يحدث مراراً أن يتشكى الأدباء العرب من أنّ الغرب يتعمّد إهمال إسهاماتهم في الثقافة الإنسانية الكونية، أو يتعمد تشويه تلك الإسهامات في حال تقديمها. وهذا تفصيل صحيح من حيث المبدأ، ولعلّه يشمل الكثير من الثقافات غير الغربية، لأسباب معقدة عديدة تتجاوز حكاية العمد والتعمّد، لأنها ببساطة تبدأ من مقدار طبيعي (بمعنى أنه منتظَر مألوف، لا بمعنى اعتباره سلوكاً صائباً مشروعاً) في الانتقاء والإقصاء تمارسه الثقافة الأقوى لأنها ببساطة الثقافة المهيمنة.
ولكن ماذا يحدث حين تُسند إلى العرب أنفسهم مهامّ الخوض في شؤون ثقافة العرب؟ راهنوا أن الحال يمكن أن تكون سيئة أحياناً، وقد تصبح الأسوأ إذا كانت وسيلة النشر، كتاباً أو دورية أو منبراً، نافذة رفيعة المقام عالية الصيت شديدة السطوة. هنا بعض الأمثلة، التي لا تسعى إلى تبرئة أو تبرير التقصير الغربي، بقدر ما تكشف قصور أهل الأدب أنفسهم.
السيدة جنين عبوشي دلال أستاذة مساعدة للدراسات الشرق أوسطية والأدب المقارن في جامعة نيويورك، وهي خريجة جامعة هارفارد بأطروحة دكتوراه عنوانها «جمال الإمبريالية: إمرسون، ملفيل، فلوبير، والشدياق»، الأمر الذي يضعها على الفور في خضم النقاش الإستشراقي والنظريات ما بعد الكولونيالية. الأمر الذي يوجب، كذلك، أن ننتظر منها علماً أفضل وجهلاً أقلّ بثقافتها الوطنية الأمّ: الثقافة العربية. وذات يوم نشرت عبوشي دلال مقالة في «ملحق التايمز الأدبي» بعنوان «مخاطر الإستغراب»، بوصفه النقيض الموازي للإستشراق، وبعنوان فرعي صارخ: «كيف يُساق الروائيون العرب إلى الكتابة للقرّاء الغربيين»، جاء مع ذلك مخالفاً لروحية العنوان الذي اختارته الكاتبة بنفسها (كما نقرأه في لائحة أعمالها الأكاديمية: «الأدب العربي في السوق».
أطروحة عبوشي دلال عجيبة في شقيها المتكاملين: أنّ الكثير من الروائيين والروائيات العرب يكتبون رواياتهم لكي تناسب وتتناسب مع الموضوعات والتقنيات والأساليب الرائجة في سوق الترجمة إلى اللغات الأوروبية (وهذا قد يكون صحيحاً، جزئياً فقط)؛ وأنّ من واجب هؤلاء أن يتوجهوا إلى الجمهور العربي وحده حين يكتبون بالعربية (وتتسامح عبوشي دلال مع من يكتبون أصلاً بلغة أجنبية، وتمنحهم حقّ التوجّه إلى جمهور «مختلط» إذا جاز القول). أمثلتها على هذا الأدب ذاتي التزييف تضمّ الياس خوري، حنان الشيخ، نوال السعداوي، سليم بركات...
ذلك يهون، ويظلّ وجهة نظر قابلة للأخذ والردّ، رغم السطحية الواضحة والافتقار إلى الحدّ الأدنى من التعقيد المطلوب في تناول ظاهرات خطيرة كهذه. وكنّا نظن أن تلامذة إدوارد سعيد ـ سواء تتلمذوا على مناهجه في قاعة الدرس أم في بطون الكتب ـ قد امتلكوا ذلك الحدّ الأدنى مرّة وإلى الأبد، حتى أقنعتنا عبوشي دلال أننا ما نزال بعيدين عن إجماع كافٍ حول طرائق عمل المعلّم الكبير الراحل. ما لا يهون أبداً، إذ يرقى إلى مستوى الفضيحة المعرفية والأخلاقية، هو مقدار الجهل الذي تنمّ عنه خلاصات عبوشي دلال للرواية الوحيدة التي تسعى إلى أن «تتعمّق» في تحليلها، أي رواية سليم بركات «فقهاء الظلام».
