة حقبة تاريخيّة مضت، لكنّ القتلة لم يكفهم ذلك، إذ طالت المدية الفلسفية والعلميّة للحداثة الانسان ذاته، ما حقّق منعطفا مرعبا لا أساس له غير الجنون الذي أعلن عنه ميشال فوكو، وفي المقابل ظلّ اللـه الاسلاميّ يتحرّك بأقدام من كتب صفراء، إلى أن تمّ تشغيله بعد جملة من الانفجارات الثوريّة، واعتماده حصان طروادة جديدا، فكان حضوره دمويّا خالصا، معدّا للفتك، كما لو أنّه آلة محض.
تحوّل هذا اللـه الاسلاميّ إلى وحش برّي، ولكنّه لا مرئيّ، فهو من جهة يجوب أقطار العالم، محمولا في صدإ الخرافة التي ارتدّت بعقول حامليه إلى أزمنة سحيقة وخالية مضت، ومن جهة ثانية يحمل في جعبته غير القليل من الأشكال الحداثية، تلك المتمثّلة في الأسلحة المتطورة، حتّى أنّنا لا نلحظه مطلقا إلا من خلال آثاره الإرهابيّة، حيث أمعاء الموتى، ورؤوس الضحايا المهملة، وبرك الدمّ المفزعة، وما من شكّ في أنّ مثل حضوره هذا ما هو إلا اعلان قريب عن موته، وأفوله، فمحاصرة الهويّة كولونياليا، وشطب موروثها الدينيّ، وسياسات استنبات تنظيمات إرهابية تشوّش على الثورات، جعلت منه محاصرا كلّيا، ما سمح بسهولة تشغيله وإلصاق تهمة الإرهاب به، حتى أنّه صار وجها لوجه مع فكر حداثيّ يهدّده بالانقراض والشطب. لا أحد ينكر أن هذا اللـه لم يعد يثق بأحد، ما حوّله إلى شبح يسكن البرّية والمدن، ويشتهي لحم القرابين الآدميّة، ورائحة الشواء البشريّ، وذلك من خلال ما نراه يوميا من أحداث للقتل المفزع، فحرّاسه الذين أنزلوه من الآخروي إلى الدنيويّ يتخذونه الآن رمحا وطيورا من كاتيوشا وآر-بي-جيّ- يحاربون به ومن أجله.
في هذا الإطار، عمد حرّاسه إلى الفتك بالفنانين، وقتلهم، وتهديدهم، وترويضهم، ذلك أنّهم أوّل الواقفين في ساحات الرفض ضدّ اشتغاله الدمويّ، وضدّ ما سنّه من شرائع ومحرّمات، ولكن يا لفزع هذه السخريّة: إنّ هؤلاء الحرّاس هم أنفسهم من زجّوا به في سجون اللحم البشريّ. لقد رفضوا رفضا صارخا وقويّا تجسيده في المسرح أو السينما، أو حتى تجسيد الأنبياء، بما يعني وقوفهم ضدّ نزوله من عرشه الميتافيزيقيّ إلى كتلة التراب الأرضيّ، ولكنّهم في المقابل تقمّصوا جلده بتقنيات سينمائيّة، إذ لا تخلو كلّ الوسائط الافتراضية والشبكات العنكبوتية من فيديوهات دمويّة، تتضمّن عمليات الذبح والانفجارات التي يمارسها هؤلاء القتلة، بمختلف تنظيماتهم الإرهابية.
