سالم ثـــــــــــــــائر منضبط
الجنس : عدد المساهمات : 396 معدل التفوق : 1140 السٌّمعَة : 20 تاريخ التسجيل : 15/12/2011
| | معروف الرصافي في “كتاب الشخصية المحمدية” السيرة النبوية بعيدا من الأسطورة | |
عندما يجري تناول الكاتب العراقي معروف الرصافي (1875-1945) في الأبحاث والدراسات، يجري التركيز على كونه شاعرا كبيرا من شعراء العصر العربيّ الحديث الذين قدّموا مساهمات جدّية في تحديث هذا الشعر. تجهل غالبية الناس وحتى الدارسون أنّ معروف الرصافي كتب في العام 1933 واحدا من أهمّ الكتب حول الإسلام ونبيّه أسماه :“كتاب الشخصية المحمدية”، خالف فيه الكثير من الأفكار السائدة حول النبوّة، وتصدّى إلى الأساطير والقراءات غير العقلانية للتراث الإسلاميّ. تواطأ الجميع من سلطات رسمية ومؤسّسات دينية ودور نشر على إخفاء الكتاب ومنع تداوله والحجر على الجديد الذي أتى به الرصافي، ولم تجرؤ دور نشر على طبعه في بلده الأمّ أو في سائر البلدان العربية، وعندما تيسّرت طباعته إنما كان ذلك في ألمانيا وبمبادرة من “منشورات الجمل”. لكنّ مصير الكتاب كان دوما المصادرة من المكتبات ومعارض الكتب. يحوي الكتاب مادّة ضخمة من الأفكار والتحليلات حول الدعوة المحمدية تشكل مادّة خصبة في مقارعة التيارات الأصولية وفكرها في زمننا الراهن، بل تشكّل جديدا حقيقيا في قراءة ما شاب الإسلام والدعوة من تحريفات وأسطرة وتشويه حقائق التاريخ الواقعي ّلحياة الرسول وسياق دعوته، بعيدا عن الإسقاطات الحديثة للفقهاء ورجال الدين الذين يعملون لاختراع تاريخ لرجال الدعوة يتناسب مع ما يرونه مناسبا لمنهجهم ورؤيتهم، وليس كتابة التاريخ كما تقدّمه وقائع تلك الفترة (أي تاريخ نزول الدعوة) والعوامل المحيطة بها. في مواجهة الأسطورة المركبة حول الرسول يقدّم الرصافي وصفا للرسول محمّد في مطلع كتابه بالقول :“أعظم رجل عرفه التاريخ. أحدث في البشر أعظم انقلاب عامّ في الدين والسياسة والاجتماع، وقد أوجد هذا الانقلاب بواسطة نهضة عربية المبتدأ عالمية المنتهى، بدّلت مجرى الحياة الإنسانية وحولتها إلى ما هو أعلى مما كانت عليه قبلها حتى أن آثارها في قليل من الزمن عمت الشرق والغرب، ولم تزل آثارها باقية إلى يومنا هذا وستبقى إلى ما شاء الله. إن تلك الشخصية العظمى التي يمثّلها محمد بن عبد الله في بني آدم قد اجتمع فيها من عناصر الكمال البشريّ ما لم يعرف التاريخ اجتماعه في أحد قبله :عزم لا يردّه رادّ، وتفكير عميق الغور بعيد المرمى، وخيال واسع قويّ يكاد يقاوم الحقيقة بقوّته، وطموح إلى العلى لا يعلو عليه طموح”. ويتابع في وصفه لشخصية الرسول :"هذه من العناصر الأصلية التي تتكون منها شخصية محمد، أضف إلى ذلك ما أوتي من غزارة عقل وثقوب ذكاء، إلاّ أنه في هذه الناحية لا يفوق إلاّ المحيط الذي نشأ فيه والعصر الذي هو منه، أي أن عقليته لا تتجاوز في تفوقها إلاّ العقلية العربية في زمانه وبيئته. ولئن جاز أن يعلو عليه عال في العقل والذكاء فلا يجوز أن يفوقه أحد فيما أوتي من صبر وحزم، وهو مع ذلك بشر يتعاوره من أحوال البشر ما يتعاور كل إنسان. وإذا دحضنا ما جاء به الرواة من الأخبار الملفقة بما يكذبها من المعقول ومن آيات القرآن، لم نر في حياته ما يخرق العادة ويخالف سنّة الله، ألتي لا تقبل التبديل ولا التحويل، أعني بسنّة الإله نواميس الطبيعة، بل نرى حياته كلها لم تكن إلاّ طبق ما تقتضيه سنّة الله في خلقه. “وبما أنه بشر لا يخلو من معايب، ولا أقول هنا :”كفى المرء نبلا أن تعدّ معايبه“، بل أقول :”جلّ من لا عيب فيه وعلا“لأنّ العبارة الثانية من دون الأولى تنصّ على أنّ الكمال المطلق هو لله وحده. على أن المعايب البشرية كلها لم تكن معايب لذاتها بل لأمور اقتضتها المصلحة العامة في المجتمع، وإذا كان المرء عاملا للمصلحة العامة فمعايبه التي تبدو في عمله لا تكون معايب، إذ يجوز أن تقتضي مصلحة العموم أن يعمل عملا يكون عند الفرد معيبا والفرد لا حكم له في جنب العموم. ثم هي تختلف باختلاف مراتب الناس فقد يكون الشيء معيبا بالنسبة إلى أحدهم وغير معيب بالنسبة إلى الآخر، وقد قيل حسنات الأبرار سيئات المقربين. ولا ريب أن الأمور التي نؤاخذ بها شخصية محمد لم تكن معايب إلاّ بالنسبة إلى تلك الشخصية من المقام الأسمى والمرتبة العليا”. (ص 16-17) يشكّل هذا النص