ثمة جهل بفنّ الرواية أولاً وجوهرياً، وجهل بمحتوى هذه الرواية تحديداً (البعيد عن موضوعات الدين و«الأصولية» بُعْد نيويورك عن قرى الأكراد في أقاصي منطقة الجزيرة السورية)، وضحالة في قراءة شخصياتها وخلفياتها ورموزها وتقنياتها ولغتها، واستشراق معكوس أشدّ رداءة من أي استشراق. قمّة هذا الأداء البائس ما تكتشفه عبوشي دلال من وجود «تشابهات» مثيرة بين «فقهاء الظلام» وعمل سلمان رشدي الشهير، «الآيات الشيطانية»، على نحو يوحي بأن جاذبية الرواية الثانية هي التي ألهمت الرواية الأولى. وفي واقع الأمر نشر بركات روايته قبل رواية رشدي بخمس سنوات على الأقلّ، وإذا وُجد تشابه من أي طراز، فإن المتأثّر المستلهِم ينبغي أن يكون رشدي وليس بركات!
مثال ثانٍ، من الشعر هذه المرّة، أقلّ وطأة ولكنه أكثر أذى على المدى البعيد ربما. الأميركية ـ الفلسطينية الأصل نايومي شهاب ناي شاعرة موهوبة، ولعلها أفضل الشعراء والشاعرات العرب ـ الأمريكيين الذين يكتبون بالإنكليزية، كما أنها أخذت تحتل موقعاً متقدماً في المشهد الشعري الأميركي المعاصر. ولقد أشرفت شهاب ناي على تحرير أنطولوجيا شعرية بعنوان «الفضاء الفاصل بين وَقْع أقدامنا»، صدرت عن واحدة من أكبر دور النشر الأميركية وضمّت مختارات شعرية لشاعرات وشعراء من أبناء الشرق الأوسط (لأنّ المختارات تضمّ نماذج من إيران وتركيا والدولة العبرية)، مزيّنة برسوم من إنتاج أبناء المنطقة أيضاً. الكتاب أنيق في طباعته، جذاب في تصميمه، واسع في نطاقه الجغرافي، و... هزيل في محتواه!
خذوا، على سبيل المثال، مَن يمثّل تونس: محمد الغزّي (مواليد 1949) وأبو القاسم الشابي (توفي عام 1934)! أو المغرب: الطاهر بن جلّون، وسعد سرحان! أو عُمان: عبد الله حبيب! أو استعدوا لمفاجأة ليس مثلها مفاجأة، إذا علمتم أن مَن يحتكر تمثيل مصر شاعر اسمه... نجيب محفوظ! بالطبع لا يعقل أنّ شهاب ناي تجهل النوع الأدبي الذي يكتبه محفوظ، ولا ننازعها الحقّ في اختيار مقطع نثري من الرجل واعتباره شعراً صافياً. ولكن لا يعقل في الآن ذاته أن تخلو أرض الكنانة من الشعراء بحيث يحمل محفوظ عبء تمثيل مصر، وحده! كذلك لا ننازع المحرّرة ذائقتها التي أرادت تحويل هذه الأنطولوجيا الشعرية إلى «طاولة مازة» فيها التبّولة والحمّص والـ “باباغنّوج” والمخللات (كما تقول هي نفسها، حرفياً، في مقدمة المختارات)، ولكن... أليس من حدّ أدنى في الالتزام بآداب الطعام؟
المثال الثالث، لكي تتكامل الميادين بعض الشيء، من النقد وتاريخ الأدب. ففي كتاب جزيل النفع عنوانه «قاموس الثقافة الكونية»، أشرف على تحريره كوامي أنتوني أبيا وهنري لويس غيتس، ثمة تفاصيل القصور التالية في تمثيل الثقافة العربية الحديثة:
— على امتداد القرن العشرين بأسره، لا يذكر المحرّران من أدباء اللغة العربية سوى طه حسين، يحيى حقي، يوسف إدريس، نجيب محفوظ، ونوال السعداوي (مقارنة، على الجانب الإسرائيلي، بأسماء مثل يوسف عجنون، عاموس عوز، أ. ب. يهوشواع)؛
— الشعر العربي، الجاهلي والأموي والعباسي والحديث والمعاصر، غير ممثّل البتة في هذا القاموس، وكأنّ الشعر ليس «ديوان العرب»، أو ليس ركيزة كبرى في تكوين الثقافة العربية؛
— ثمة انتقائية ضيّقة في التركيز على أسماء حفنة محدودة من «النجوم» في الفلسفة الاسلامية (ابن رشد، ابن سينا، الغزالي)، وإهمال تامّ لمنجزات الكبار من اللغويين والمؤرّخين والأدباء والمتصوّفة ( الجاحظ، على سبيل المثال، يُشاد به عرضاً، ولكنه لا يحظى بمادّة مستقلة)؛
— الموسيقى العربية (بل والإسلامية أيضاً)، لا تتمثّل إلاّ في آلة الرباب وصوت أم كلثوم.
