نقدّم في هذا المبحث بعض الهوامش حول مسألة اسم النبيّ التي تعرّض لها هشام جعيّط أثناء دراسته للسيرة النبويّة.
يقول هشام جعيّط في صفحة (149) : (فالبلاذري في أنساب الأشراف يقول بخصوص عبد الله: “ويكنّى أبا قثم ويقال أبا محمّد” فهو يرجّح الكنية الأولى. ويذكر في مقام آخر أنّ من أبناء عبد المطّلب من اسمه قُثم توفّي في الصغر وأنّ أباه كان يحبّه كثيرا. فمن المعقول أن نستنتج أنّ النبيّ سمّي على اسم عمّه المفقود وهذا من عادات قريش. ولمّا تلقّب النبيّ بمحمّد أو بالأحرى لقّبه الوحي بذلك، سمّى العبّاس ابنا له بقثم لأنّ لقب محمّد نزع الاسم الأصلي عن الرسول. هذا أيضا استنتاج معقول، وعندما يترجم البلاذري لقثم بن العبّاس يصرّح بأنّه كان يشبّه برسول الله، وهذا خبر يرد في مصادر أخرى. وهكذا يكون اسم النبيّ أصلا هو قثم، وقد تصحّ الرواية أو لا تصحّ، وقد تكون ملفّقة تقرّبا من بني العبّاس وأوردت بخجل عن طريق كنية عبد الله، لكن هذا نصّ والمؤرّخ يتعامل مع النصوص. فلا يمكن له أن يتماشى مع ما قاله بلاشير من أنّ محمّد قد يكون اسمه الأصلي عبد العزّى أو شيئا من هذا القبيل، من دون أيّ سند وخلافا للأعراف القرشيّة، حيث إنّ عمّه أبا لهب اسمه عبد العزّى وكان حيّا يرزق) انتهى.
وافتراض أنّ اسم النبيّ “قثم” كان قد طرحه من قبل إسماعيل أدهم مشيرا إلى أنّ نسب الرسول مختلق وأنّ اسمه “قثم” أو “قثامة”، ويضيف أنّه بيّن بالدلائل أنّ المطّلب لم يكن شخصا تاريخيّا وأنّ عبد المطّلب لم يكن جدّا حقيقيّا للرسول(2).
وقبل أن نتعرّض لاسم النبيّ نودّ التوقّف بسرعة عند اسماعيل أدهم حول فرضيّة اختلاق نسب الرسول حيث أنّ هذه الفرضيّة تواجه مشكلة تاريخيّة وهي وجود الأرضيّة المناسبة، قديما، لإظهار هذا التلاعب في النسب، فلو افترضنا أنّ العبّاسيّين نسبوا النبيّ إليهم بعد زوال دولة الأمويّين الذين لم يصلنا شيء من كتاباتهم في القرن الأوّل الهجري، وذلك للرفع من شأن دولتهم وإعطائها مرجعيّة دينيّة عبر النسب، فإنّ هذه الفرضيّة ضعيفة لأنّ دولة الأمويّين قامت في الأندلس وكان يمكنهم تكذيب هذا التلاعب، لكنّهم لم يفعلوا، رغم عداوتهم الشديدة للأمويّين، ونحن نملك تاريخا بيزنطيّا عربيّا مكتوبا باللاتينيّة في إسبانيا سنة 741م/120هـ يذكر فيه أنّ النبيّ من عائلة نبيلة، وهذا قبل سيرة ابن إسحاق في الشرق، وجاء فيه: (اجتمعت طوائف عديدة من العرب[Sarracenorum] وأخذوا يغزون مقاطعات سوريا والعربيّة والعراق، وكان اسم قائدهم والحاكم فيهم محمّد [Mahmet] الذي ولد في أنبل عائلة عندهم، وكان رجلا حذرا ومستشرفا عددا لا بأس به من الأحداث المستقبليّة)(3) فالكاتب يشير هنا إلى أنّ محمّدا ولد في أنبل عائلة عندهم، وهذه الأحداث المستقبليّة التي يتحدّث عنها النصّ يبدو أنّها أحاديث فتح الروم وفارس وغيرهما، حملها الفاتحون الأوائل معهم إلى الأندلس وطرقت سمع كاتب هذا التاريخ، وقد يذهب في الظنّ أنّها روايات اختلقها أهل الحديث أي أنّها نُسبت إلى النبيّ بعد أن وقعت بالفعل، لكن نرى أنّ جوهرها صحيح بغضّ النظر عن التفاصيل، ونرى أنّ النبيّ وعدهم فعلا بفتح تلك البلدان وحكم العالم، ككلّ قائد يشجّع جنوده ويعدهم، حيث جاء في نصّ لـ “سوفرونيس” Sophronios باليونانيّة حوالي سنة 635م/13هـ، يتحدّث عن محاصرة العرب للقدس: (وكانو يفخرون بأنّهم سيحكمون العالم كلّه، مقلّدين في ذلك زعيمهم بلا أيّ تحفّظ أو تردّد)(4). وتاريخ هذا النصّ يعود إلى ثلاث سنوات فقط بعد وفاة النبيّ المفترضة، ويشير إلى أنّهم يتبعون خطى قائدهم وأنّهم سيحكمون العالم.
