تقديم:
[ صدر حديثا بباريس كتاب بعنوان "روسيا وإغراء الشّرق" (La Russie et la tentation de l’Orient, Paris, Fayard, 2010, 422 p.)، وهو في الأصل أطروحة دكتوراه في التاريخ لصاحبتها لوران دي مو (Lorraine de Meaux) نوقشت سنة 2007 في جامعة باريس الأولى بعنوان "الشرق الروسي: تمثلاّت الشرق والهوية الروسية من أوائل القرن التاسع عشر إلى العام 1917" (L'Orient russe: représentations de l'Orient et identité russe du début du XIXe siècle à 1917).
ولعلّ ما دفعنا إلى تقديم هذا الكتاب أنّه يمثّل دراسة تتجاوز مجال وصف العلاقات السياسية التي أقامتها روسيا مع الشرق، أي تلك المناطق التي تبدأ من القوقاز وصولا إلى أقاصي سيبيريا والمحيط الهادئ، كما تتجاوز المظاهر العسكريّة المحضة للغزو الروسي لذلك الشّرق كما حدّدته مطامع روسيا الاستعماريّة وأدبيّات مستشرقيها منذ قرنين. فتمشيّا مع الاتجاهات الحالية في التأريخ، تدخلنا لورين مو برفق مجال الحقائق الثقافيّة للعلاقات التي أقامها الروس منذ أوائل القرن التاسع عشر مع الشعوب الشرقية، وتغطّي جميع المجالات تقريبا، من السياسة إلى الأدب، ومن دراسة التمثلاّت وصولا إلى الفنّ. وهو ما يجعلنا نغطس في قلب المشروع الإمبراطوري الذي كانت تغذّيه النّخب الروسيّة في ذلك الوقت، بل يجعلنا أيضا نفكّر بعمق في مسألة التناقض الأساسي الذي تتميّز به هويّة هذا الشعب. إنّها دراسة تلقي الأضواء على الجدل الحادّ والعنيف الذي ميّز معركة أنصار النزعة السلافيّة من جانب، ودعاة التّغريب من جانب آخر، وما رافق ذلك من رهانات، واضعة مسألة الغزو الروسي للشرق في سياق الحركة الاستعماريّة الأوروبيّة لعالم القرن التاسع عشر المتميّز بنزعة تأكيد كلّ أمّة من الأمم الغربيّة مسألة نفوذها القوميّ.
ولئن كان الروس قد وجدوا في الشرق مصدرا للهيبة والقوّة والهيمنة، وعزاء عن هزائمهم في الغرب، فإنّ أعظم نتائج ذاك الاتصال مع عالم الشرق سيكون انتشار خصائص "شرقيّة" في أعماق المجتمع الروسي، وهذه النقطة هي لبّ دراسة لورين دي ميو. ولعلّ الفصل المتعلق بحروب القوقاز وما تضمّنه من مقارنات مع الحروب الأخيرة في الشيشان، أحسن ما يضيء هذه العلاقة المركّبة بين النّفور من العالم الإسلامي القوقازي والافتتنان به.
إنّه كتاب عسير القراءة، ولكنّه يبدو أساسيّا لكلّ مهتمّ بروسيا وبمكانتها في العالم الرّاهن. وقد جاء ليسدّ ثغرة في معرفتنا بروسيا، ذاك البلد الذي بنى نفسه عن طريق التوسّع تدريجيّا في أراضي الغير، وخاض من أجل ذلك حروبا متتالية أدّت إلى استعمار أراض لا تربطه به أي روابط مشتركة من لغة أو تقاليد أو دين. ولئن كانت فكرة الإمبراطوريّة الروسيّة حول ذاتها قد استضاءت منذ القرن التّاسع عشر بنور الشّرق، فإنّ ذلك كان في أصل نشوء التباسات كثيرة ليس أقلّها ذاك المتعلّق باعتماد تعريف ثقافوي للهويّة مقابل إهمال شبه تامّ للشأن السياسي، وهو الالتباس الذي ما زال يطبع الصّراعات التي تمزّق روسيا المعاصرة ويدفعها إلى تضحيات كبيرة ودفع ثمن يبدو باهظا في نظر البعض، ألا وهو "تشرّق" روسيا، أو بتعبير آخر حدوث شرخ في الهويّة الروسية ما زال يفعل فعله إلى وقتنا الرّاهن. وهذا ما قد يفسّر بعضا من سياسات روسيا الحاليّة ومحاولاتها التقرّب من الشّعوب الإسلاميّة رغم ما تعانيه من مصاعب للتغلّب على محاولات التوسّع الأمريكي في ما تعتبره مجالها الحيوي (جمهوريات آسيا الوسطى وإيران وأفغانستان) من جهة، ومن حركات استقلاليّة مسلّحة تراها روسيا غير مبرّرة في القوقاز (الشيشان، أوسيتيا، أنغوشيا...).
