2012-03-18 القدرة الإلهية والضرورةالعقلية
محمد عابد الجابري |
| |
في
المحاضرة المثيرة التيألقاها الباب بينديكت السادس عشر، وتعرض خلالها
لمكانة العقل في الإسلام، جاء قوله: "وفي هذا الإطار يستشهد خوري
بالمستشرق ر. أرلنديزR. Arnaldez الذي ذكر أن ابن "حزن" (ابن حزم) قد بالغ
في هذا الأمر إلى درجة أنه يصرح أن اللهليس ملزما بتنفيذ ما يعد به
(العبارة الإسلامية : لا يجب عليه تنفيذ وعده ووعيدهكما سنبين)، وأنه لا
شيء يلزمه على التصريح لنا بحقيقة ما يريد (بالعبارة الإسلامية : "يقدر
على الكذب"). فإذا أراد لنا الله أن نعظم الأصنام، فليس لنا إلا أن
نخضعلإرادته (وهذا الذي ينسبه هنا لابن حزم خطأ، كما سيتضح لاحقا).
في القرآنآيات يفيد ظاهرها معنى وأخرى يفيد ظاهرها معنى مختلفا وأحيان
مناقضا. وقد ارتأىكثير من المتكلمين أن تجاوز هذا المشكل يكون برد
المتشابه من الآيات إلى المحكم. لكن قد يحدث أن تتدخل ميول الفرقاء، فما
يعتبره فريق محكما يعتبره فريق آخرمتشابها.
من ذلك مثلا أن المعتزلة يعتبرون قوله تعالى "ليس كمثله شيء" (الشورى 11)
محكما وما يتناقض معه عدوه من المتشابه. ولذلك قالوا بالتنزيه المطلقللذات
الإلهية فنفوا عنه تعالى جميع الصفات التي فيها تشبيه بالإنسان سواء
المعنويةمنها كالعلم والإرادة أو الحسية منها كالسمع والبصر الخ، وقالوا
مثلا هو عالم بذاتهلا بصفة زائدة عليها أو هو عالم بعلم وعلمه ذاته. وفي
إطار هذا التنزيه المطلققالوا إنه تعالى الله منزه عن جميع أشكال النقص.
وبما أن فعل القبيح (كالظلم والكذبالخ) نقص فالله منزه عنه وبالتالي لا
يفعل إلا الحسن والصلاح وجوبا، مستندين في ذلكإلى آيات من القرآن كثيرة
مثل قوله تعالى: "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِوَمَنْ أَسَاءَ
فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (فصلت 46)،وقوله:
"وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا" (الكهف 49)، وقوله: "اللَّهَ
لَيْسَبِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ" (البقرة 51. تكررت هذه الآية عدة مرات)،
وقوله: "كَتَبَعَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ (الأنعام 12) الخ ومن هنا
عبارتهم "يجب على الله فعلالصلاح"، وبعضهم قال: "الأصلح".
وقد رد عليهم خصومهم من أهل السنة والأشاعرةوالظاهرية بالاحتجاج بآيات
كثيرة يصف تعالى فيها نفسه: بـ: "عليم"، "حكيم" "سميع"،بصير" متكلم" الخ،
وأنه: "عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ"، وأنه "لَا يُسْأَلُ عَمَّايَفْعَلُ
وَهُمْ يُسْأَلُونَ" (الأنبياء 23).
والذين يعترضون على القول بأنالله قادر على "كل شيء"، يقولون إن ذلك
يستتبع أن يكون قادرا على الظلم والكذب. ويضيفون: إنه ما دام قادرا على
الظلم والكذب فلما الذي يضمن لنا أنه لم يفعلهماالآن، أو أنه لن يفعلهما
في المستقبل؟
هذا اعتراض ذكره ابن حزم على لسانالخصم، ليرد عليه ويفنده، وليس هو رأيه
كما في خطاب البابا. وفيما يلي نص كلامه،قال: "قال ابن حزم: "فإن قال
قائل: فما يُؤَمِّـنُـكم، إذْ هو تعالى قادر على الظلموالكذب والمحال، من
أن يكون قد فعله أو لعله سيفعله فتبطل الحقائق كلها ولا تصح،ويكون كل ما
أخبرَنا به كذباً"؟
يرد ابن حزم قائلا: "وجوابنا في هذا هو أنالذي أَمَّنََنا من ذلك ضرورةُ
المعرفة التي قد وضعها الله تعالى في نفوسنا،كمعرفتنا أن ثلاثة أكثر من
اثنين، وأن المُميِّز مُميِّز، والأحمق أحمق، وأن النخللا يحمل زيتوناً،
وأن الحمير لا تحمل جمالاً، وأن البغال لا تتكلم في النحو والشعروالفلسفة،
وسائر ما استقر في النفوس علمه ضرورة".