الذي افتتح به الرصافي كتابه مدخلا ومنهجا استخدمه لاحقا في قراءة الشخصية المحمدية، واستنادا إليه دحض الروايات غير المنطقية التي طالت الدعوة، وهو منهج يحتاجه التراث اليوم وبقوة بعدما بات عرضة للاستخدام الأيديولوجي توظّفه التيارات الأصولية والإسلام السياسيّ بما يخدم مصالحه وأهدافه في السلطة والهيمنة. لأنّ الرصافي يرمي إلى نزع الأسطرة عن الرسول، كان لا بدّ له أن يتصدّى إلى الروايات غير العلمية والمنطقية التي أسبغت عليه والتي تتنافى حتى مع ما ورد في القرآن حول محمد نفسه. لقد وضعت الروايات عن الرسول بعد وفاته ولم تكن بعيدة عن التوظيف السياسي، كما كان قسم كبير منها من نسج خيال أناس لم يرافقوا الدعوة في زمانها، من هذه الروايات ما يقال عن ولادته ومدّة حمله “من أنه كان حمله ووضعه في ساعة واحدة أو في ثلاث ساعات” (ص102)، أو ما ذكر أنه تكلّم عند ولادته، أو ما ورد في سيرة ابن هشام عن عملية شقّ الصدر وقوله :“جاءني رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعاني وشقّا بطني فالتمسا شيئا لا أدري ما هو” (ص103). وتحتلّ قضية ما إذا كان الرسول يعرف القراءة والكتابة موضع جدل بالنظر إلى استخدامها اللاحق في الحديث عن القرآن واللوح المحفوظ أو الحديث عن معجزات النبي. يرفض الرصافي رفضا قاطعا التفسير الذي درج عليه الفقهاء حول “أمّية النبيّ” بمعنى جهله القراءة والكتابة، فيؤكد أن الأمّي بالمعنى اللغويّ هو الانتماء إلى الأمّ، أمّا الأمّي بالمعنى الاصطلاحيّ الوارد في النص الديني فهو الانتماء إلى الأمّة أي إلى العرب. ويذهب أكثر في القول أنّ “الأمم كلّها في عهد محمد قسمان: أمّة لها نبيّ مرسل وكتاب منزّل كاليهود والنصارى، وأمّة ليس لها نبيّ مرسل ولا كتاب كالعرب. فمحمّد لمّا قام بالدعوة إلى الإسلام أراد أن يميّز في كلامه بين الأمّة التي لها كتاب والأمّة التي ليس لها كتاب، فسمّى العرب بالأمّيين، وأراد بذلك أنهم أمّة ليس لها كتاب منزّل ولا نبيّ مرسل، ليذكرهم في مقابلة الكتابيين، ولم يرد في هذه التسمية أنهم لا يقرؤون ولا يكتبون لأنّ فيهم من يحسن القراءة والكتابة وإن كان أكثرهم لا يحسنها” (ص166). أمّا في شأن “أمّية” النبي فيجزم الرصافي بأنّ “كلّ ما في القرآن من قصص الأنبياء والأوّلين وأخبار الماضين مما هو مسطور في التوراة وغيرها من الكتب القديمة يدلّ على أنّ محمدا كان على علم بأخبار الأمم الماضية، ومعنى ذلك أنه كان يقرأ الكتب القديمة، فيصح أن نستدلّ بما جاء في القرآن من القصص والأخبار على أنّ محمدا كان يحسن القراءة والكتابة” (ص 166). الدعوة المحمدية: في الأهداف ووسائل التحقق لا تقتصر الدعوة المحمدية على جانبها الدينيّ الذي يظلّ بالطبع الأساس فيها، بل كان محمّد يرى أن الجانب الدينيّ يتطلّب “مغريات” مادية ليترسّخ ويصبح مقبولا من عامّة الناس. “فالغاية التي يرمي إليها محمّد من الدعوة إلى الله أو من النبوة ليست بدينية محضة بدليل أنه قبل الجزية من غير العرب من أهل الكتاب والمجوس، إذ لا ريب أن أخذ الجزية منهم وتركهم على ما هم عليه من الكفر والضلال ينافي أنه لم يرسل إلاّ لدعوة الناس كافة إلى التوحيد أي إلى عبادة الله وحده لا شريك له” (ص20). ويتوسّع الرصافي في شرح الغاية من الدعوة بالقول “إن الغاية التي يرمي إليها محمّد هي إحداث نهضة عربية اجتماعية سياسية، تكون عربية المبتدأ عالمية المنتهى، أي يقوم بها العرب في بدء الأمر ثم تعمّ وتشمل الناس جميعا في النهاية” (ص21). كان محمّد على قناعة بأنّ هذه “النهضة العربية” ستقوم على أكتاف العرب أولا بل ودون غيرهم، وكان يريد للعرب الملك والسلطان وأن تكون قريش الأساس في هذه النهضة. وبما أنه كان مدركا أنّ العرب أبناء قومه كلّهم مشركون ومن عبدة الأوثان ويعيشون حال صراع بين بعضهم البعض، رأى أنّ أفضل وسائل تحقيق غايته تكون في ذلك الرباط بين الوحدة الدينية وربطهم برباط ديني مقرونا مع تأمين الوسائل المادية لتوثيق هذا الرباط. كانت كلماته الأولى والدائمة في الدعوة تركز على “لا إله إلاّ الله” وهي جوهر الدعوة التي تختصر قضية التوحيد، وكان يرى أن أحد مصادر القوة لديه في الإقناع والتحشيد حوله تكون باقتران اسمه باسم الله، لذا كان يشدد على تسميته دائما بـ“محمّد رسول الله” . ركّز في البداية على الحطّ من عبادة