المقدمة: تعد النظرية النقدية من أهم النظريات التي انتعشت في فترة (مابعد الحداثة) في ألمانيا، وإن كانت هذه النظرية قد تبلورت في فترة مبكرة، في ثلاثينيات القرن العشرين بمدرسة فرانكفورت، وتجسدت في عدة ميادين ومجالات معرفية، كالفلسفة، وعلم الاجتماع، والسياسة، والفن، والنقد الأدبي. بيد أن هذه المدرسة قد أخذت طابعا فكريا مغايرا منذ السبعينيات من القرن العشرين، وانضم إليها مثقفون آخرون أغنوها نظريا وتطبيقيا. ومن ثم، فقد تحولت النظرية عند مارتن جاي (M.Jay)"من (نادي ماركس) قبل هجرتها من فرانكفورت، إلى (نادي ماكس) بعد عودتها، وحيث هناك في المهجر، فقد الحرف(R) الذي تبدأ به كلمة الثورة (Revolution)"[1]. ويعني هذا انتقال مدرسة فرانكفورت من أفكار ثورية ماركسية إلى أفكار متطورة في عهد ماكس هوركايمر، حيث تم التركيز على الفلسفة بدل التركيز على التاريخ والاقتصاد كما كان في السابق. وبالتالي، فقد استهدفت النظرية النقدية تقويض الثقافة البورجوازية الرأسمالية الاستهلاكية. وعليه، فهدف النظرية النقدية هي تغيير المجتمع على جميع المستويات والأصعدة، وتحقيق التحرر البشري، والمؤالفة بين النظرية والممارسة، والجمع بين المعرفة والغاية، والتوفيق بين العقل النظري والعقل العملي، والمزاوجة بين الحقيقة والقيمة. علاوة على ذلك، فقد كانت النظرية النقدية بمثابة تجديد نقدي للنظريات الماركسية والراديكالية.
هذا، ويمكن التمييز بين فترتين في النظرية النقدية أو مدرسة فرانكفورت: فترة الريادة من الثلاثينيات إلى أواخر الستينيات، وهي فترة هوركايمر، وماركوز، وأدورنو، وفروم...، وفترة التجديد من بداية السبعينيات إلى سنوات الثمانين من القرن الماضي، وهي فترة يورجين هابرماس، وألفرد شميدت، وكلاوس أوفي، وألبرخت فيلمر... وقد احتفظت النظرية النقدية الجديدة لــ(مابعد الحداثة) باهتمامها الخاص بفلسفة العلوم الاجتماعية ونقد الإيدولوجيا .
1- مفهوم النظرية النقدية:
يقصد بالنظرية النقدية تلك النظرية التي كان ينطلق منها رواد مدرسة فرانكفورت في انتقادهم للواقعية الساذجة المباشرة، فالنظرية النقدية تهتم بنقد النظام الهيجلي، ونقد الاقتصاد السياسي، والنقد الجدلي. وتهدف هذه النظرية إلى إقامة نظرية اجتماعية متعددة المصادر والمنطلقات، كالاستعانة بالماركسية، والتحليل النفسي، والاعتماد على البحوث التجريبية. وبتعبير آخر، فالنظرية النقدية هي تجاوز للنظرية الكانطية، والمثالية الهيجيلية، والجدلية الماركسية. وبالتالي، فهي نقض للواقع، ونقد للمجتمع بطريقة سلبية إيجابية. ومن ثم، فليس نقد متناقضات المجتمع فعلا سلبيا، بل هو فعل إيجابي في منظور مدرسة فرانكفورت. ويرتبط مفهوم(النظرية النقدية) بعنوان كتاب هوركايمر(النظرية التقليدية والنظرية النقدية) (1937م)، وقد جمع فيه صاحبه مجمل التصورات التي عرف بها أصحاب مدرسة فرانكفورت، سواء النظرية منها أوالتطبيقية، كما ضمنه مجمل المقترحات التي كانوا يؤمنون بها لإنقاذ الواقع وتصحيحه . ومن ثم، فالنظرية النقدية هي تجاوز للنظريات الوضعية التي كانت ترفض التأملية الانعكاسية منهجا في التعامل مع الموضوع المرصود . ومن جهة أخرى، فقد استهدفت النظرية النقدية تنوير الإنسان الملتزم تنويرا ذهنيا وفكريا، وتغييره تغييرا إيجابيا، بعد أن حررته من ضغوطه الذاتية،عن طريق نقد المجتمع بتعريته إيديولوجيا[2].