أمّا عن كون اسم النبيّ “قثم”(5) وذلك باعتماد ما ذكره البلاذري، فهو طرح ناقص لا يتناول جميع الأخبار التي من شأنها أن تنير الضوء لفرضيّات أكثر متانة، وصحيح أنّهم كانوا يتسمّون بأكثر من اسم، فمن أجداد النبيّ، حسب السيرة، مثلا: قصيّ واسمه زيد، ثمّ عبد مناف واسمه المغيرة، ثمّ هاشم واسمه عمرو ثمّ عبد المطّلب واسمه شيبة ثمّ عبد الله ولا نعرف اسمه ثمّ النبيّ، لكنّ اعتماد نصّ البلاذري وحده لا يمكن أن يكون نتيجة يتوصّل إليها الباحث، بل هو خبر سنجمعه مع الأخبار الأخرى لتتوضّح لنا الصورة أكثر، وسنرقّمها بالترتيب.
1-جاء في سيرة ابن هشام أنّ آمنة تروي قائلة: (ثمّ حملتُ به [أي بمحمّد] فوالله ما رأيت من حمل قطّ كان أخفّ عليّ ولا أيسر منه)(6) فهي تذكر أنّ حملها بمحمّد هو أخفّ حمل، ونقرأ شاهدا آخر لهذه الرواية بأكثر وضوح عند ابن سعد في الطبقات: (قالت أم النبي، صلى الله عليه وسلم، قد حملتُ الأولاد فما حملتُ سخلة أثقل منه)(7) فكأنّ آمنة قد حملت بولد أو أولاد قبل النبيّ، ويعلّق الصالحي في سبيل الهدى والرشاد قائلا: (فلا يمتنع أن تكون آمنة أسقطت من عبد الله سقطا فأشارت بذلك إليه فتجتمع الروايات إن قبلنا كلام الواقدي. بل جازف سبط ابن الجوزي رحمه الله كعادته فقال: أجمع علماء النقل على أنّ آمنة لم تحمل بغير رسول الله (ص) […] كذا قال، ولا يخفى وهي كلامه)(8) فالصالحي هنا، يقترح أن تكون آمنة قد حملت، قبل محمّد، ثمّ أسقطت حملها، ويرى أنّ القول بأنّ آمنة لم تحمل بغير محمّد هو كلام واه وفيه مجازفة.
2- ذكر ابن سعد في الطبقات أنّ حمزة كان أكبر من النبيّ بأربع سنوات(9)
3- ذكر ابن عبد البرّ في الاستيعاب أنّ عبد المطّلب تزوّج في اليوم ذاته مع ابنه عبد الله(10) من هالة بنت وهيب أخت آمنة وأنجب منها حمزة والمقوّم وحجل وصفيّة.
4-ذكر البلاذري في أنساب الأشراف أنّ عبد الله كان يكنّى أبا قثم.
فإذا جمعنا هذه الأخبار وألّفنا بينها ولم نقتصر فقط على كلام البلاذري، لتوضّحت لنا الصورة تماما ويكون التحليل كالتالي: في اليوم نفسه تزوّج عبد المطّلب من هالة وتزوّج عبد الله من آمنة.
أنجب عبد المطّلب حمزة وأنجب عبد الله قثم وبه تكنّى ثمّ توفّي ابنه صغيرا.