الأصنام واستعان بالآيات القرآنية الدالّة على الضلال في عبادة العرب، وكان اكتفاؤه بالآيات القرآنية ناجما عن انعدام القدرة المادية لإجبار قومه على الإيمان، وهو الأمر الذي سيتمكّن لاحقا من تحقيقه بالدمج بين الكلمة والسيف. سيعمد محمّد إلى ترغيب العرب بالدين الجديد من خلال تبيان ما ينتظر المؤمن في الحياة الآخرة وخصوصا ما سيتحقّق له في الجنة من كلّ مسبّبات السّعادة، يشير الرصافي إلى هذا الجانب بالقول :“ولما كانت الوحدة الدينية وحدها مجرّدة من المرغبات المادية والمعنوية التي لا تكفي لإنهاضهم النهضة المطلوبة جعل لها من المرغبات المعنوية الجنة التي تنال بالأعمال الصالحة، وجعل أفضل الأعمال الصالحة، الشهادة أي الموت في سبيل النهضة أو في سبيل الله على تعبيره. وتفنن بآياته القرآنية ما شاء الخيال أن يتفنن في وصف الجنّة وما فيها من نعيم مقيم ، وهذه الجنة التي جاء وصفها في القرآن والأحاديث النبوية هي من مبتكرات محمد التي لم يسبق إليها، وفيها دلالة على ما في خيال محمد من سعة ومن قوة. ولم يعتبر الشهيد المقتول في سبيل الله ميتا بل جعله حيّا يرزق إذ قال :”ولا تحسبنّ الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون“(سورة آل عمران:169)”(ص22). وفي هذا السياق أيضا تأتي تشريعات محمد في أخذ الجزية من أهل الأديان الأخرى وإحلال الغنائم والنساء والسبايا في الحروب للمقاتلين في سبيل الله. أدرك محمد أنّ النهضة التي يريد إحداثها واستمرارها بعد وفاته تتطلب أن يكون عند قومه “مقدسا مطاعا”، لذا كان يحرص على إتباع الناس له واعتباره قدوة لهم ومرجعهم في كل كبيرة وصغيرة، يؤكّد ذلك “أن محمدا لم يرد لنفسه من كل ما جاء به إلاّ أمرا واحدا هو الذكر الخالص مع التقديس، ولذا قرن اسمه باسم الله، وجعل الدخول في الإسلام لا يتمّ إلاّ بشهادتين، شهادة أن لا اله إلاّ الله، وشهادة أنّ محمدا رسول الله، مع أن الشهادة الأولى تتمّ بها الدعوة إلى الله، فهي وحدها كافية لهدم الوثنية وإقامة دين التوحيد، ولكنه لم يكتف بها بل جعل الإسلام لا يتم إلاّ بالشهادة الثانية معها”(ص440). القرآن والنظرات المتعددة حوله تحتل قضية القرآن بوصفه النصّ الأساسيّ للدعوة الإسلامية موقعا مركزيا في كلّ الدراسات حول الإسلام وحول الرسول، وهو أمر امتد منذ بداية الدعوة المحمدية ولا يزال مستمرا حتى اليوم. تتفاوت النظرات إلى القرآن بين موقف إيماني مطلق يرى أنه كلام الله المنزّل يجب الأخذ بحذافيره وإنّ الله وضعه في اللوح المحفوظ، وكلّ ما فيه صالح للبشرية في كل زمان ومكان. فيما ذهب آخرون إلى قراءة مختلفة لا تنكر أنه كلام أوحي به إلى الرسول من الله، ولكنه في النهاية كلام بشريّ نطق به الرسول، وهو يتصل بزمان محدّد ومكان معيّن هو بيئة الجزيرة العربية. كما أنه يحوي تناقضات في بعض المواقف مما يستدعي قراءة علمية تميز فيه بين المتصل بالدعوة إيمانا وقضايا روحية وإنسانية وبين ما يتناول حالات ظرفية واحتياجات استدعت من الرسول مواقف مباشرة في أمور لا تتصل بالدعوة وجوهرها. ولج الرصافي في هذا الباب وقدم قراءة مغايرة لما هو سائد تتسم بجرأة في تبيان الجوهري وغير الجوهري في النص القرآني، وتحاول إظهار وقائع من خلال السير التي اعتمد عليها، واستنادا إلى تحليلاته، تبين وجهة تقديم الرسول لهذا النص بما يخدم الدعوة التي يقول بها. كان محمد مهجوسا منذ بداية الدعوة بالكلام الذي سيقوله وفي الأسلوب الذي يمكن أن يقنع الناس به. “كان في خلوته يفتكر في وضع الأساس الذي تقوم عليه الدعوة، وأنه بعدما قرّ رأيه في الأساس الذي تقوم عليه الدعوة أخذ يفتكر في الصور التي تقوم بها الدعوة، وبعبارة أخرى أخذ يفتكر في الواسطة التي يؤدي بها الدعوة، ومعلوم أن الدعوة إنما تقوم بالكلام، ولكن بأيّ صورة من الصور الكلامية يصاغ ويسبك كلام الدعوة؟ ليجعل الكلام شعرا منظوما، أم نثرا مسجوعا، أم ماذا؟ هذا هو أهم ما كان محمد يفتكر فيه وهو في غار حراء. ثمّ استقر رأيه على أن لا يجعل الكلام الذي تقوم به الدعوة شعرا يروى وينشد، بل يجعله قرآنا يقرأ ويحفظ”.