ألا تجد الراحة في بيتك،
فهذه من الأخلاقيات المطلوبة
تيودور أدورنو
لقيت النظرية النقدية وأقطابها من أمثال هربرت ماركوزه، ايريك فروم وهوركهايمر وأدورنو رواجاً كبيراً في الثلاثينات والأربعينات لم تصل أصداؤه إلى العالم العربي حتى نهاية الستينات والسبعينات حين تُرجمت أغلب أعمال ماركوزه إلى اللغة العربية من اللغات الفرنسية والانكليزية، “العقل والثورة”، “فلسفة النفي”، “البعد الجمالي”، وكتابه الأشهر بالطبع “الانسان ذو البعد الواحد” وغيرها من الكتب. كذلك كان الحال مع زميله إيرك فروم، المحلل النفسي الماركسي المعروف، في حين بقي تيودور أدورنو شبه مجهول ولم تترجم أي من كتبه على حد علمي، ولم يجري التعريف به في العالم العربي إلا مع إدوارد سعيد الذي لا يني يذكره في أغلب كتبه ومقالاته وفيها دائماً أسطر قليلة عنه وعن فيكو وكونراد .... والأمر سيكون مفهوماً لجهة أن الرياح الإيديولوجية الماركسية والقومية وتصاعد الحركات المعادية للاستعمار والرأسمالية وجدت في كتابات ماركوزه وفروم سنداً قوياً لها في حين كانت تشاؤمية أدورنو وصعوبته الفكرية مصدر إقصاء وإبعاد عن الزخم الإيديولوجي السائد في العالم العربي في تلك الفترة.
في فترة العشرينات حين تأسس معهد البحوث الاجتماعية في فرانكفورت كانت الاشتراكية قد أخفقت في ألمانيا وفي العقدين التاليين، الثلاثينات والأربعينات، تأكد أن الطبقة العاملة الغربية بدت عازفة عن التغيير في مجتمعاتها الرأسمالية وتتجه صوب اليمين وطبعاً تنامت الحركة النازية وانفجرت ومن ثم انطفأت. وفي الاتحاد السوفياتي سيطرت الدولة الشمولية على جميع مناحي الحياة. أما في الغرب فقد اتجهت الدولة إلى تعزيز توجهها كدولة رأسمالية احتكارية تسيطر سيطرة شبه مطلقة على المجتمع حيث صار دورها تدخلياً حاسماً لجهة تنظيم شؤون البلاد على عكس الدور المناط بها في القرن التاسع عشر كونها تقف على الحياد في سوق التنافس الإقتصادي. في هذه الأجواء والتحولات انتقلت النظرية النقدية من جو التفاؤل بمستقبل إنساني واعد على خلفية فكرية هيغلية ماركسية إلى جو أكثر تشاؤماً وقتامة من إمكانية التغيير في المجتمعات الرأسمالية الغربية.
عدَّ أقطاب النظرية النقدية أن التشخيص الماركسي بخصوص احتوائها على بذور دمارها نتيجة التعارض بين قوى الانتاج وعلاقات الانتاج، لم يعد صالحاً فالتطورات الحاصلة أثبتت أن الرأسمالية قادرة على التكيف مع الواقع بما يضمن ديمومتها واستمرارها لأمد طويل. وبالتالي لم يعد الصراع الطبقي قائماً بين البورجوازية والبروليتاريا لأن كلا الطبقتين سُخِّرتا خدمة للنظام الرأسمالي نفسه، وبات همُّ الجماعات والأفراد فيه هو التسابق على الاندماج في منظومته بهدف تحقيق الازدهار والربح، وهو ما عنى بشكل آخر الاستقالة من الوظيفة الصراعية التي أُنيطت بالطبقات حسب التوصيف الماركسي.
هذا المجتمع “المُدار كلياً” بحسب تعبير أدورنو جعل من “العقل الأداتي” معبوده الأوحد حين أفرغ مفهوم العقل من موضوعاته الكبرى، الحق، الخير، الجمال، وقصره على الجانب الحياتي، النفعي كوسيلة لتحقيق غايات محددة محسوبة بدقة، وعلى ذلك تجري المفاضلة بين فوائد ومكاسب نفعية وتقنية بمعزل عن العامل الإنساني الذي هو لب الموضوع وغايته. وهو ما سيقود بكليته إلى المساهمة الطولى في عملية إخضاع وتدجين الفرد كونه سيعي عاجلاً أم آجلاً أن “التعقل” يعني العمل والمثابرة وكذلك الطاعة والخضوع داخل النظام الاجتماعي وما يبدو في صورة سعي فردي لتحرر اقتصادي هو في حقيقته عملية تدجين مبطنة تستهدف مجتمعاً بأكمله. وقد كتب هوركهايمر “وحين يلجأ دكتاتوريو هذه الأيام إلى العقل، فإنهم يعنون بذلك أنهم يملكون أكبر عدد من الزنازين. فهم من العقلانية بما يكفي لبنائها؛ وعلى الآخرين أن يكونوا من العقلانية بما يكفي للخضوع لهم”.