بعد أربع سنوات من الزواج أنجبت محمّدا.(11) (ولذلك نفهم كيف يكون عمر حمزة أكبر من النبيّ بأربع سنوات رغم أنّ أباه وأبا النبيّ تزوّجا في اليوم نفسه)
ويكون عبد الله عاش مع آمنة أربع سنوات على أقلّ تقدير، ولم يمت إثر زواجه، وقد انتبه هشام جعيّط إلى هذه النقطة قائلا (ص147): (إذن أبوه مات وهو صغير السنّ من دون شكّ وليس قبل أن يولد) لكنّ أستاذنا، إذ انتبه إلى هذه النقطة فإنّه بالمقابل لم يربط بين مختلف الأخبار.
إذن فإنّ كنية “أبي قثم” تشير إلى “قثم” أخي محمّد، والذي توفّي صغيرا، ولا تشير إلى أنّ محمّدا نفسه كان اسمه قثم.
معنى اسم محمّد:
يذكر هشام جعيّط الآيات الأربع التي يوجد فيها اسم “محمّد” ثمّ الآية من سورة الصفّ التي فيها اسم “أحمد” ثمّ يعلّق عليها قائلا (ص 147-148) : (العلاقة مع المسيحيّة واضحة في الآية الأخيرة كما الصلة بإنجيل يوحنّا حيث يرد ذكر “الباراكليتس” Parakletos وهي كلمة غير واضحة ترجمت باللاتينية بعبارة Advocatus وبالفرنسية بكلمة تعني: المواسي بعدي consolateur، لكن لا ندري كيف كانت الترجمة السريانيّة، وهي على الأرجح القريبة من النصّ القرآني والتي اعتمدها ابن إسحاق) انتهى.
في الحقيقة، نحن ندري كيف كانت الترجمة السريانيّة، فقد أخبر عنها ابن إسحاق نفسه قائلا: (والمنحمنّا بالسريانيّة: محمّد…) وهو ما أشار إليه أستاذنا في الهامش رقم (194) كما أنّنا نملك الترجمة السريانيّة للعهد الجديد “البشيطا” وتمّت ترجمة παρακλητος إلى “فارقليطا” لكن في الترجمة السريانيّة الفلسطينيّة (القرن الرابع الميلادي) فقد وقع ترجمة الكلمة إلى “منحمنا” ومن الواضح أنّها هي الترجمة التي اعتمدها ابن إسحاق، ويمكن مراجعة بحثنا “محمّد الفارقليط، رسول الله” في موقع الأوان.(12) أمّا أنّها قريبة من النصّ القرآني فهذا كلام جانب الصواب، فكلمة “منحمنا” السريانيّة تعود إلى جذر “نحم” بينما “محمد” و“أحمد” تعودان إلى جذر “حمد” ولا توجد أيّة علاقة بين الكلمتين.
ويضيف هشام جعيّط في ص 148: (أمّا كون عبارة “محمّد” مأخوذة من السريانيّة، فهو ممّا لاشكّ فيه ولنا حجّة في المصادر التي وردت بخصوص الأمير الغسّاني، والحارث بن جبلّة الذي كان يتمتّع منذ 561م بلقبيْ البطريق والفيلاركس الرسميين. يقول نولدكه بهذا الصدد : “وكان يطلق عليهم”البطارقة" كما على سواهم من أهل الطبقات العليا لقب vir illustrus، وقد نقل السريان هذا اللقب إلى لغتهم بكلمة (محمدان) وأطلقوه على الأمراء الغسّانيّين، وتعني الأمجد، الأشهر، illoustrios باليونانيّة وباللاتينيّة على حدّ سواء) انتهى.