(ص551-52). أما كيف نحدد القرآن وموقعه من الكتب، وهو أمر تجادل في شأنه الفقهاء فيراه الرصافي أنه في حقيقته “كتاب الجدال بين التوحيد والشرك”، وهو توصيف ناجم عما يتضمنه هذا النص من أمور وقضايا “إشكالية” تشكل المحور الذي تدور عليه أغراض القرآن. “فقصص الأنبياء، وأخبار الماضين، وضروب الأمثال، والوعد بالجنان، والإبعاد بالنيران، والأمر بطاعة الله والتكيف بعبادته، والتحريض على القتال والحث على بذل الأنفس والأموال، كلّ ذلك لم يجئ في القرآن إلاّ لقتل الشرك بالتوحيد”. (ص553). ويضيف الرصافي في محاولته التعريفية قائلا :“وإذا أردنا أن نأخذ له اسما من ألفاظه ومبانيه قلنا :هو”كتاب قال وقل“لأنه ليس في الكتب السماوية، ولا في الكتب الأرضية كتاب تذكر فيه هاتان الكلمتان أكثر من القرآن، لا سيما”قل" فإنها إن كانت مذكورة فيها، وإلاّ فهي مقدرة في الأعم والأغلب من آيات القرآن. ..ومما اختص به القرآن أو امتاز به عن غيره من الكتب السماوية والأرضية: التكرار. خذ القرآن واقرأ سورة منه (من السور الكبار طبعا)، ثم انتقل إلى ثانية بعد إتمامك الأولى مستمرا في القراءة، ثم انتقل إلى ثالثة، ثم إلى رابعة، فإنك بالنظر إلى الموضوع لا تشعر بأنك انتقلت من سورة إلى سورة، لأنك تجد مواضيع الكلام متكررة في كل سورة على اختلاف في التعبير وتفاوت في التركيب، وتجد هذه المكررات في الأكثر تشتمل على ذكر الأنبياء وما جرى لهم مع أقوامهم الكفار، وعلى ذكر الجنة والنار والبعث والنشور، وعلى تقريع الكفار وتضليلهم بالشرك وإقامة الحجج على بطلان ما هم عليه من كفر وعناد، وإبعادهم بالعذاب الخالد في نار الجحيم، وعلى ذكر عظمة الله وقدرته المطلقة، وأنه خالق المخلوقات ومدبر الكائنات إلى غير ذلك مما هو مذكور في القرآن " (ص553-554). احتلت قضية “القرآن المنزل” أو “القرآن المخلوق” حيزا واسعا في السجال الفكري الإسلاميّ منذ أيام المعتزلة، ولا يزال السجال حامي الوطيس اليوم على رغم أنه دخل منذ قرون في دائرة “غير المسموح التفكير فيه” على ما يشير محمد أركون. لكن هذا الموضوع عاد يشكل محورا مركزيا في نقاش الإصلاح الديني وقراءة النصوص التأسيسية وخصوصا منها القرآن بعد أن قدمت مناهج التطور الفكري أدوات جديدة في علوم التاريخ والأنتروبلوجيا معطيات جديدة. تطرق معروف الرصافي إلى مسألة القرآن المنزل وقضية اللوح المحفوظ، انطلاقا من النص الديني نفسه ومن الاعتماد على ما ورد في كتب السيرة، وهو الذي لا يبدو أنه كان على دراية بمناهج العلوم الاجتماعية والإنسانية واللغوية الجديدة التي اعتمد عليها دارسون للنص الديني من أمثال محمد أركون ونصر حامد أبو زيد وغيرهم. يشير الرصافي بداية إلى “أن القرآن يستعمل في عباراته الإنزال والتنزيل والنزول في الكلام الموحى من الله إلى محمد، كقوله :”نزل به الروح الأمين“(الشعراء:193)، وقوله :”شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن“(البقرة:185)، وقوله :”ونزلناه تنزيلا“(الإسراء:106). فماذا يراد بهذه العبارات، وهل الكلام الموحى به إلى محمد نازل من فوق، أي من جهة عالية إلى جهة سافلة؟”(ص583). يرفض الرصافي التفسير الشكليّ والظاهريّ الذي يقول به بعض الفقهاء ورجال الدين، فيجيب على سؤاله بالقول :“إن الله منزه عن أن يكون في جهة دون جهة، ومنزه عن أن يكون في مكان ، فتعبير القرآن بالنزول والإنزال في الكلام الموحى به من الله لا يقصد به إلاّ التعظيم والتشريف جريا على ما تعوده الناس من نسبتهم الشيء إلى العلو إذا أرادوا تعظيمه وتشريفه، لأنّ الله عظيم واجب التعظيم، فإنّ الآتي منه يستوجب التعظيم أيضا، فنسب إلى العلوّ كما نسب إلى الله أيضا، فعبر عن حصول الوحي بالنزول والإنزال”(ص585). استنادا إلى هذه الوجهة واعتمادا على تفسيرات تناولت مسألة النزول، يرى الرصافي أن للقرآن اصطلاحات خاصة في استعمال الكلمات، “فقد ورد الإنزال في القرآن على وجه لا يستلزم هبوطا من علو إلى أسفل، إذ جاء استعماله في أمور كائنة في الأرض ولم تهبط من السماء كقوله في سورة الحديد :”وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس“(الحديد:25)، وفي سورة الأعراف :”يا بني آدم قد أنزلنا عليك لباسا يواري سوءاتكم“(الأعراف:26)، وفي سورة الزمر :”وأنزل عليكم من الأنعام ثمانية أزواج“(الزمر:6)(ص585). يخرج الرصافي باستنتاج يمكن للعقل قبوله في نظره حول مسألة النزول بأنه يعني الإلهام،”خصوصا إذا قلنا بأن القرآن هو المعاني لا الألفاظ كما ذهب فريق من علماء الإسلام، حتى أن أبا حنيفة قال بصحة صلاة من قرأ في