وعليه، فالنظرية النقدية عند هوركايمر هي" ما تعبر عنه الاتجاهات الوضعية في نظريتها للنشاط البشري على أنه شيء أو موضوع خارجي داخل إطار من الحتمية الميكانيكية، على حين ترفض النظرية النقدية النظر إلى الوقائع الاجتماعية على أنها أشياء، ومن ثم ترفض طابع الحياد الذي تتسم به الوضعية، وتحاول في المقابل أن تطرح فكرا لايفصل بين النظرية والممارسة.
وقد فهم هوركايمر، ومعه فلاسفة فرانكفورت، الماركسية على أنها العلم النقدي للمجتمع. وبالتالي، فمهمة الفلسفة هي متابعة العملية النقدية، والتحري عن أشكال الاغتراب الجديدة. وقد أخذت مساهمته الخاصة شكل تحليل نقدي للعقل. فلئن يكن العقل قد صاغ في الماضي، مثل: العدالة، والحرية، والديمقراطية، فإن هذه المثل حل بها الفساد في ظل هيمنة البورجوازية التي أدت إلى تحلل حقيقي للعقل. ومن هنا، بدت الحاجة إلى نظرية نقدية جدلية تستطيع أن تتعقل اغتراب العقل بالذات."[3]
ونفهم من هذا أن النظرية النقدية ظهرت رد فعل على المثالية الألمانية، وكذلك رد فعل على الوضعية التجريبية التي كانت تدرس الظواهر الاجتماعية دراسة علمية موضوعية، من خلال ربط المسببات بالأسباب، في إطار تصور آلي ميكانيكي. ومن هنا، فالنظرية النقدية هي قراءة نقدية للعقل الجدلي ليس بالطريقة الكانطية، بل في ضوء رؤية ماركسية واقعية جدلية. وبالتالي، تعمل النظرية النقدية على نقد الواقع الاجتماعي، وتقويض تصوراته الإيديولوجية الليبرالية، والبحث عن تجليات الاغتراب الذاتي والمكاني، سواء في النصوص والخطابات أو في واقع الممارسة. وتهدف النظرية النقدية - حسب هوركايمر- إلى تحقيق مهام ثلاث:" أولها، الكشف في كل نظرية عن المصلحة الاجتماعية التي ولدتها وحددتها، وهنا يتوجه هوركايمر، كما فعل ماركس، إلى تحقيق الانفصال عن المثالية الألمانية، ومناقشتها في ضوء المصالح الاجتماعية التي أنتجتها.والمهمة الثانية للنظرية النقدية عنده، هي أن تظل هذه النظرية على وعي بكونها لاتمثل مذهبا خارج التطور الاجتماعي التاريخي. فهي لاتطرح نفسها باعتبارها مبدأ إطلاقيا، أو أنها تعكس أي مبدإ إطلاقي خارج صيرورة الواقع. والمقياس الوحيد الذي تلتزم به هو كونها تعكس مصلحة الأغلبية الاجتماعية في تنظيم علاقات الإنتاج بما يحقق تطابق العقل مع الواقع، وتطابق مصلحة الفرد مع مصلحة الجماعة. أما المهمة الثالثة، فهي التصدي لمختلف الأشكال اللامعقولة التي حاولت المصالح الطبقية السائدة أن تلبسها للعقل، و تؤسس اليقين بها على اعتبار أنها هي التي تجسد العقل. في حين، إن هذه الأشكال من العقلانية المزيفة ليست سوى أدوات لاستخدام العقل في تدعيم النظم الاجتماعية القائمة، وهو ما دعاه هوركايمر بالعقل الأداتي."[4]
وعليه، فالنظرية النقدية هي التي تحقق المصلحة الاجتماعية، وتراعي التطور الاجتماعي التاريخي في إطار المادية التاريخية، وهذا يقرب النظرية النقدية من المادية الثقافية، كما تهدف هذه النظرية إلى خدمة مصالح الأغلبية، والتصدي للأشكال الشكلية والتيارات اللامعقولة التي تخدم الأنظمة الحاكمة.