لا نعتقد أنّ المسألة بهذه البساطة حيث أنّ لقب ιλλουστριος هو لقب تشريفيّ “إداريّ” وليس لقبا دينيّا لذا يعقّب أستاذنا قائلا: (هذه الكلمة ترجمة لعبارة الباراكليتس كما وردت لدى ابن إسحاق، فهي عبارة تفخيم ورفعة اتّخذها النبيّ في المدينة بعد أن ارتفع مقامه لكنّه أكسبها معنى دينيّا وربطها بتراث المسيحيّة زيادة على معناها الدنيوي) وهذا التعقيب يزيد الأمور تعقيدا بدل حلّها، فلا يمكن أوّلا الأخذ بتفسير ابن إسحاق فهو تفسير خاطئ، و“منحمنا” التي ذكرها ابن إسحاق لا تعني محمدان، ومحمدان “التشريفيّة” لا تعني محمّدا، هذا إن صحّ أصلا أنّ ιλλουστριος= illoustrios تترجم في السريانية إلى “محمدان” حيث نعتقد أنّها تترجم إلى (ܡܫܒܚܐ = مشبحا) مثلما ورد في معجم Payne Smith، لكن وعلى كلّ حال فالمعنى متقارب ولفظة “محمّد” تعني أيضا “التمجيد” و“الحمد” ولا مشكلة في هذه النقطة لكن من غير الوارد الربط بين “منحمنا” الإنجيليّة بـ “محمدان” التشريفيّة لمعرفة سبب تسمّي النبيّ بلقب “محمّد”، كما أنّ هذا الطرح لا يأخذ بعين الاعتبار جميع المصادر الأخرى التي من الممكن أن توضّح لنا الرؤية عن معنى اسم “محمّد” وهو ما سنتناوله الآن.
ذكر أهل الأخبار أسماء من تسمّوا محمّدا قبل الإسلام، بلغ عند بعضهم خمسة عشر اسما، ونرى أنّها أسماء موضوعة حيث نلاحظ أنّها مفرّقة على القبائل فكلّ قبيلة تزعم أنّ أحد أجدادها تسمّى محمّدا، لكنّهم اتّفقوا في اسم أو اسمين وهما محمّد بن سفيان بن مجاشع ومحمّد بن أحيحة بن الجلاّح، أمّا الأوّل فقد كان أسقفا(13) وكان يقضي في سوق عكاظ وهو جدّ الشاعر الفرزدق، والثاني أخو عبد المطّلب لأمّه،(14) وبالنسبة لاسم النبيّ فنرجّح أنّ أهل الأخبار لم يعرفوا إلاّ اسم “محمّد” ولو كان عندهم خبر عن اسم “قثم” لذكروه، لكن منهم، في المقابل، من يعرف أنّه صفة ونعت لا إسما علما متداولا عند العرب في الجاهليّة، فمثلا يتحدّث ابن قيّم الجوزيّة عن أسماء النبيّ قائلا: (وكلّها نعوت ليست أعلاما محضة لمجرّد التعريف، بل أسماء مشتقّة من صفات قائمة به توجب المدح والكمال، فمنها محمّد، وهو أشهرها)(15) فلفظة “محمّد” هي لقب على الأرجح، لكن في أيّ إطار؟
نملك إشارة إلى اسم “محمّد” في نقش جنوبيّ سنة 523م أثناء محاصرة “نجران” من طرف ذي نواس، وهو نصّ طويل وجاء في ختامه: (wtf/tmmm/dhdyt/rbhd/bmhmd)
وترجمته: (كتب تمم من “حضت” ربّ اليهود بمحمّد) والمعنى: قام بكتابة هذا النصّ تميم (أو تمّام) الحضتي، ندعوك يا ربّ اليهود بمحمّد.(16) ولفظة “محمّد” هنا، حسب سياق النصّ، تعني “الممجّد”(17) أي (يا ربّ اليهود ندعوك بـ“اسمك” الممجّد) ومثلها مثل النقش (C543/2) “رب اليهود برحمنن” أي (ربّ اليهود باسمك الرحمن) وهذا هو رأي Beeston وإن كان يتساءل هل يمكن استعمال صيغة الدعاء هذه للإنسان، أي لشخص صفته “محمّد”؟
من الممكن أن تكون صيغة “محمّد” تعني شخصا بشريّا لا صفة إله، ويكون حرف “الباء” تقرّبا إلى الله بذلك الشخص أي: (ندعوك يا ربّ اليهود “ونتقرّب إليك” بمحمّد) لكن ينبغي التنبيه إلى أنّنا في سياق يهوديّ، فكاتب النصّ يهوديّ، ويجب أن نعود إلى التراث اليهوديّ لوضع الكلمة في سياقها الدينيّ.