صلاته القرآن بالفارسية. فمعنى قولنا إنّ الله أنزل القرآن على النبي أنه ألهم معانيه، ثم عبر النبي عن تلك المعاني بألفاظ عربية وقرأها على الناس. ولا ينبغي للمؤمن بالله حق الإيمان إن كان محترما للعقل ومخلصا في الإيمان أن يخرج بإنزال القرآن عن حد هذا المعنى، وقد ذهب إليه فريق من علماء دين الإسلام من الذين يحترمون عقولهم ويخلصون لله إيمانهم"(ص586). وعلى غرار قضية نزول القرآن، يجادل الرصافي في قضية اللوح المحفوظ المترسخ في وجدان المسلم، والذي ترتب على الاعتقاد المطلق به رفض لنقاش واجتهاد في الكثير مما ورد فيه استنادا إلى شعار رفعه فقهاء حول أن “لا اجتهاد في النص”، ونتج عنه أيضا ذلك القول بأن القرآن صالح لكل زمان ومكان وفيه كل الحلول للبشرية جمعاء. يقول الرصافي مجادلا :"من الأمور التي شط بها علماء الدين عن الحقيقة واليقين ما قالوه في اللوح المحفوظ من الأقوال الواهية. فقد قال جماعة منهم إن القرآن أنزل جملة في ليلة القدر من اللوح المحفوظ في السماء الدنيا يقال له بيت العزة فحفظه جبريل، وغشي على أهل السموات من هيبة كلام الله فمرّ بهم جبريل وقد أفاقوا وقالوا: ماذا قال ربّكم؟ قالوا:الحقّ، يعني القرآن، وهو معنى قوله تعالى :“حتى إذا فزع عن قلوبهم”(سبأ:23)، فأتى جبريل إلى بيت العزة فأملاه على السفرة الكتبة، يعني الملائكة، وهو معنى قوله تعالى :“بأيدي سفرة، كرام بررة”(عبس:15-16)(ص592-593). ويخلص الرصافي باستنتاج حول هذا الموضوع بالقول :“أمّا وصفه هذا الكتاب بأنه محفوظ أو مكنون أي مصون فلأنه لا يقبل التبديل والتغيير، فهو منزّه من أن تناله يد بشيء من ذلك، لا كما يقولون من أنه محفوظ من وصول أيدي الشياطين إليه. فمن هذا تعلم أنه ليس عند الله لوح أو كتاب بالمعنى الذي تفهمه الناس، وأنه ليس لهذا الكتاب كتبة ينسخونه ويستنسخونه، وهم السفرة والبررة أي الملائكة كما تقول الحشوية”(ص595). في إعجاز القرآن ومعجزات الرسول تسود نظرات مختلفة إلى قضية الإعجاز في القرآن والميادين التي يتجلّى بها، فيذهب دارسون إلى اعتبار النصّ اللغويّ أحد مقوّمات الإعجاز فيما يراه آخرون بطبيعة الدعوة الدينية التي تضمنها. لكن منظّري الفكر السلفيّ والأصوليّ، وفي مرحلة صعود الإسلام السياسيّ ذهبوا إلى تحميل القرآن ما ليس من طبيعته عندما باتوا ينسبون إليه ما يسمّى “الإعجاز العلمي”، ويذهبون أبعد من ذلك بالقول إنّ جميع الاكتشافات العلمية ومنجزات العلم الحديث تجد جذورها في القرآن، وهو أشار إليها أحيانا بوضوح وأحيانا بغير وضوح. تعكس تلك النظرة جهلا بمضمون النص الدينيّ بل تحرّف موقعه الروحي والأخلاقي والإنساني وتضعه في موضع مساءلة وتشكيك بما لا يليق به في وصفه كتاب دين. مما لا شك فيه أن الذين يحمّلون النص القرآني معجزات علمية إنما يصدرون عن محاولة تعويض التخلّف والنقص الذي يعاني منه العرب في مجال التقدم العلميّ، ولأنّ العرب والمسلمين محكومون بنرجسية التفوّق على العالم ويعيشون في ماضي حضارتهم، كان لا بد لبعض منظريهم من استحضار هذا الجانب “المعجز” لمواجهة غرب سار خطوات متقدمة جدا في هذا المجال. أولى معروف الرصافي هذا الجانب أهمية في كتابه وسعى إلى “وضع النقاط على الحروف” في الحقيقي والشكلي في قضية الإعجاز مشيرا إلى أن الموضوع لا يتصل بالزمن الحديث بل يعود إلى ماض سحيق منذ المراحل الأولى للدعوة، حيث عني علماء الإسلام بهذه المسألة وألفوا فيها كتبا ومنها كتاب للباقلاني. يشير بالقول :"وأنت إذا نظرت في كتبهم بإمعان وقرأتها بتدبر رأيتهم يتكلمون عن إيمان واعتقاد لا عن تدبر وتفكير. ولا ريب أن الإنسان إذا تكلم في أمر ديني يؤمن به ويعتقد بصحته كان منحازا إليه في كل ما يقوله عنه، وكان إيمانه به واعتقاده بصحته حجابا دون كل ما خالفه أو أزرى به...