وسنتعمد في تقديم هذا الكتاب على العرض الذي أنجزته المؤرّخة الفرنسيّة مارلين لارويال (Marlène Laruelle)، وهي باحثة في مركز دراسات العالم الروسي والقوقاز وأوروبا الوسطى (CERCEC) التّابع لمدرسة الدّراسات العليا للعلوم الاجتماعيّة بباريس (EHESS) وصاحبة مؤلّفات عديدة في هذا المجال. وقد نشر عرضها لهذا الكتاب في دوريّة "حياة الأفكار"(La Vie des idées) الفرنسيّة في عددها الصّادر بتاريخ 3 سبتمبر 2010 بعنوان: « L’orientalisme, version russe » .
أمّا صاحبة الكتاب لورين دي ميو، فهي من مواليد عام 1975، وهي أستاذة مبرّزة وحائزة على الدكتوراه في التاريخ، متخصّصة في شؤون روسيا الحديثة والمعاصرة، وسبق لها الإشراف على تحرير كتاب "سان بطرسبرغ، تاريخ، نزهة، مختارات، قاموس" الصّادر سنة 2003 عن دار روبير لافون للنّشر بباريس (Saint-Pétersbourg, histoire, promenade, anthologie, dictionnaire, Robert Laffont, collection Bouquins, 2003).
وهي حاليّا عضو هيئة تدريس مادّة "رابطة الدول المستقلّة وروسيا" ضمن تخصّص ماجستير الأبحاث في العلوم السياسيّة وباحثة في مركز دراسات العالم الروسي والقوقاز وأوروبّا الوسطى التّابع لمدرسة الدّراسات العليا للعلوم الاجتماعيّة، كما تدرّس حاليّا في كلية الدراسات الدوليّة المتقدّمة (School of Advanced International Studies) بجامعة جونز هوبكنز في واشنطن ]
غالبا ما تخصّص المنشورات الغربيّة المكرسّة لروسيا حيّزا كبيرا لمسألة هويّتها القوميّة، وتتساءل حول انتماء موسكو إلى العالم الأوروبي ودورها في الوصل بين أوروبّا وآسيا، وخصوصيتّها الثقافيّة المنبثقة من الماضي البيزنطي والإيمان الأرثوذكسي. وفي الوقت الذي تصوّر فيه وسائل الإعلام الغربيّة روسيا بلدا يصارع شياطينه القوميّين والامبرياليّين القدامى، تطفو مسألة عدم انتماء روسيا إلى أوروبّا مرّة أخرى على السّطح لتحتلّ واجهة المشهد.
وتتساءل لوران دي مو عن علاقة روسيا بالشّرق، وهي المسألة التي أضحت كلاسيكيّة منذ سقوط الاتحاد السوفييتي. فقد أدّى تجدّد الجدل حول الهويّة داخل روسيا نفسها، والصّعوبات التي تواجهها موسكو حاليّا في التّفاوض مع أقليّاتها القوميّة والدّينيّة، خصوصا في شمال القوقاز، والازدياد المقلق لظاهرة كراهيّة المهاجرين القادمين من القوقاز أو آسيا الوسطى، وأخيرا، التّقارب الجغراسياسي مع الصّين، إلى طرح عدد كبير من التّساؤلات المتعلقة بتمثّلات الهويّة الروسيّة ووضع روسيا في عالم ما بعد الحرب الباردة. وتتناول لوران دي مو مسألة "الشّرق" في بعدها التّاريخي وتركّز عملها – وهي محقّة في ذلك كي لا يتميّع التّحليل – على القرن التاسع عشر. ففي تلك الفترة، قام النّظام القيصري بغزو أقاليم آسيويّة شاسعة، في ذات الوقت الذي كانت فيه العديد من الحركات الأدبيّة والفنيّة والفكريّة تعيش جدلا واسعا حول مفهوم الشّرق ودوره في تشكيل الهويّة القوميّة الروسيّة.