جاء في سفر دانيال (9، 21-24) : (وبينما أنا أتكلّم وأصلّي وأعترف بذنبي وذنب شعبي اسرائيل، وأطرح تضرّعي أمام الرب إلهي […] إذ بالرجل جبرائيل الذي رأيته في الرؤيا، من قبل، وثب نحوي ولمسني عند وقت تقدمة المساء. وأوحى إليّ وتكلّم معي وقال يا دانيال: إنّي جئت الآن لأعلّمك الحكمة، لقد قضي الأمر حينما بدأت تضرّعاتك وأنا جئت لأخبرك لأنّك أنت محبوب (חמודות=حمودوت). فتأمّل قولي وافهم الرؤيا: لقد قضيت على شعبك ومدينتك المقدّسة سبعين أسبوعا، لإنهاء المعصية ومسح الذنوب وكفارة الاثم، وليؤتى بالعدل الأبديّ، ولختم الرؤيا والنبوّة (ולחתם חזון ונביא=ولختم حزون ونبيا) ولمسح قدّوس القدوسين (ולמשח קדש קדשים=ولمشح قدش قدشيم).
ثمّ في سفر دانيال (10، 11) : (وقال لي: يا دانيال أيّها الرجل المحبوب (איש חמדות= إيش حمدوت) افهم الكلام الذي أكلّمك به…)
وكذلك في (10، 19) : (وقال: لا تخف أيّها الرجل المحبوب (איש חמדות=إيش حمدوت) سلام لك..)
وقد اقترح Kurt Hruby أنّ איש=إيش العبريّة (وتعني: رجل) من الممكن أن تقابل “مـ” بالعربيّة، و“حمدوت” تقابل “حمّد”، فإيش-حمدوت يعني “محمّد” بالعربيّة(18) لكن هذا التفسير لا أراه مقنعا ولا أرى سببا تتحوّل فيه (איש=إيش=رجل) إلى “مـ” بالعربيّة بينما يمكن، وببساطة، اعتبار لقب “محمّد” إحالة على كلمة “حمدوت” חמדות نفسها التي أطلقها جبريل على دانيال وأخبره بختم النبوّة، وهو ما أعلنه النبيّ عن نفسه، وهذا قد يؤدّي إذا توسّعنا في تحليل رؤيا دنيال، إلى إمكانيّة النظر إلى الإسلام المبكّر على أنّه حركة “مسيانيّة” مثلما ذلك طرح مؤخّرا Gallez (19) ومن قبله Crone و Cook (20) بيد أنّ هذه الفرضيّة فيها مجازفة وتطرح الكثير من الأسئلة التي لا إجابة عليها مثلما نبّه Donner (21) بحقّ.
لكن إذا تجنّبنا الطرح “المسياني” فإنّه من الجائز جدّا أن تكون “محمّد” مشتقّة من “حمدوت” الدنياليّة، وتجدر الإشارة إلى أنّ كلمة (محمّد=מחמד) مذكورة حرفيّا في العهد القديم أكثر من مرّة لكنّها تأتي دائما في صيغة صفة بمعنى “مشتهى” مثل نشيد الإنشاد (5، 16) وغيره والتي لا علاقة لها باسم “محمّد” إلاّ في حالة رؤيا دنيال التي نجد فيها الكلمة بصيغة “لقب”، ويكون النبيّ قد أطلق على نفسه هذا اللقب “الدنيالي” الذي يعلن عن ختم النبوّة، أو أنّ عبد المطّلب أطلقه عليه منذ صغره وتشبيهه بأحد الأنبياء، أو أطلقه عليه اليهود، لا يهمّ!