لذا تراهم بما قالوه مبالغين في إعظام القرآن ومفرطين فيما يدعون من إعجازه، كما تراهم جعلوا كل ما فيه الذروة العليا من البلاغة والفصاحة، واتخذوه المقياس الأعلى الذي تقاس به درجات البلاغة، فلا يرون له عيبا ولا يسمعون عليه من خصومهم حجة، ولا يقبلون منهم برهانا. فبالنظر إلى هذا أصبح موضوع إعجاز القرآن ليس بموضوع فني أدبي، وإنما هو موضوع ديني بحت. فكل من شذ عنه فهو في نظرهم كافر، وكل من خالفه فهو في رأيهم ملحد. فمسألة إعجاز القرآن أصبحت من المسائل التي لا يغني فيها لا عقل ولا تنفع فيها الحجة، لأن المسائل الدينية ما التقى فيها خصمان إلاّ افترقا لما التقيا"(ص599). يرى الرصافي أنّ المنطق الأقرب في القول بالإعجاز إنما ينحصر في الجانب الفني والأدبي، لكن القرآن يتضمن آيات تشير إلى الإعجاز فيه وتطرح تحديات حوله، وهي آيات نزلت في سياق دعم الدعوة المحمدية في وجه المشككين والأعداء الذين رموا في وجه الرسول قضية المعجزات في وصفها دلالة قاطعة على “الرسولية”. إذا كان من مبرّر لمثل هذه الآيات في زمن الدعوة الأولى، فإنّ العصر الحديث قد تجاوزها ولا يمكن الاعتداد بها لإثبات تفوق المسلمين وتقدّمهم على سائر الأمم. يشير الرصافي إلى ما يطلق عليه “آيات التحدي” بالقول :“في الآيات القرآنية الواردة في التحدي ما يدعو إلى الانتباه، وذلك أن آيات التحدي هي في سورة الطور :”فليأتوا مثله إن كانوا صادقين“(الطور:34)، وفي سورة يونس :”أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين“(يونس:38)، وفي سورة هود”:أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين“(هود:13)، وفي سورة الإسراء :”قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا“(الإسراء:88)”. (ص605) في مناقشته للتهويل بإعجاز القرآن يجادل الرصافي في ما إذا كان القرآن و“معجزاته” مصدر انتشار الدعوة الإسلامية، ليصل في قوله إن الدعوة انتشرت بفضل السيف وليس استنادا إلى النص الديني، “فلو سألناهم كم مؤمنا كانت هذه المعجزة هي السبب الوحيد لإيمانه، لما استطاعوا أن يجيبوا جوابا صحيحا”(ص608). لكن الرصافي يعيد الاعتبار إلى المعجزة الفعلية في القرآن من حيث الجانب اللغوي من جهة ومن حيث ما تضمنه من قيم، وهي الأهم في نظره بالدلالة على هذا الإعجاز. يقول في هذا الصدد :“لا ينكر أن في القرآن ما هو جدير بأن يكون في الذروة العليا من البلاغة، فانظر إلى قوله في سورة آل عمران :”قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلاّ الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا أشهد بأنا مسلمون"(آل عمران:64). إن محمد قد أمر أن يدعو الناس إلى ربه بالحكمة، ولعمري إن الحكمة الناصعة البيضاء تتجلى لك من خلال هذه الآية بوجهها الواضح المنير الذي لا ملامح فيه سوى إرادة الخير للناس، فهي تدعوهم بصفاء عبارتها الخالية من شوب كل عنف وغلظة إلى كلمة واحدة تتضمن وحدة الإله المعبود. وليس مقصودها من وحدة إلههم إلاّ وحدتهم وتساويهم في الحقوق وارتباط بعضهم ببعض بروابط الأخوة في حياتهم الاجتماعية" (ص615). وإذا كان القرآن يتضمن الكثير من الآيات التي تصف عظمة الله، إلاّ انه لا يتساوى في جميع آياته، أي ليست كلها على المستوى نفسه من البلاغة، “بل يقع فيها التفاضل، فمنها الأعلى ومنها الأوسط ومنها ما دون ذلك” (ص616).ويضيف قائلا :"إن آيات القرآن متفاوتة في بلاغتها، بل فيها ما لا يتمشى مع البلاغة، بل فيها ما لا يتمشى بظاهره مع المعقول. فمنها ما هو غير مفهوم، ومنها ما لا يبلغه الفهم إلاّ بتأويل وتقدير. وليس هذا القول ببدعة، فالقرآن نفسه قائل بذلك ومعترف به. ففي سورة آل عمران :“هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وآخر متشابهات”(آل عمران:7)، والمحكمات هي التي أحكمت عبارتها فلا يتطرق إليها الاحتمال فيكون المعنى فيها مفهوما وصريحا، والمتشابهات هي الملتبسات في معانيها فلا يكون المعنى فيها مفهوما ولا صحيحا"(ص616-617). عندما يتّصل الأمر بالرسول، تتفاوت الروايات حول ما ينسب إليه من معجزات معظمها إذا لم تكن كلها من اختراع العقل الإسلاميّ لتبيان أهمية النبيّ قياسا على ما سبقه من الأنبياء. على الرغم أن الرسول كان يردد دائما :“إنما أنا بشر مثلكم غير أني يوحى إليّ”، وعلى رغم إصراره الدائم على القول بأن معجزته الفعلية هي القرآن، وأنه لا يعلم الغيب مؤكدا على ذلك في عدد من الآيات :“قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن اتبع إلاّ ما يوحى إليّ”(الإنعام:50)..