التوسّع الإمبراطوري في "الشّرق":
تعيد لوران دي مو في مرحلة أولى قراءة عمليّة تشكّل هذا التوسّع الإمبراطوري. فبعد غزو أراضي الإمبراطوريّة المغوليّة خلال القرنين السّادس عشر والسّابع عشر، سيكون القوقاز أوّل "شرق" تسعى روسيا لاستعماره، وستكون آسيا الوسطى الثانية، بينما سيكون الشّرق الأقصى هو الثالث والأخير لأنّه يسمح لروسيا بـ"بإمساك آسيا من طرفيها" وفقا لعبارة المؤرّخ أناطول لوروا بوليو (Anatole Leroy-Beaulieu). وتقوم المؤلّفة باستعراض التمثّلات المتولّدة عن تلك الفتوحات: انبهار بالعدوّ القوقازي ممزوج في ذات الوقت باحتقار للثقافة الإسلاميّة لآسيا الوسطى. وبذلك أضحى مقاتلو جبال القوقاز الشّرسون أبطالا، وغدت جبالهم العصيّة مجالا لبطولات رومانسيّة.
وقد ظلّت تلك الصّور مؤثّرة في فترة بدايات القرن التّاسع عشر، بل أضحت حينها قاعدة للمشاعر المعادية للشّيشان وكراهيّة المنتمين لما يسمّى "القوميّة القوقازيّة". وقد اعتبرت آسيا الوسطى مجرّد تابع للإمبراطوريّات العظيمة المجاورة لها، أي الروسيّة والصينيّة والفارسيّة والبريطانيّة، فيما تمّ النّظر إلى مآثرها المعماريّة والفكريّة والأدبيّة العظيمة على أنّها مجرّد فقّاعة ازدهار عابر. بل إنّ هذه القراءة التي ولدت في القرن التاسع عشر ما زالت تفعل فعلها راهنا بصفة لافتة للنّظر: فآسيا الوسطى ما زالت إلى اليوم في نظر الجمهور الرّوسي منطقة متخلّفة وعبئا لا بدّ من تحمّله من أجل احتواء شرور القرن الحادي والعشرين، ألا وهي المخدّرات والإسلام السّياسي. أمّا غزو سيبيريا، فهو مدار خطابات حول انبعاث الشّعب الروسي في مواجهة الحكم الفردي الاستبدادي، مع استحضار دائم لصورة الفلاّح الهارب من سلطة الدّولة كي يعيش حرّا في أقاصي سيبيريا. كما تتضمّن تلك القراءة أيضا عدّة التباسات سياسيّة ثاوية بخصوص علاقة الإمبراطوريّة القيصريّة بالصّين واليابان: هل هما حليفان في مواجهة الغرب أم منافسان على غزو الشّرق الأقصى؟ لقد كرّست الهزيمة أمام اليابان في عام 1905 في عقول الغربيّين كما الرّوس، ولادة آسيا "صفراء" منتصرة على أوروبّا "بيضاء" متدهورة، ولعبت دورا هامّا في تآكل شرعيّة النّظام القيصري خلال الثّورة الأولى لعام 1905.