يمنع تجسيد هذا الـله في الحقل الفنّي، ما يحيل إلى أنّه نرجسيّ إلى درجة أعلى من تمثّل بشريّ، وفي المقابل يتمّ تشغيله بتقنيات سينمائية في فرجات دمويّة، ما يحيل أيضا إلى أنّه برّي يرفض المأسسة أو التقنين أو أن يحاصر في ثوب جمالي/استيطيقيّ، وهنا ندلي بأسئلة مخيفة: هل صار من مهمّات هذا اللـه قتل الفنانين ومنعهم ودحضهم على أن يصير هو الفنّان الوحيد؟ وهل رفض اشتغاله في الفنون باسم معاداته للتقدميين وفكرة الالحاد جعله يخلق فنّه الخاصّ؟ وأي مستقبل لتلك الفنون إذا كانت هي بدورها محلّ احتكار من قبله؟ أو بالأحرى أيّ مصير ينتظرها وأيّ منعطف مرعب قد يأخذها؟
لقد نشر مؤخّرا المخرج والسيناريست الفرنسي جان لويس كومولي كتابا يحمل عنوان “داعش، السينما والموت”، مؤكدا من خلاله أنّ هذا التنظيم الدمويّ يتخذ بشكل مروّع المؤثرات البصرية نوعا من أسلحته الفتّاكة، كما أنّه يتقن بشكل كبير استخدام التقنيات الرقمية، مضيفا بحيرة مفزعة إلى أنّ هذا العدوّ لسياسات الغرب كما يزعم، يتحالف ويستخدم أسلحة الغرب نفسه، بل ويتفوق في استخدامها، إذ له غير القليل من القدرة على أن ينجز تحالفا غير معهود بين السينما والموت. ولكن أيّ موت هذه؟ هل هي نهاية ضحايا الذين تمّ تصويرهم أثناء عمليات شطب رؤوسهم، ونحر أعناقهم، أم هي نهاية الفنّ وانعطافه إلى أفق جنونيّ جديد، أم هي نهاية اللـه الاسلاميّ الذي أيقن حتمية حتفه فقرّر الإقامة في غسيل فوضى العالم؟
يبدو لنا جليّا، أنّ عمليّة الموت التي تنهش أجساد ضحايا الإرهاب ليست بالأمر الجديد، فالبشريّة منذ عهودها الأزلية تخضع إلى مسألة الشطب والقتل، بما يعني أن الموت الحقيقيّة التي نراها الآن تتحرّك وفق زاويتين، الأولى تحيلنا إلى استنبات ورم جدّ مرعب يحتكر السينما ويوجّهها إلى مدار آخر غير التي كانت عليه، أمّا الثانية فتحيلنا إلى أنّ هذا الورم الالهيّ بات يحقّق انتحاره الخاصّ، بما دفعه إلى حالة من التشظّي والإقامة في الحقل الفنّي، بعد الاطاحة به من عرش الميتافيزيقا إلى كوكب الأرض، وبعد حلوله في أجساد بشريّة مدرّبة على الفتك والقتل.
نعم، إنّ هذا اللـه لم نعد نعرفه، فقد صار غريبا عن جسده المصطلحيّ، فلا نراه إلا في سجّلات الإرهاب، وأنهار الدمّ، والصورة السينمائيّة التي تطوف بكافّة أرجاء الكون، فهو وبعد تشغيله/ترويضه ليصبح مشنقة في يد حرّاسه، صار يلهث راكضا بين رفضه أن يجسّد في المسارح وقاعات السينما، وبين حضوره في فيديوهات القتلة، بما يعني أنّ غربته صارت مضاعفة، فلا الشرق يسمح له بالتجسيد أو أن يزجّ به في اللحم الآدميّ، ولا الغرب يمنع عنه الإقامة في تقنياته السينمائية وفتوحاته العلميّة والرّقمية.
لقد ذهبت عديد التجارب الابداعية إلى معالجة القضايا الإرهابية بتقويضها فنّيا، ولكنّها لم تستطع أن تصل حدّا جماليا ومهارة تقنيّة كالذي صنعته الأيادي الإرهابية في أفلامها الخاصّة، فللأولى جماليّة المقاومة التي اتخذت شكل المواجهة، أمّا الثانية فلها جمالية الموت التي اتخذت شكل حلول الاله في الأرض، وبينما تشهد الأولى حضورا جماهيريا قليلا لا يتعدّى قاعات العرض، تشهد الثانية اقبال الآلاف من المشاهدين الذي يتابعون عروض القتل والدم في الفرجات التلفزيونية ومواقع الانترنات، وهو ما يجعلنا نطلق صرخة فزع مروّع حول مصير الفنّ نفسه، إذ تنتصر ثقافة الموت جماليا وجماهيريا على ثقافة المواجهة والحياة.