فإطلاق لقب “محمّد” على النبيّ هو محاولة لتحقيق هذه النبوءة الدنياليّة، مع الأخذ بعين الاعتبار الفضاء المدراشي بطبيعة الحال، فقد كان بعض اليهود ينتظرون مجيء نبيّ فعلا يليه مجيء المسيح مثلما نقرأ في مخطوط قمران رقم (4Q174)(22) حيث أنّ هذا النبيّ سيكون مصدّقا لشريعة موسى ومبيّنا لها (قارن مع سورة المائدة، آية15: “يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبيّن لكم كثيرا ممّا كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين” وقارن كذلك سورة الفرقان، آية 33: “ولا يأتونك بمثل إلاّ جئناك بالحقّ وأحسن تفسيرا” حيث يعتقد أنّ تفسيره [للشريعة] هو الحقّ والأحسن) ويشير هذا المخطوط كذلك إلى أنّ هذا النبيّ المنتظر سيقوم ببناء معبد آدم (قارن مع الروايات المحاكة حول الكعبة، حيث نرجّح أنّه هو فعلا من بناها ولم تكن مبنيّة من قبل، ونجد صدى لهذه المسألة في السيرة حينما عاون قريش على بناء الكعبة) ونقرأ في مخطوط رقم (4Q175)(23) أنّه سيأتي نبيّ مثل موسى (في إشارة إلى سفر التثنية 18، 18-19) وكذلك كاهن كبير وكذلك ملك من نسل داود (أي المسيح) لكن يمكن أن يحمل هؤلاء الثلاثة لقب “المسيح”، فلا عجب إذن أن نجد نصوصا تخبرنا بأنّ اليهود تعاونت مع محمّد في بداية دعوته في يثرب، مثلما ذكر تيوفان Theophane (ت818م/196هـ) في تاريخه باليونانيّة قائلا: (عندما بدأ محمّد دعوته ضلّ اليهود معتقدين أنّه المسيح فاتّبعه بعض القادة منهم تاركين ديانة موسى الذي كان يعرف الله. وقد كانوا عشرة رافقوه طيلة حياته، لكنّهم حينما رأوه يحلّل لحم الجمل عرفوا أنّه ليس هو الرجل الذي كانوا ينتظرون…)(24) ولا عجب أن تكون القبلة في البداية متوجّهة إلى بيت المقدس كقبلة اليهود، ولا عجب أن يخبرنا “سبيوس” Sébéos بالأرمينيّة حوالي سنة 660م/38هـ أنّ العرب واليهود قد تعاونوا مع بعضهم في البداية(25) أو أن نعلم أنّ أبيّ بن كعب كاتب النبيّ وحافظ القرآن كان حبرا من أحبار اليهود(26) أو أنّ زيد بن ثابت، كاتب النبيّ وجامع القرآن، كان يهوديّا قبل إسلامه وله ذؤابتان(27) أو أن نقرأ “أبوكاليبس” معاصرا للإسلام المبكّر كتبه يهوديّ فيه أنّ نبيّا يخرج من بني إسماعيل [العرب] ويخلّص بني إسرائيل من مملكة أدوم الشريرة [الروم] ويمهّد لمجيء المسيح(28) أو أن نعلم بأنّ اليهود كانوا يغزون مع النبيّ فيسهم لهم(29) أو أن نلاحظ أنّ القرآن يمتح كثيرا من التراث التلمودي والمدراشي(30) فهو مصدّق لما بين يديه، أو أن يتمّ ذكر اسم موسى في القرآن أكثر من مائة وثلاثين مرّة، ولا غرابة أن يستقرّ المقام بالنبيّ أوّل هجرته بقباء وأغلبها من اليهود، فكثير من الدلائل تشير إلى الفضاء الدينيّ اليهوديّ بما فيه اسم النبيّ الذي هو امتداد لرؤيا دنيال، لكن حدثت القطيعة فيما بعد بينه وبين اليهود وليس منذ البداية.