ثمّ تتناول المؤلّفة أهميّة المدارس الاستشراقيّة الروسيّة التي برزت بفضل جهود سيرغي أوفاروف (Sergueï Ouvarov) في بدايات القرن التّاسع عشر، والتي تجسّدت أكبر نجاحاتها من خلال ما يعرف بمدرسة قازان. وعلى غرار ما تمّ خلال غزوات أوروبّا الغربيّة، فإنّ المعرفة الأكاديميّة الروسيّة كانت ممهّدة ومواكبة، وتالية أيضا، للاستحواذ على الأراضي المفتوحة من خلال إنجاز دراسات متعدّدة في الجغرافيا والنّياسة لفائدة إدارة تبحث عن الوسائل الكفيلة بتنظيم سكّان المناطق المخضعة وفرض رقابة دقيقة عليهم. لقد كان الاستشراق الأكاديمي الرّوسي في خدمة الغزو الاستعماري، وكان متناقضا ومعقّدا. فقد تأسّس بالفعل على معرفة ميدانيّة دقيقة بفضل غزو المناطق التي تمّت دراستها، والاقتراب الشّديد والفريد من نوعه من الموضوعات المدروسة. كما أنّه كان متأثّرا أيضا بشكل عميق بالمعارف القادمة من الغرب، ولا سيّما بالعلم الجرماني والدّراسات الهنديّة (Indologie)، في حين لم تكن الدّراسات اليابانيّة (Japonologie) قد تطوّرت بعد. ولم تؤدّ دونيّة ثقافة الدّخلاء، التي تواترت الإشارة إليها في الأعمال الروسيّة، إلى استنكار الاختلاط: فالنّصوص لا تستنكر الزّواج المختلط، ونبلاء الإمبراطوريّة يعلنون بفخر أصولهم "الشرقيّة" التتريّة أو البشكيريّة أو القوقازيّة، إلخ.
"الشّرق" بوتقة الخطاب الرّوسي حول الأمّة:
خصّصت الفصول الثّلاثة الأخيرة من الكتاب على التوالي لصورة الشّرق في الآداب الروسيّة، ودور الشّرق في الجدل المحتدم حول الهويّة القوميّة، والشّرق في الفنّ الرّوسي. فابتداء من النّصف الثاني من القرن الثّامن عشر، انتشرت في روسيا، داخل الأوساط الأكاديميّة كما في الوسط الارستقراطي لبطرسبرغ، فكرة وجود طريق مخصوصة (Sonderweg) لروسيا. وقد استوحي ذلك من المثال الجرماني في مواجهته الادّعاء الكوني للنّموذج الملكيّ ثمّ الجمهوري الفرنسي. وفي النّصف الأوّل من القرن التاسع عشر، بدأت تتشكّل تحت اسم "الفكرة الروسيّة" (russkaja ideja) مدوّنة هائلة من النّصوص التي حدّدت، حسب نموذج جوهراني، السّمات الخالدة للهويّة القوميّة ضمن تصنيفات بحسب طبيعة كلّ حقبة وناسها: عقيدة الخلاص الدّيني، الروحانيّة الأرثوذكسيّة، الشّعور الفردي بالانتماء الجمعي، الإيمان بدور الدّولة و/ أو المستبدّ على قيادة الشّعب، عقيدة جماهير الفلاّحين الحاملة للثقافة الأصليّة، الاعتقاد في وحدة العالم الرّوسي (حضارة لا يمكن للغرب فهمها). وبتمركزها على الهويّة السلافيّة لروسيا وتضامنها الجوهريّ مع الشّعوب الأرثوذكسيّة في البلقان، ولدّت نصوص الثّلث الأخير من القرن التّاسع عشر خطابا حول روسيا بوصفها "قارّة ثالثة" تراوح بين أوروبّا وآسيا، منذورة لتحمّل مهمّة تحضير الشّرق.
