يلخّص الأستاذ الجابري مساره الفكري كالتالي: "بدأت في ممارسة "الثقافة في السياسة" في خضم... جريدة "التحرير" انطلاقا من 2 أبريل 1959 إلى أن انتقلت إلى ممارسة "السياسة في الثقافة" حين تحرّرتُ من المسؤوليات الحزبية عام 1981" (سلسلة "مواقف" ع12 ص6).
والواقع أنّ هذا كان مسار جيل مغربيّ بأكمله من الشباب الذين درسوا أساسا في المشرق العربي وتشرّبوا نزعاته النهضوية والوحدوية، وتحوّلوا إلى نوع من "المثقفين العضويين" لحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية الذي كان يهيمن وقتها على الساحة السياسية والثقافية المغربية.
وكان إشعاع هؤلاء المثقفين(والجابري من أبرزهم) كبيرا من خلال ما كانوا يكتبونه وينشرونه في جرائد الحزب ومجلاته (التحرير، المحرر، الأهداف، أقلام...) بحيث كانوا يمثلون ويعيشون بالكامل وضع "المثقف الطلائعي" بله "الثوري" "باعتبار الثورية بعد أساسي من أبعاد كل مثقف يعيش –راضيا أو مكرها- في مجتمع متخلف" على حد تعبير الجابري (" مسؤولية المثقفين في البلدان المتخلفة"، مجلة أقلام" أبريل 1964).
كانوا مثقفين حزبيين و إيديولوجيين بامتياز.ومن هنا ،مثلا، بروز الهمّ التنظيري لإشكالية الاشتراكية والفكر الماركسي في المغرب والعالم العربي لدى الجابري (المقالات الثلاثة المنشورة سنة 1966 في مجلة "أقلام" تحت عنوان: أزمة الاشتراكية في البلدان المتخلفة).وسيكتب الجابري لاحقا (سلسلة "مواقف" ع 12 ) بأنه سيقرر التوقف عن الكتابة حول ا الموضوع، بل والانصراف عن مشروع التنظير للاشتراكية في المغرب، لأنه –وحسب تعبيره- "لم يكن من الممكن الانكباب على دراسة التاريخ الاجتماعي للمغرب والعالم العربي وفي نفس الوقت التنظير لتطوّر هذا التاريخ وللصراعات التي عرفها".
وهنا يمكن افتراض بداية المرحلة النقدية لديه...من المساهمة في المراجعة النقدية لخط حزب القوات الشعبية الإيديولوجي وإنجاز "مشروع قراءة جديدة لفلسفة الفارابي السياسية والدينية في منتصف السبعينات، إلى إنجاز مشروعه الكبير: نقد العقل العربي (أربعة أجزاء) الذي مهد له بكتاب "نحن و التراث".
والواقع أن فترة السبعينات كانت حاسمة في تاريخ المغرب المعاصر سياسيا وثقافيا حيث إنه إزاء المد اليساري الذي كان ينشط بالخصوص في الجامعة ويمتد بأثره إلى المدارس الثانوية فستضرب الدولة المغربية (المخزن) ضربتها الحاسمة والتي لم يبدأ المجتمع المغربي من التململ ومحاولة الاستفاقة من أثرها إلا راهنا: إغلاق معهد العلوم الاجتماعية، التضييق على الأساتذة الجامعيين "التقدميين" عن طريق التنقيل والتهميش، التعريب المرتجل و"الأسلمة" الفظة لشعبة الفلسفة في اتجاه تصفيتها أو على الأقل محاصرتها، منع كتب معينة الخ.
وكان هذا يترافق أيضا مع ازدياد وتوسع موجات القمع الشرس والأعمى.فهيمنت حالة من الإحباط على المجتمع المغربي لم تمنع –بالرغم من ذلك- من استمرار بعض مواقع المقاومة القديمة وظهور أخرى جديدة تمثلت أساسا في ظهور فكر نقدي دقيق و عميق تصدى لنقد التقليد/التقليدانية والسلفية العقائدية التي كانت تسعى إلى تلوين كل شيء بلونها.وقد تعددت مبادين هذا النقد ومناهجه و لم تثبت صورة واحدة لمن يمكن اعتباره المثقف النقدي.لكن عموما يمكن إبراز ثلاثة نماذج في هذا الصدد: النقد التاريخاني (عبد الله العروي)، النقد التفكيكي (عبد الكبير الخطيبي)، النقد الابستيمولوجي (محمد عابد الجابري).
رحم الله الأخيرين ومتّع الأوّل بالعافية وأمدّ في عمره.