وعلاوة على ذلك، فالنظرية النقدية هي قراءة ماركسية لواقع المجتمعي. وفي هذا الصدد، يقول توم بوتمور(T.Bottomore) في كتابه (مدرسة فرانكفورت):"تؤكد النظرية النقدية على انتسابها إلى الماركسية، دون أن تضيع الاختلاف مع قراءاتها الكلاسكية، وبخاصة تلك التفسيرات والأطروحات التي قدمها رواد ومنظرو الأممية الثانية والثالثة، وعلى رفضها الاختيار بين التماثل المتناقض مع الفلسفة والعلم، بادعاء أن ماقدمته هو شكل جديد للموضوعية الاجتماعية التاريخية، وهو ما جعلها في تعارض مع الميتافيزيقا والوضعية."[5]
وتأسيسا على ماسبق، فالنظرية النقدية نظرية تتجاوز الوضعية، وترفض منطلقات المثالية الألمانية، ومن ثم، فهي نظرية اجتماعية ماركسية، تولي أهمية كبيرة للذات في تفاعلها مع الموضوع، كما ترتكز على المادية التاريخية، وتعتني بالقيم والأخلاق، وتؤمن بتفاعل الذات مع المجتمع على أن الذوات البشرية مستقلة وغير خاضعة لحتميات أوجبريات موضوعية. ويعني هذا أن الإنسان له دور كبير في صنع التاريخ، وتغيير مجتمعه. ومن ثم، فالنظرية النقدية في الحقيقة هي رؤية نقدية إزاء المجتمع الرأسمالي الاستهلاكي، في قمة تطبيقاته العملية واليومية.
2- سيـــاق النظرية النقدية
من المعلوم أن النظرية النقدية، في مجال علم الاجتماع، قد ارتبطت بمعهد البحوث الاجتماعية أو بمدرسة فرانكفورت الألمانية التي يمثلها كل من: تيودور أدورنو (Theodor.Adorno)، وماكس هوركايمر(M.Horkheimer)، وهربرت ماركوز(H.Marcuse)، ويورغن هابرماس (J.Habermas)، ووالتر بنيامين(W.Benjamin)، وفردريك لوبوك (F.Pollock)، وإيريك فروم (E.Fromm)، ولوفينتال(L.Lowenthal)، ووألفريد شميت (Alfred shmidt)، وكلاوس أوفي (C.Offe)، وأولبرخت فيلمر(A.Wellmer)، وفرانز نيومان (F.Neuwmann)... وقد ظهرت هذه المدرسة في ألمانيا، في بداية الثلاثينيات من القرن العشرين،وقد انتقل المعهد إلى نيويورك إبان المرحلة النازية، ثم استقر بفرانكفورت مرة أخرى في عام 1950م. وقد تأثر تحليل مفكري هذه المدرسة ونقدهم للثقافة الحديثة والمجتمع بما تعرضوا له من مضايقات وتعسفات وضغوطات في عهد الفاشية.
هذا، وقد جاءت النظرية النقدية رد فعل على الوضعية (Positivism) التي كانت تعنى مع أوجست كونت بدراسة الظواهر الاجتماعية دراسة علمية موضوعية تجريبية، باستخدام الملاحظة والتكرار والتجربة، وربط الأسباب بمسبباتها، بغية فهم الظواهر العلمية فهما علميا دقيقا. وكانت الوضعية تهتم أيضا بوصف الظواهر دون تفسيرها، لأن التفسير يرتبط في منظور الوضعية بالـتأملات الفلسفية والميتافيزيقية. كما استبعدت الوضعية البعد الإنساني والتأملي والأخلاقي في عملية البحث. وقد وجهت مدرسة فرانكفورت إلى هذه النظرية الوضعية انتقادات قاسية. وفي هذا الصدد، يقول توم بوتومور في كتابه( مدرسة فرانكفورت):"اتخذ أصحاب مدرسة فرانكفورت موقفا مناهضا لها، فانتقدها أدورنو لعجزها عن اكتشاف المصلحة الذاتية التي قد تسهم في تحقيق تقدم موضوعي، بسبب القصور الكامن في أسسها المنهجية، وفشلها في إقامة صلة قوية بين المعرفة من ناحية، والعمليات الاجتماعية الحقيقية من ناحية أخرى.لذلك، انتقدها هابرماس بسبب طبيعتها المحافظة، وقصورها عن فهم العلاقة الخاصة بعلم الاجتماع والتاريخ، انطلاقا من أن علم الاجتماع الوضعي لايأخذ في اعتباره دور التحولات التاريخية في تشكيل المجتمعات.
وبشكل عام، هاجم مفكرو مدرسة فرانكفورت سعي الوضعية إلى تحقيق المعرفة العلمية، وتكميم الحقائق، بما يؤدي إلى ضياع المعنى الجوهري للظواهر الاجتماعية. وأنه ارتباطا بذلك، فقد أدى تمثل الوضعية لنموذج العلم الطبيعي في علم الاجتماع إلى فصل المعرفة عن بعدها الأخلاقي، وهو ما يعني استبعاد الموقف الأخلاقي للباحث، عن طريق الادعاء بأن علم الاجتماع هو علم متحرر من القيمة، وهو ما يعني أيضا أن هذا العلم يمكن أن يكون أداتيا بالنسبة للقوى الاجتماعية المتسلطة، أو هو وسيلة للتحكم والهيمنة كما حدث في الرأسمالية المتقدمة.