وكما لاحظت لوران دي مو، وهي محقّة في ذلك، فقد شكّلت هذه الموضوعة الشرقيّة المعرفة الروسيّة في القرن التّاسع عشر. وهكذا نجد نصوص بوشكين (Pouchkine) وتولستوي (Tolstoï) وليرمونتوف (Lermontov) حول ملحمة غزو القوقاز؛ وقصص رحلات المستكشفين مثل نيكولاي برزيفالسكي (Nikolaï Przhevalski) وبيوتر سيمينوف تيانشنسكي (Piotr Semenov Tian-Shanski) على التّخوم الآسيويّة للإمبراطوريّة، والتي تصوّر كلّ من الصّين ومنغوليا وأفغانستان والهند وكأنّها تلتقي هناك؛ ونظريّات مطلع القرن العشرين حول النّزعة الآسيويّة، بشقّيها المنغوليّ والتتريّ، وسواء كانت محافظة على نهج فلاديمير سولوفييف (Vladimir Soloviev) أو ثوريّة على نهج الكسندر بلوك (Alexandre Blok)، والتيّارات الباطنيّة البوذيّة والشامانيّة؛ وتأثير الشّرق على موسيقى ريمسكي كورساكوف (Rimski-Korsakov) وغلينكا (Glinka) وبورودين (Borodine)، وفي فنّ الباليه أو في لوحات ايفان أيفازوفسكي (Ivan Aïvazovski) وفاسيلي فيرشتشاغين (Vassili Verechtchaguine)؛ نجد جميع ذلك أثّر تأثيرا عميقا في النّخب الروسيّة وطريقتها في عقل الهويّة الروسيّة بوصفها البوتقة التي تلتقي فيها "القيم" الغربيّة والشرقيّة (العقلانيّة مقابل التصوّف، والفردانيّة مقابل الجماعويّة، واللاّهوت العالم مقابل التأملّ الزّهدي).
ومن هنا، فإنّ من مزايا هذا الكتاب أنّه يسمح بتسليط الأضواء على الجدل القائم حول الهويّة الروسيّة وعلاقتها بالشّرق، وبالتّالي، علاقتها بالغرب. وكما لاحظت لوران دي مو، فإنّ "الفكرة الروسيّة"، أي الخطاب الذي أنتجه المثقّفون الرّوس بشأن المسألة القوميّة، إنّما كانت تقوم على اقتناع عميق بالأصالة الروسيّة. لذا، كانت المسائل المطروحة تدور في حلقة مفرغة من الخطابات الجوفاء، وهو ما طبع في بعض الأحيان بعض عبارات الكاتبة كقولها: روسيا ليست جزءا من الغرب لأنّها متأثّرة بالشّرق، لكنّها عصيّة عن استيعاب الشّرق لها لأنّها تشترك مع الغرب في نفس المرجعيّات الثقافيّة، مثل المسيحيّة. غير أنّ لوران دي مو تقف مليّا أمام مفهوم الاستعمار، وتبيّن بحقّ أنّ كانت روسيا لم تكن أبدا تعقل ذاتها باعتبارها إمبراطوريّة غربيّة متحكّمة في مستعمرات. وقد كانت فكرة تميّز الغزو الروسي بخصائص فذّة تجعل مقارنته بالتّجربة الغربيّة غير ممكنة منتشرة وذائعة حتّى في صفوف عدد كبير من الغربيّين في ذلك الوقت. ومع ذلك، فإنّ تكرّر نفس موضوعة مهمّة نشر الحضارة، وفكرة الدّفاع عن قيم أوروبّا، بل قيم المسيحيّة أحيانا، والشّعور بواجب تحرير الشّعوب الأقلّ تحضّرا من الطّغيان، كلّ ذلك يمثّل جزءا لا يتجزّأ من العدّة الإيديولوجيّة للاستعمار الأوروبي، وهو ما لا يشذّ عنه في نسخته الروسيّة.
الاستياء تجاه الغرب وشرعنة الإمبراطوريّة:
لم تكن تمثّلات الشّرق أبدا بريئة، فهي جزء من استراتيجيات معقّدة للهويّة تتجاوز رهاناتها مسألة تلمّس الفوارق، على ما بيّن كلّ من ادوارد سعيد وجون بول شارناي (Jean-Paul Charnay) ومارك كريبون (Marc Crépon)، وكذلك رينيه إيتيابمل (René Etiemble)(1). لقد كانت الصّين وبلاد فارس والهند، أبعد ما تكون عن أن تدرس لذاتها، ولم تتمّ دراستها إلاّ لكونها تقدّم إجابات حول مسائل قوميّة وتسمح ببنائها أو بإعادة صياغتها: فالصّين تسمح بالحديث عن الدولة، وفارس بالحديث عن الدّين، بينما تسمح الهند بالبحث عن الأصول. لقد كانت الصّين تُعقل بوصفها قمّة الغيريّة الآسيويّة، في حين كانت بلاد فارس في كثير من الأحيان، رغم منافستها الجيوسياسية لروسيا في حوض بحر قزوين والقوقاز، تُعقل باعتبارها حليفا محتملا في العالم الإسلامي. أمّا الهند، فهي تمتاز من ناحيتها بقرينة القرابة والأصل المشترك المفترض. وفي الواقع، فإنّ المثقّفين الرّوس قاموا بتوظيف التّقارب اللّساني بين اللّغات السلافيّة واللّغة الأصليّة الأسطوريّة للهندوروبيّين بحثا عن هويّة متجاوزة للهويّة الأوروبيّة أو إن شئنا في سبيل هويّة كونيّة. وقد كان ذلك ممكنا من خلال التّأكيد، المستند إلى تقدّم علوم ذلك العصر، على انحدار السّلاف وهم أجداد الآريّين من وسط آسيا أو قزوين، حيث أقاموا هناك صرح الحضارة السيثيّة العظيمة التي أضحت مرجعيّة روسيا منذ زمن الملكة كاترين الثانية.
