كان ذلك قبل عدّة سنوات، خلال حصّة من دروس الفلسفة السياسة التي كنت ألقيها في جامعة السوربون وكان الدرس يتعلق بشرح نصّ للقدّيس أوغسطين. سوف لن أنسى المفاجأة المرعبة التي حلّت بطلبتي عند اكتشافهم بأن القديس أوغسطين لم يكن ديمقراطيا ولا علمانيا ولا إنسانيا ... ومع ذلك، فهو أحد أعظم العباقرة في الغرب، فكره لا يزال، لستة عشر قرن خلى، ينير لنا الطريق. بيْد أننا لم نعد ننظر إليه فقط كفكر يحمل الحقيقة الأبدية المقدسة. (لازلنا) نقرأ دائما كتاباته، ونحن مُحقّون في ذلك، لكن بصورة نقديّة وحرّة: فهو يساعدنا عن التفكير بطريقة أفضل خصوصا بعد أن توقّفنا عن اعتبار فكره فكرا مطلقا يجب أن يُفرض على الجميع.
كثيرا ما فكّرت في ذلك الدرس، وبالخصوص في ردّ فعل طلبتي، خلال المناقشات الأخيرة حول الإسلام. لقد استغرق الأمر، بالنسبة للكنيسة الكاثوليكية قرابة العشرين قرنا من الزمان كي تقبل في نهاية المطاف بحريّة الضمير وبالديمقراطية والعلمانية. فلماذا يتعذّر على المسلمين سلوك نفس الطريق؟ هل لأن القرآن في عيونهم، هو كلام الله غير المخلوق ؟ وماذا بعدئذٍ ؟ هذا لا يمنع أن نأخذ بعين الاعتبار السياق الاجتماعي والتاريخي والروحي الذي جُمع فيه هذا الكلام أوّلا ثم نُقل، وكذلك تعدّد التأويلات التي لا يفتأ يثيرها. الكثير من المسلمين يحاولون التصدّي اليوم لأصولية ضيّقة ورجعية تريد إسكاتهم، وهو أمر لا يخلو من شجاعة. هؤلاء هم من يجب دعمهم بالأحرى، لا خطب أنصار “صراع الحضارات” التي غالبا ما تكون ضيقة الأفق ورجعية!
هل يعني هذا أن جميع الأديان على قدم المساواة؟ لا أحد مُجبَر على التسليم بذلك، وأهل الاعتقاد أقل الآخرين إجبارا. لقد أُعيب على بونوا أو بنديكتوس السادس عشر(البابا السابق) خلال خطبته في رستيبون أنه أعطى للمسيحية درجة أعلى من الإسلام. ولكن هل كان له أن يكون بابا على أساسِ غير ذلك؟ ومن هو المسلم الذي لا يضع الإسلام في مرتبة أعلى من كل الأديان الأخرى، إذا كان مؤمنا بصحّة تنزيل القرآن؟ وبالمثل أيّ لادينيّ لا يعطي لحرية الفكر الأفضلية على عقائد أديانٍ مُفترَضة الوحي ؟ علينا إذن توخّي الحذر تجاه ما قد يبدو لنا موقفا سياسيا صائبا! فإن تساوى كل شيء، لم يعد لأيّ شيء قيمة، ولم يعد ذاك احتراما بل عدمية. أن يكون كل البشر متساوون في الحقوق والكرامة فهذا لا ينجرّ عنه مطلقا أن تتساوى عقائدهم في الواقع وفي القيمة، بل قد ينتج عن ذلك إقصاء لتلك المساواة: فإذا كان كل الناس سواسية في الحقوق والكرامة فإن أي معتقد يقرّ بتلك المساواة يكون، على الأقل من وجهة النظر هذه، أرقى من معتقد ينكرها. إذا كان هناك دينٌ هو دين الحق، كما يعتقد ذلك أنصاره بصورة شائعة، فمن المشروع بالنسبة لمريديه أن يعتبروه فوق الأديان الأخرى. لكن أيجوز (لهم) بقدر ما ازدراء كل من يفكّر بطريقة مختلفة؟ بطبيعة الحال كلاّ! فأن لا تتساوى جميع المعتقدات، لا يمنع أن يكون جميع البشر، مهما كان دينهم أو لادينهم، متساوون في الحقوق والكرامة!
يحقّ لنا، باختصار، أن ننقد الإسلام، كما يحقّ لنا أن ننقد أي معتقد أو إيديولوجيا. و قد نكون جانبنا الصواب – نحن الديمقراطيين بما فينا المسلمين – لو امتنعنا عن محاربة الإسلام المتطرف الذي هو يحاربنا. إن جميع الآراء لا تتساوى، غير أن أي رأي يدعو للكراهية والاحتقار والعنف لا يمكن أن يكون مقبولا.
فأن تكون مؤمنا بهذا الإله أو ذاك، هذا شأنك عزيزي القارئ، لا شأني. ولكن أن نكون أحرارا في أن نعتقد أم لا، وأن تضمن الدولة تلك الحرية، فهذه معركة كل الديمقراطيين. معركة اسمها العلمانية.
المصدر:نشر المقال بمجلة “عالم الأديان” (Le Monde des Religions) عدد 64 بتاريخ مارس/أفريل 2014.
الجمعة أغسطس 07, 2015 7:15 pm من طرف هرمنا