أو ما ورد في سورة النمل :“قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلاّ الله”(النمل:65)، إلاّ أن التراث العربي والإسلامي يزخر بالكثير من المعجزات التي ينسبها إلى الرسول بعضها يلامس الأساطير والخرافات. يشير الرصافي إلى هذا الجانب بالقول :"إذا نظرنا في ما ألفه وخلفه لنا علماء الإسلام في ما مضى الزمان من كتب التفسير والحديث والسيرة النبوية رأينا هذه الكتب مشحونة بما يخالف القرآن ، إذ نراهم يذكرون لرسول الله من المعجزات وخوارق العادات شيئا كثيرا حتى ادعى بعضهم أنه أعطى من المعجزات ثلاثة آلاف، وتجاوز بعضهم هذا العدد فقال :إن معجزاته لا تدخل تحت عد أو حصر. وكذلك نراهم يذكرون له في كتبهم من الأخبار بالمغيبات أمورا لا تعد ولا تحصى."(ص738). يؤكد الرصافي أن معجزة محمد الفعلية هي ذلك العزم والإصرار والعقل والقرآن، وهي الأمور التي بواسطتها “أوجد بها من العدم أمة ناهضة في سبيل الحق والحرية، فقامت قومة رجل واحد تدعو إلى الله حتى دوخت البلاد وخضع لها الحاضر والباد، وامتدت في أقطار الأرض شرقا وغربا في مدة يسيرة لا تتجاوز نيفا وعشرين سنة، لهي المعجزة الكبرى التي تتضاءل دونها المعجزات”(739). أما في روايات المعجزات فيتحدث ساخرا بالقول :“غير أن الجامدين يعمون عن هذه المعجزة، فلذا تراهم يهيمون في وادي الخرافات يبتغون بها المعجزات الدالة على صدق نبوة محمد وعظم شأنه كانشقاق القمر وتسليم الحجر، وكمجيء الشجرة إليه تشق الأرض شقا حتى قامت عليه تظله لمّا نام في الشمس، وكشكوى البعير إليه، وتكليم الحمار إليه، وسجود الغنم له، ونطق الغزالة بالشهادتين، وشهادة الذئب له بالرسالة، إلى غير ذلك من الأمور التي هي مخجلة أكثر مما هي مضحكة”(ص739). الدعوة المحمدية :جديد ديني متكيّف مع وضع وثنيّ قائم يقع الفكر الإسلامي في تناقض فاضح عندما يسعى دوما إلى تبيان الجديد الذي أتى به الإسلام وقطع بموجبه مع الوثنية والجاهلية وأقام قواعد لاهوتية للدين الجديد تميز المسلين بموجبها عن سائر الأمم. لكن دارسي الفكر الإسلامي لم يستطيعوا أن يهربوا من كون القرآن أتى ينص على مسائل في العبادة والتزام الدين كان لها موقع أساسي في الحياة الدينية للعرب الجاهليين وهو ما يعرف لديهم بعبادة الأصنام. إن استعادة الدعوة المحمدية للكثير من العادات والأعراف والقواعد التي كانت سائدة قبل الدعوة إنما يدلل على تاريخية الدين وعلى كونه أتى تعبيرا عن حاجات عربية ولأبناء الجزيرة العربية بالذات، وما إيراد هذه الأعراف في القرآن سوى دليل على تاريخية هذا النص كونه أتى في زمان محدد وعبّر عن واقع بيئة جغرافية معينة. لا ينتقص ذلك من كون القرآن حمل دعوة روحية وإنسانية وقيما أخلاقية ينطبق عليها مفهوم “العالمية”. لذا تكتسب استعادة إبراز القديم الوثني المؤتلف مع الجديد الديني الإسلامي أهمية في قراءة الإسلام بواقعيته وبعيدا عن أساطير وخرافات وإسقاطات ألحقت به، وبما يعيد وضع النص الديني في موقعه الاجتماعي والروحي الذي هدف محمد من ورائه إلى نشر دعوته بما يتجاوز الواقع المحلي. كثيرة هي الأمور التي يتداخل فيها “الجاهليّ” بـ “الإسلاميّ”، وكثيرة هي الأمور ذات الصلة بعقائد العرب الجاهليين والتعبير عن عاداتهم، وهي أمور كان على الرسول أن يبتدع أجوبة عليها بما لا يصدم العقل السائد، إنما بما يخفف من غلواء تطرفها والتقليل من سلبياتها. في هذا المجال أتت أحكامه في شأن المرأة والزواج والطلاق والإرث والحجاب وتحريم الخمرة وغيرها، فيما تكتسب بعض المسائل أهمية خاصة لأنها باتت من صلب الدعوة وعلى الأخص منها ما يتعلق بالصلاة والحجّ والكعبة ... يعبر الرصافي عن هذه الوضعية بالقول :“لا ريب أن محمدا كان يجتهد في جميع الأمور اجتهادا، وكان اجتهاده يتبدل حسبما تقتضيه الحاجة وتدعو إليه المصلحة، ومن هنا نشأ الناسخ والمنسوخ من الأحكام، فكان سبب تبدل اجتهاده ينتقل من أمر إلى أمر ويتطور من حال ألى حال”.(ص449-450) يشكل الحج أهم الموروثات عن الجاهليين عبدة الأصنام ويطرح الإصرار على استمراريته أسئلة حول “القطيعة” التي قام بها محمد مع الجاهلية، وخصوصا وأن الحج هو من أركان الإسلام الخمسة. “كانت العرب تحج البيت في الجاهلية، فالحج عبادة وثنية قديمة في العرب، فلما جاء محمد أقره فجعله ركنا من أركان الإسلام الخمسة” (ص462). ويتابع الرصافي في حديثه عن الكعبة والحج بالقول :“فالحج عبادة وثنية كما يدل على ذلك الطواف بالكعبة، واستلام الحجر، والتمسح بالأركان، والسعي بين الصفا والمروة، ورمي الجمار وسائر أفعال الحج. إن أفعال الحج مهما اقترنت بالتلبية والإهلال بذكر الله، فإنها مع كونها غير معقولة تريك من فاعلها حالة لا تلائم توحيد الإله ونبذ سواه في عبادتها، لأنها في أدائها مرتبطة بأشياء هي والأصنام سواء،إذ لا فرق بين الأصنام وبين الكعبة والحجر الأسود والصفا والمروة التي يرتبط بها فعل الطواف والاستلام والسعي، ولكنها تلائم الوثنية كل الملاءمة كما هو ظاهر.”