وبما أنّ الاستشراق خطاب مبنيّ بالضّرورة بطريقة سلبيّة، فقد مكّن بعض المثقّفين الرّوس، الذين ما فتئوا يستنكرون خطر "الاستعمار الفكري" القادم من العالم "الرّومانيّ - الجرمانيّ"، من التّنظير لفكرة "فكّ الارتباط بالمركز" لمواجهة الغرب ورفض فكرة تبعيّة روسيا لأوروبّا. إلاّ أنّ اعتماد مسألة انتماء روسيا إلى أوروبّا حجر الزّاوية في تفكيرهم حول الوجود القومي، أوقع المثقّفين الرّوس في ثنائيّة جوهرانيّة هي ثنائيّة شرق/غرب: هل ما ليس أوروبّا هو بالضرّورة آسيا؟ كيف نفكّر في الآخر دون أن نفكّر مثل الآخر؟ هل تنتمي روسيا إلى الشّرق أم إلى الغرب؟ ولكن أيّ شرق ؟ هل هو شرق الميراث البيزنطي أم شرق الإمبراطوريّة المغوليّة ؟ وهكذا أضحت سرديّة الهويّة في جوهرها مجرّد "محاكاة ومنافسة" (2) لتلك التي ولدت في أوروبّا الغربيّة، وأضحت مصدر إلهام المنظّرين الرّوس رغم شجبهم المتكرّر لها. وقد تغذّت هذه الرّغبة في المحاكاة من الشّعور بالدونيّة إزاء أوروبّا وعدم احترام روسيا من جانب أولئك الذين تعجب بهم.
وبطبيعة الحال، فإنّ المرجعيّة الإمبراطوريّة كانت تحتلّ مكانة مركزيّة في تفكير المثقّفين الرّوس. وبذلك أضحى ممكنا النّظر إلى روسيا باعتبارها دولة أوروبيّة- آسيويّة فريدة من نوعها، فهي قريبة في آن من النّموذج الاستعماري الغربي، ومن إمبراطوريّة آل هابسبورغ متعدّدة الأعراق، ومن الدّولة الأمريكيّة الرّائدة، ولا يمكن إلاّ للمحيطات إيقاف حدودها المتحرّكة. وقد مثّلت العلاقة بين الدّولة والأمّة والإمبراطوريّة منذ القرن السّادس عشر، إحدى العقد المستعصية في التّاريخ الرّوسي، إذ أنّ حدود الدّولة، وهي حدود متحركّة وغير ثابثة طوال قرون، لم تكن متطابقة مع الأمّة الروسيّة كما كانت تتمثّل نفسها. ولم تقم الدّولة القيصريّة حقّا باعتماد إيديولوجيا استعماريّة واضحة المعالم أو ممارسات موحّدة تجاه الشّعوب المقهورة، وهو ما يعزى جزئيّا إلى تعدّد وضعيّات توسّعها الإقليميّ والتنوّع الثّقافي الكبير للشّعوب التي أخضعتها. وقد كان الاتّحاد السوفييتي "إمبراطوريّة" متناقضة، متردّدة بين تأكيد تفوّق الرّوس والتّمييز الإيجابيّ تجاه الأقليّات، في حين تظلّ روسيا المعاصرة، وهي دولة فيدراليّة تجمع أكثر من 80 كيان إداريّ، بنية هشّة. ولعلّ رغبة الدّولة الرّوسيّة المعاصرة في أن تقوم في ذات الوقت باستعادة الماضي الإمبراطوري وتأكيد نفسها دولة قوميّة حديثة، ممّا يؤكّد التوتّرات التي يعاني منها المجتمع الرّوسي اليوم في سبيل تماهيه مع الدّولة.