قد يعترض البعض مؤكّدين على أنّ القطيعة مع اليهود حدثت منذ بداية دعوته، مشيرين إلى سيرة ابن هشام حيث يذكر بيعة العقبة قبل الهجرة بين النبيّ والأنصار فيقول النبيّ: (أبايعكم على أن تمنعوني ممّا تمنعون منه نساءكم وأبناءكم. فأخذ البراء بن معرور بيده، ثمّ قال: نعم، والذي بعثك بالحق نبيّا، لنمنعنّك ممّا نمنع منه أزرنا، فبايعنا يا رسول الله، فنحن والله أبناء الحروب، وأهل الحلقة، ورثناها كابرا عن كابر. فاعترض القول، والبراء يكلّم رسول الله (ص)، أبو الهيثم بن التيهان، فقال: يا رسول الله، إنّ بيننا وبين الرجال حبالا، وإنّا قاطعوها- يعني اليهود- فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثمّ أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ قال: فتبسّم رسول الله (ص) ثمّ قال: بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم منّي، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم)(31) فقول الهيثم بن التيهان: (إنّ بيننا وبين الرجال حبالا، وإنّا قاطعوها- يعني اليهود- فهل عسيت…الخ) يوحي بابتداء العداوة قبل الهجرة بين النبيّ واليهود وأنّ الأنصار سيقطعون هذه الحبال، وقد نقل أغلب رواة السيرة اللاحقين هذا المقطع كما هو، لكن هذا النصّ فيه تصحيف غير متعمّد أو تحريف متعمّد من طرف ابن هشام، فالكلمة الأصليّة التي كتبها ابن إسحاق هي (العهود) وليس (اليهود)(32) ففي تفسير البغوي نقلا عن ابن اسحاق نفسه نجد (إنّ بيننا وبين الناس حبالا يعني العهود، وإنّا قاطعوها فهل عسيت…الخ)(33) وفي مسند أحمد نقلا عن ابن اسحاق أيضا: (العهود)(34) وأخرجها الطبراني في المعجم الكبير بأكثر وضوح: (إنّ بيننا وبين الناس حبالا - والحبال: الحلف والمواثيق - فلعلّنا نقطعها ثمّ ترجع..الخ)(35) فالمقصود هي العهود والحلف والمواثيق، وقول ابن اسحاق: (يعني العهود) هو تدخّل منه في النصّ ليفسّر للقارئ معنى (بيننا وبين الرجال حبالا) وفي ذلك قول الأعشى: (وإذا تجوّزها حبال قبيلة**أخذت من الأخرى إليك حبالها) لكن وقع تغيير كلمة (العهود) بـ (اليهود) عند ابن هشام. ونحن نتساءل هنا: من يقصد الأنصار بقولهم سنقطع العهود والحبال مع الناس إذا اتّبعناك؟ من هؤلاء الناس؟ هذا يجيبنا عليه ابن قتيبة في غريب الحديث قائلا: (وأراد أبو الهيثم أنّه كانت بيننا وبين قوم يعني قريشا عهود ومواثيق ثمّ قطعناها فيك فلعلّك ترجع إلى مكّة إذا ظهرت وتخلّينا..)(36)
الخاتمة:
نعتقد أنّ سبب ربط أستاذنا هشام جعيّط لقب “محمّد” بـ “منحمنا” و“محمدان” هو اعتقاده بكثرة التأثيرات السريانيّة المسيحيّة على النبيّ، في مرحلته الأولى، حيث أفرد لها فصلا خاصّا في عشرين صفحة (161-181) بيد أنّ هذه المسألة في حدّ ذاتها قابلة للجدل، فيكفي أن ننظر إلى جوهر الرؤية الدينيّة عند النبيّ بخصوص عيسى، ومنذ الفترة المكيّة المبكّرة، حتّى تتحدّد لنا بوصلة البحث، فعيسى في القرآن هو عبد من عباد الله وكلمته التي ألقاها إلى مريم، وهذا الطرح يخرجنا من المسيحيّة ويحيلنا مباشرة إلى “الأبيونيّة” رغم أنّ هشام جعيّط لا يرى تشابهات مع الأبيونيّة اليهو-مسيحيّة (ص179) وهذا غريب، فالأبيونيّة حاضرة بقوّة في القرآن، سواء على مستوى الأبوكريفا المسيحيّة كإنجيل الطفولة مثلا (إنجيل متّى المنحول) وغيره من الأناجيل الأخرى، حيث أنّها أناجيل يعترف بها الأبيونيّون، أو سواءً على مستوى التراث التلمودي والمدراشي اليهوديّ، ولا يكفي أن يستفيد القرآن من الإسكاتولوجيا السريانيّة حتّى يتبنّى رؤيتها الجوهريّة بل بالعكس هو قد طوّعها لرؤيته الخاصّة، ومنذ البداية، ولا يخفى على كلّ مدقّق المرجعيّة الأبيونيّة للنبيّ، هذا النبيّ الذي تلقّب بـ“الرجل المحبوب= איש חמדות-إيش حمدوت” محبوب من الله ومن جبريل (مثل دنيال)، وترجمته بالعربيّة “محمّد”.
الإثنين ديسمبر 30, 2013 9:42 am من طرف حسين