(ص465) تنسب الرواية الدينية الحج إلى زمن النبيّ إبراهيم وقصته مع زوجته هاجر الذي أتى بها إلى مكة ووضعها بموضع الكعبة، لكن الحقيقي في موضوع الحج يتجاوز المدلول الديني ليتصل مباشرة “بمنفعة رؤساء الدين في ذلك الزمان وهم رؤساء الدنيا أيضا، وهذه المنفعة غير مقصورة على السدنة أنفسهم بل هي تشتمل أبناء قبيلتهم قريش أجمعين، وبعبارة أخرى تشمل أهل مكة أجمعين، وإن كانت منفعة الرؤساء أكثر من غيرهم، فإن أهل مكة كانوا تجارا وكانت معايشهم قائمة بما يربحونه في البيع والشراء بتجارتهم مع الحجاج عند قدومهم للحج في المواسم التي هي أسواق لا تتفق ولا تقوم إلاّ بالحجاج”.(ص470). ومن أجل ضمان موسم الحج وإبقاء الطرق إليه سالمة، كان التوافق على منع القتال في الأشهر الثلاثة المطلوبة للتحضير له وممارسته وعودة الحجاج إلى ديارهم، وهو ما عرف بالأشهر الحرم. الرصافي “المنبوذ” والحاجة الراهنة لكتابه لم “يحظ” كتاب ولا كاتب بالسوء والرفض والذم كما حصل لمعروف الرصافي و“كتاب الشخصية المحمدية أو حل اللغز المقدس”. كان الرصافي يتوقع الحملة التي ستثار ضده عند خروج كتابه إلى العلن، فكتب في مقدمة كتابه :“أنا اليوم أكتب ما أكتب للحقيقة وحدها ولا شريك لها عندي. ولئن أرضيت الحقيقة بما أكتبه لها لقد أسخطت الناس علي، ولكن لا يضرني سخطهم إذا أنا أرضيتها، كما لا ينفعهم رضاها إذا كانت على أبصارهم غشاوة من سخطهم عليّ، وعلى قلوبهم أكنة من بغضهم إياي..وإني لأعلم أنهم سيغضبون ويصخبون ويسبون ويشتمون، فإن كنت في قيد الحياة فسيؤذيني ذلك منهم، ولكني سأحتمل الأذى في سبيل الحقيقة وإلاّ فليس لي أن أهتف باسمها ولا أن أدعي حبها كما يدعيه الأحرار، وإن كنت ميتا فلا ينالني من سبابهم خير كما لا ينالهم منه خير، فان سب الميت لا يؤذي الحي ولا يضر الميت، كما قال محمد بن عبد الله عظيم عظماء البشر”.(ص15-16). لم يعش الرصافي عمرا يسمح له برؤية كتابه مطبوعا تحتضنه المكتبات ودور النشر، فقد توفي قبل ذلك بكثير. وعندما تجرأت إحدى الدور على نشره، أحدثت لدى رجال الدين والمؤسسات الفقهية مدعومة من السلطات السياسية ردة فعل عنيفة، كانت مصادرة الكتاب من المكتبات ومنع عرضه في معارض الكتب أول الإجراءات المتخذة بحقه، بحيث بات على الراغب في اقتنائه اللجوء إلى السوق السوداء ودفع ثمن أغلى من أجل اقتنائه. وعلى رغم أن الرصافي حاول أن يقدم قراءة موضوعية لشخصية الرسول معتمدا فيها على السير الذاتية المعروفة، ولم ينطق الرجل عن موقع “الحادي” أو مناقض لجوهر الدعوة الإسلامية، إلاّ أن ذلك لم يمنع أخصامه من الاتهام بأنه شكك وطعن في القيم والمبادئ والمثل الإسلامية بل في كل الموروث الإسلامي. وذهب بعض الناقدين إلى القول أن كتاب الرصافي يشكل خطورة أكبر من “الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للرسول” والتي أثارت ضجة كبيرة في العالم الإسلامي، وأنه أيضا أخطر من كتاب سليمان رشدي “آيات شيطانية” والذي استحق عليه الكاتب الهندي الأصل هدر دمه ومكافأة لمن بطبق هذه الفتوى التي أصدرها الإمام الخميني. لم ينج الكتاب وصاحبه في كل البلدان العربية من تهمة التكفير لصاحبه، وكانت الدعوات صريحة في هذا المجال، ولو أتيح للرصافي البقاء حيا إلى هذا الزمن لكان من المحتم أن يلاقي ربه على يد متطرف أصولي على غرار ما ناله “فرج فوده” و“نجيب محفوظ” في مصر سابقا. مهما قيل في الرصافي وكتابه من تشنيعات، فان كتاب “الشخصية المحمدية” يظل محتفظا بموقعه واحدا من الدراسات العلمية حول النبي محمد، ونقطة مضيئة في معركة المجتمعات العربية لنزع الموروث المعيق لتقدمها وولوج باب العقلانية في قراءة تاريخها وتراثها المتعدد الجوانب وعلى الأخص منه التراث الديني. من دون وضع هذا التراث على مشرحة النقد التاريخي والعقلاني، سيصعب على المجتمعات العربية والإسلامية اجتياز نفق التخلف الذي تقيم فيه منذ عصور مزمنة. بذلك يكون كتاب الرصافي احد الأسلحة في هذه المعركة المفتوحة. | |
|