حضور الثقافويّة وتناسي السياسة:
لقد وفّر "إغراء الشّرق"، الذي تناولته لوران دي مو بالعرض والتّحليل، لمنظرّي القرن التاسع عشر إمكانيّة صياغة هويّة قوميّة من النّاحية الثقافيّة، لكن على أسس اجتماعيّة وسياسيّة واهية أو مطموسة بعناية. إلاّ أنّ الهويّة القوميّة لا يمكن أن تصاغ من خلال مصطلحات ثقافويّة فحسب، فهي في المقام الأوّل بناء سياسي على أساس المواطنة، وهو الموضوع الذي غاب تماما عن المجادلات الروسيّة حول الهويّة باعتبار عدم أيّ صلة له بالمسألة القوميّة في نظر كتّاب ومثقّفي روسيا القرن التّاسع عشر. ويدعو كتاب لوران دي مو إلى التفكير في استمرار هذه النّزعة الثقافويّة خلال الفترة السوفييتيّة، وخصوصا ما بعد السوفييتيّة، لكنّها تحجم عن فتح آفاق البحث بشكل واضح على الواقع المعاصر، ولا تتناول بالتّالي العلاقة بين مسألة تجسّد الهويّة وقضايا المواطنة.
إنّ "الفكرة الروسيّة" ما زالت إلى اليوم تثير جدلا فكريّا كبيرا، موحية بأنّ الثوابت الثقافيّة كافية بذاتها لتوضيح الدّلالات العميقة للأحداث السياسيّة. فالانتماء لأوروبّا أو إلى الشّرق أو لأيّ تركيبة مخصوصة ما زال ينظر إليه بوصفه وسيلة لتفسير التحوّل السياسي للبلد. فالرّوس غير "مهيّئين" بعد للديمقراطيّة، وهم غارقون منذ عدّة قرون في تقاليد ثقافيّة شرقيّة غريبة تماما عن المفاهيم الغربيّة: هذا هو الخطاب المعتمد عند القادة الرّوس الذين يسعون في الواقع، باسم "خصوصيّة ثقافيّة" مزعومة لآسيا، إلى الحفاظ على مصالح خاصّة.
إنّ المجتمع الروسي المعاصر يعاني اضطرابات اجتماعيّة تعبّر عن نفسها تحت شكل نزعة كراهيّة الأجانب، في الوقت الذي ما زالت فيه السلطة السياسيّة متردّدة بشأن إدارة التغيرات الثقافيّة والديموغرافيّة العميقة التي شهدها المجتمع الروسي خلال السنوات الأخيرة، ولا سيّما مسألة "الاختلاط العرقي". والأدهى هو استمرار الخطابات المعلنة في تنظيم الهويّات الجماعيّة على أساس مفاهيم بدائيّة، وإضفاء طابع مؤسّسي على الأعراق، على أمل إظهار الثقافة بمظهر إرث جينيّ. ومن هنا، يتبيّن لنا مدى خطورة التفسير المعاصر للتوتّرات السياسيّة والاجتماعيّة بمصطلحات الصراع الثقافي: فهو يؤدّي إلى كبح ظهور أطر جديدة للاستقراء، وولادة أدوات سياسيّة من شأنها نزع فتيل الخصومات، على نحو ما يؤكّده فشل السياسة الروسيّة في شمال القوقاز. ولعلّ من شأن هذه العناصر جميعا دعوة روسيا الباحثة عن سمات المدنيّة إلى إعادة الاعتبار لفكرة التفاوض، ومشروطيّة الانتماءات، وخلق صيغة جديدة للتّعايش.