ومما تجدر الإشارة إليههنا أن قول ابن حزم بالضرورة العقلية التي ركبها
الله فينا كضامن لليقين، هو عينالعقلانية. فالعقل هو الذي يبرهن على وجود
الله من خلال تأمل الموجودات وبديعنظامها إذ يستنتج من ذلك أنه لا بد أن
يكون وراءه صانع حكيم، والعقل هو ضامن اليقينلأن اطراد نظام الكون
واستقلاله عنا دليل على أن الله لا يخدعنا … فما يعبر عنهالبابا بـ "العقل
لا يتنافي مع طبيعة الله" يعبر الفكر الإسلامي عنه بالقول: إن سننالكون لا
تتنافى مع قواعد التمييز التي ركبها الله في عقولنا، (وبعبارة ابن رشد:
"ليس العقل شيئا آخر غير إدراك الأسباب")، وللقارئ أن يحكم بنفسه: أي
القولين أكثرعقلانية؟
وأما ما نسبه البابا إلى ابن حزم على لسان المستشرق أرلنديز،ورواية عن
خوري، فهو خطأ في الفهم أو النقل أو فيهما معا. ذلك أن ابن حزم لم يقلولا
يمكن أن يقول: "إذا أراد لنا الله أن نعبد الأصنام، فليس لنا إلا أن
نخضعلإرادته". ذلك أن الله يقول: "وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا
الْمَلَائِكَةَوَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ
بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْمُسْلِمُونَ" (آل عمران 80).
ليس من الممكن أن يقول ابن حزم : "إذا أراد لناالله أن نعبد الأصنام، فليس
لنا إلا أن نخضع لإرادته". أما ما ذكره ابن حزم فهوحكاية عن قوم قالوا
للمعتزلة: إذا كان الله لا يفعل إلا الصلاح، كما تقولونوبالتالي لا يشاء
الكفر لعباده، فكيف تردون على من قال إن الله صرح بأنه قد يشاء أنيعود
الناس إلى الكفر، وذلك بدليل قوله تعالى: "قَالَ الْمَلَأُ
الَّذِينَاسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ
وَالَّذِينَ آَمَنُوامَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي
مِلَّتِنَا، قَالَ أَوَلَوْ كُنَّاكَارِهِينَ (حتى ولو كنا كارهين لذلك؟)،
قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًاإِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ
بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا، وَمَايَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ
فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا، وَسِعَرَبُّنَا كُلَّ
شَيْءٍ عِلْمًا … " (الأعراف 88-89). فقوله "إلا أن يشاء الله" يفهم منه
المعترض أن الله يمكن أن يشاء رجوعهم إلى الكفر؟
ولما ذكر ابن حزمذلك جاء بجواب كان قد رد به بعض المعتزلة على ذلك
الاعتراض فقالوا لا يمكن أن يردالله المسلمين إلى عبادة الأصنام: "إلا أن
يأمرنا الله بتعظيم الأصنام كما أمرنابتعظيم الحجر الأسود والكعبة". وفي
هذه الحالة لا يكون الله قد شاء لهم الرجوعإلى عبادة الأصنام والكفر، بل
يكون قد شاء المساواة في التعظيم بين الحجر الأسود،وبين الأصنام. والتعظيم
لا يعني العبادة، والمسلمون يعظمون الحجر الأسود لا بمعنىأنهم يعبدونه، بل
يعظمونه لما فيه من معنى الرمز، إذ يعود بهم إلى نبي الله إبراهيمالذي
وضعه في موضعه كنقطة البدء في الطواف.
ويعلق ابن حزم على ذلك بالقولإذا أمرنا الله بتعظيم الأصنام كما نعظم
الحجر الأسود والكعبة، فليس معناه أنهأمرنا بالكفر وبالرجوع إلى عبادة
العرب للأصنام، بل معناه أنه أمرنا بما به يزيدإيماننا، فلو أمر المسلمين
بتعظيم الأصنام فإن ذلك لن يتناقض مع أمره لنا بتعظيمالحجر الأسود والكعبة
بل سيكون قد زاد في إيماننا بامتثالنا لأمره. ذلك، يقول ابنحزم : "أن الله
لو أمرنا بذلك لم يكن عوداً في ملة الكفر بل كان يكون ثباتاً علىالإيمان
وتزايداً فيها". فيكون الحال كما "قال تعالى: " في قلوبهم مرض
فزادهمالله مرضاً"، والمرض المقصود هنا هو الكفر، والمعنى أن الله شاء
لهم الزيادة فيالكفر كما شاء لهم الكفر. إن مشيئة الله عند ابن حزم سارية،
سواء تعلق الأمر بإيمانمن آمن أو كفر من كفر أو ارتداد من ارتد" (الفصل 2
ص 186 وما بعدها مكتبة خياطبيروت د. ت).
وإذن، فالفرق كبير جدا، إلى درجة التعارض والتنافي، بين مانسبه البابا إلى
ابن حزم، وما قاله ابن حزم في حقيقة الأمر. ونحن نأخذ على البابامثل هذه
الأخطاء ليس لأنه تعمد الوقوع فيها للنيل من عقيدة الإسلام، فنحن لا
نحاكمالنوايا كما أسلفنا، وإنما نعجب لكونه يقتبس من مصادر غير موثقة ولا
مختصة أشياءتسيء إلى علاقته وعلاقة الفاتيكان بالإسلام. في الوقت الذي ختم
فيه محاضرته بالدعوةإلى حوار "عقلاني" بين الأديان".
أعتقد مخلصا أنه قبل أن يكون هناك حوار بينالأديان يجب أن يتعرف أصحاب كل
دين على حقيقة دين محاوريهم. هذا علاوة على أن يعرفأصحاب كل دين دينهم،
معرفة ترتفع إلى المستوى المطلوب. ذلك أن الحوار مع الجهلينتهي حتما إلى
عداوة: وقديما قيل "الإنسان عدو ما يجهل".