كان الأمر سيهون لو أنّ حظوظ الثقافات الأخرى تساوت مع حظوظ الثقافة العربية. غير أننا نقرأ موادّ مستقلة عن أسماء أفريقية من الصومال وكينيا وغانا ونيجيريا، وأسماء آسيوية من كوريا وأندونيسيا وماليزيا والباكستان، وطائفة ثالثة من أمريكا اللاتينية... ليسوا أرفع شأناً من الغائبين من ممثّلي الثقافة العربية في العصور الحديثة، بل إنّ بعضهم لا يُقارن البتة بما أنجزته الثقافة العربية في الشعر والرواية بصفة خاصة.
والغبن، في الواقع، لا يقتصر على الأسماء وحدها. الثقافة ليست النتاج المكتوب في الأدب والفنون والفلسفة والعلوم فحسب، بل هي أيضاً التراثات الشفهية والأساطير والعادات والفولكلور الشعبي والأديان، الأمر الذي لا يتردد المحرّران في الإعراب عنه منذ المقدمة. وبمعزل عن ليلى والمجنون (التي يعتبرها المحرّران ملحمة شعبية ذات أصول عربية ـ فارسية ـ أوردية!)، وعيد الفطر، وعيد الأضحى، والمولد النبوي (في طقسه الشعبي المصري تحديداً) وشعائر الصيام والحجّ، فإنّ القاموس لا يمحض الثقافة العربية الكثير من مظاهر الإسهام في الثقافة الإنسانية.
وكان الأمر سيبدو طبيعياً، بالمعنى الذي أشرنا إليه أعلاه، لو أنّ محرّرَي الكتاب كانا من ذلك «الرهط» الإستشراقي الغربي الذي عوّدنا علي أيّ شيء باستثناء المقاربة المنصفة لثقافات الشعوب «الأخرى». غير أنّ أبيا غانيّ الأصل وأستاذ الفلسفة والدراسات الأفرو ـ أميركية في جامعة هارفارد، في حين أنّ غيتس أفرو ـ أمريكي ورئيس قسم الدراسات الإنسانية في الجامعة إياها. كلاهما خاضا سجالات طاحنة ضدّ «المركزية الغربية»، وكلاهما دافعا عن حقّ التابع في إسماع صوته ورواية حكايته، وكلاهما يصنّفان عادة في خندق اليسار!
الأمر الذي يدفعنا إلى منح المحرّرين فضيلة الشكّ، لأنهما يقولان في المقدّمة إنهما توجّها بالسؤال التالي إلى عدد من الأكاديميين والمختصّين: كيف تحدّد 50 مادّة تعتبرها الأهمّ في التعريف بثقافة المنطقة التي تنتمي إليها أو تتخصّص فيها؟ بعد ذلك قام المحرّران بما يشبه «الغربلة» المتقاطعة لهذه الموادّ، فاختاروا منها الـ 50 التي تتكرّر أكثر من سواها في مختلف اللوائح، ثم عادوا إلى الأكاديميين والإختصاصيين وعرضوا عليهم هذه اللوائح الأمّ، وما إذا كان لديهم اعتراض على هذه أو تلك من موادّها، ولماذا يعترضون، وما إذا كانت لديهم أسباب لاستبدال مادّة بأخرى. أكثر من ذلك، لجأ المحرّران في حالات محدّدة إلى تكليف بعض هؤلاء الأكاديميين والإختصاصيين بكتابة الموادّ بأنفسهم، تقصّياً للدقّة.
وفي نهاية المطاف، إذا كان صحيحاً أنّ أهل مكة أدرى بشعابها، فالصحيح كذلك أنّ االبعض منهم ليس أقلّ دراية بها فحسب، بل أشدّ جهلاً أيضاً!