جمعت النظرية النقدية بين ماركس وفرويد وهو أمر كان في حينها ثورياً، اللقاء بين التحليل النفسي والمادية التاريخية، وإريك فروم هو من تولى ذلك في البداية وإن كان تراجع عن بعض نتائجه لاحقاً. وأوجه اللقاء عديدة، ولكن الثمار المرجوة تمثلت في رؤية أن الناس ليسوا مجرد عبيد للحاجة الاقتصادية يمكن قراءة حياتهم عبر أرقام وحاجات اقتصادية، بل هناك هوية نفسية عميقة تتلون بالمشاعر والأحاسيس والعواطف، تتحفز وتندفع بما هو أكثر من العامل المادي، فيمكن قراءة مفاتيح الشخصية واستثمارها في سوق الحياة الرأسمالية، من خلال العائلة أو الجماعة. ورصد التحليل نمو الشخصية النرجسية التي تحولت من حالة غير سوية في الشخصية الإنسانية الراشدة وفق التحليل النفسي إلى حالة سوية، بل مثالية، في المجتمع الرأسمالي “فإن النرجسي يتعهد بالرعاية موقفاً من الأشياء هزيلاً، فلا يلتمس سوى أن يكون جزءاً مما يمكن أن يسلط عليه الأضواء ويجعله مثالاً لما هو شعبي وقوي. والانجذاب غير النقدي إلى الأشياء التي تبدو قوية هو ما يرى أدورنو أنه يشكل أساس الشعبية التي تتمتع بها الفاشية”. ويصبح التركيز منصباً على المظاهر والسطوح وحال النرجسي يقول “كل ما هو سطحي ليس غريباً عني”.
على الصعيد الثقافي كان أدورنو الأشد نقداً وتشاؤماً من ناحية المصير المأساوي الذي أصاب الثقافة جراء انتشار النمط الاقتصادي الاستهلاكي وتسيَّده إذ باتت المنتجات الثقافية سلعة موجودة في التداول مثلها مثل أي سلعة أخرى ويعبر عن ذلك بدقة شديدة من أنها “لم تعد سلعاً أيضاً، بل سلع تماماً”. وبرز معه إلى الوجود مصطلح “صناعة الثقافة” الذي يختصر تماماً الطابع السلعي للثقافة في السوق الرأسمالي. ومن أهم سماته بَذْرُ قيم التشابه والتماثل بين الأفراد وفي ذات الوقت خلق وهم الفردانية الزائف، وتصبح استجابة المتلقي للمنتج الثقافي محصورة في إطار توسل ما هو شائع ومألوف مبتعداً بأقصى ما يستطيع عن كل ما يميز الفن “المستقل” من ثورية ومغايرة للقيم السائدة.
يبدو التعارض بين النظرية النقدية وفكر ما بعد الحداثة جلياً وجوهره قائم حول فكرة الذات، إذ يستتبع الاعتراف بها الاعتراف بمفاهيم مثل “الاغتراب” و“الفتيشية السلعية” ذات الرائحة الماركسية حيث تكمن فيها تلك الذات المستقبلية غير المغتربة التي تطمح إلى التخلص من الرأسمالية كي تحل محلها. وكلا الطرفين يعي حجم استهداف الذات في المجتمع الرأسمالي، فنجد أن أدورنو وماركوزه يؤكدان على أهمية الذات واستشراف آفاقها المستقبلية وقدرتها على تجاوز محنتها الحالية مع التدمير المنهجي الذي تتعرض له في بحر الحياة الاستهلاكية الجارف، بينما تعلن ما بعد الحداثة (بورديارد نموذجاً) موت الذات باختزالها إلى “أثر للغة والخطاب”، وهو أمر ناجم عن المبالغة في الدور المعطى للغة في تشكيل الواقع، و“ليس لها أي طبيعة داخلية أو جوهرية مُحْبَطة تحاول الخروج من تحت رحى الرأسمالية” وذلك في مجتمع تسوده وتتحكم به الصورة التي لم تعد مشهدا للفرجة من قلب الواقع وتعبيراً عنه بل غدت هي الواقع نفسه، ليغُلَق الباب تماماً أمام أي رأي نقدي تجاه الوضع القائم، الذي هو لب عمل وتَطلُّع النظرية النقدية، فالوعد الرأسمالي بحياة فردية زاخرة بالسعادة والازدهار بدا أنه كذبة كبرى، لم يتم الوفاء به ولم يتحقق سوى القليل منه.
ورأت هذه النظرية في العمل على تحدي الوضع القائم أمراً ضرورياً لفك الارتباط بين سطوة النظام الرأسمالي ودمار الأفراد فيه. ولذلك كان بارزاً الجانب الطوباوي في النظرية النقدية، فالأشياء والواقع يمكن أن تكون أفضل في المستقبل، وتشاؤم العقل هو في ذات الوقت تفاؤل الإرادة. من هنا تتجدد الحاجة إلى النظرية النقدية ومن هنا راهنيتها التي تدحض الواقعية المفرطة لواقع صار خلوه من المعنى سمة ملازمة لفقر الخيال وتعبيراً سمجاً عن التفارق المزمن بين المعنى واللامعنى، والحال، بحسب ميرلو بونتي أن “الانسان محكوم بالمعنى”.
-------
النظرية النقدية (مدرسة فرنكفورت)