[rtl]لهذه المقالة، بنظري، أهمية خاصة لأنها تقوم، وبشكل تركيبي توليفي موفق، ب تحيين المشكلات القديمة-الجديدة التي ترتبط بممارسة العقل لمهامه. ويمكن أن نختزل الشبكة الإشكالية غير المفصح عنها، لهذه المقالة في هذه التساؤلات المعادة المسلم بعضها للبعض الآخر :[/rtl]
[rtl]ما الذي يحدث للعقل عندما ينطلق في حركة سهمية في رحلته لاكتشاف الحقيقة؟ هل ، بقدر ما ينتهي به الأمر إلى اكتشاف "حقيقة" الأشياء ، يجهل ، بالمقابل، ذاته أي يخسرها في شكل ذوبان في تمظهرات الأشياء المادية، أو أنه يعود إلينا بغنيمة الاكتشاف مضاعفا بوعي ذاتي بضرورة التعمق في معرفة ذاته أكثر؟[/rtl]
[rtl]بعبارة أخرى، هل يغترب العقل في دروب رحلته "السندبادية لتعقل " الآخر" أم يعود، كما كان، عند انطلاقته صافي السماء شاحذ الأداة؟ ولأن هذه العودة الغانمة، المغتنية والمغنية هي التي لا تحدث في الغالب، يدعو دوديكيز إلى البحث عن السبب (أو الأسباب)، فيكشفها في ما أسماه بـ أوثان العقل، المهددة، باستمرار، لصفائه وتعاليه، والتي لازمته دوما ملازمة الظل لصاحبه. إن شروط هذا الاكتشاف ومقتضياته الضرورية لاستمرار الفكر الإنساني في فاعليته هي الهاجس الذي يسكن هذه المقالة من أولها إلى آخرها. إنها محاولة في تاريخية العقل ونقائضه، هدفها المعلن " إعادة الاعتبار لتعالي العقل التأملي الفلسفي ونفخ الحياة في لغز الوجود"[/rtl]
[rtl]ولهذا الغرض، يعود بنا إلى بعض الأوليات الضرورية فيذكرنا بالمعاني الأولى لبعض الاصطلاحات كالعقل والفلسفة والتفكير. المفروض أن تكون الفلسفة على الطرف الآخر للاهوت، لأن هدفها هو معرفة الحقيقة من خلال فهم للواقع وتملكه. أداتـها في هذا البحث عن الحقيقة هو هذا الذي نسميه عقلا. هـذا الذي يسترشد ببوصلة الحدس . لكن ماذا نعني بالعقل؟ إنه "قدرة الفكر البشري على ملاحظة ومعرفة الأحداث بشرية كانت أو طبيعية في ماضيها أو حاضرها والقدرة، بعد ذلك، على التنبؤ بـها". إذا كان يلاحظ ليعرف ويعرف لكي يكون قادرا على التنبؤ، فمعنى هذا أنه ينطلق، منذ البدء، من الجهل.[/rtl]
[rtl]ولأن العقل يبحث عن الحقيقة انطلاقا من إقرار مسبق بالجهل كقاعدة عامة فإنه لا يتبنى ولا يزكي الأجوبة المعطاة، الجاهزة وهو ما يعني أن طريق العقل، على الأقل ضمن صيرورته الغربية، كانت طريقا لا دينية ذلك لأن اللاهوت يقفل ملف الحقيقة هذا بتنبيه لـ "حقائق منـزلة". إلا أننا سوف نرى أن ما كان عناصر مميزة للعقل سوف تنتهي له، بدوره، إلى نوع من اللاهوت.[/rtl]
[rtl]فاعتماده، في العصر الإغريقي ، على مقولات المبادئ والعلل والماهية، سوف يجعله يعتقد، واهما، أنه بصدد إرساء أسس علم للفهم الخالص سوف يعمد، بعد ذلك بمصطلح النظرية. إن المقولات التي اعتمدها العقل، في بداياته، هي ذات طبيعة جوانية، بمعنى أنـها تتموقع، على الطرف الآخر، لما هو اختباري، باعتبارها "معرفة أسمى" الـهية الطابع واعتبار ما هو "اختباري" معرفة أقل سموا أي بشرية أساسا. نحن، إذن، في كل الفلسفة الإغريقية، بصدد لاهوت متخف.[/rtl]
[rtl]إذا كان العقل قد سيّج نفسه داخل مقولات جوانية حولته إخراجا مختلفا فقط للاهوت متأصل في الممارسة العقلية للإنسان، فهلاّ وجدناه مطلق السّراح في موضع آخر، ولم لا يكون هذا الموضع هو التفكير؟ لكن ماذا نعني به؟[/rtl]
[rtl]إنه "قدرة الفكر على المزاوجة بين ملاحظة سلوكاته الذاتية" وسلوكات" الموضوعات الخارجية" السلوكات الذاتية للعقل هي عاداته وأعرافه أي، بكلمة، آليات اشتغاله. لكن لمعرفة هذه السلوكات لا بد من الإحاطة علما بصيرورة تطورها ، وهو ما دفع إلى نشوء الجينيالوجيا (علم نسابة الفكر البشري). الوصول إلى هذه المرحلة من تملي العقل لنفسه مشروط بشرطين :[/rtl]
[rtl]- أحدهما ديكارتي : القدرة على إصدار " أحكام جازمة" بعد تطهر العقل من كل معايير التحقق من الحقيقي السابقة، في وجودها، على ممارسة الذات للكوجيطو.[/rtl]
[rtl]- ثانيهما كانطي : تطهر العقل من كل الأحكام اللانقدية حتى يكون أهلا لولوج "مصدر العقل" نفسه.[/rtl]
[rtl]وإذا كان هذا هكذا، فليس بوسع الفكر الديني، مثلا، الذي هو "أسير مقولاته اللاهوتية" أن ينتج عقلا يتوفر فيه هذان الشرطان، بل ولن يكون بوسع الفلسفة التي لم تتخلص بعد من " إيمانها العقلاني" أن تقوم بذات الشيء. غالبا وعندما يتساءل العقل عن مصدره، فإنه يتمثل جوابين :[/rtl]
[rtl]- جواب فطري : العقل من الفطرة أو هو الفطرة ذاتـها؛[/rtl]
[rtl]- جواب إمبريقي : العقل مستخلص من دروس التجربة (صيغة : العقل صفحة بيضاء الأثيرة).[/rtl]
[rtl]وبمقتضى هذين الجوابين ظلت المعرفة العقلانية تتأرجح بين الواقع والأسطورة النظرية وهو ما ترتب عنه استحالة الحسم في شأن هذا التأرجح ومن ثمة، حصل الإنتقال إلى مواجهة شكل آخر من الإشكال، إنه التفكير في إضفاء معنى ما على هذه الازدواجية في المصدر المفترض للعقل. وهنا، بالضبط، تدخلت الفلسفة ولازالت مدعوة للتدخل بحسبانها علما إعداديا تمد صاحبها بأداة اسمها النقد بحسبانها "كاتارسيس" أي تطهيرا لا يكف للفهم. هي إذن وستظل تخصصا معرفيا اسمه التفكير. التفكير الذي لا يستثني العقل. هي إذن تفكير بالعقل وفي العقل.[/rtl]
[rtl]يبدو أن "محاورة جورجياس" دشنت ( بفصلها بين المعتقد والعلم وتمييزها بين نمطي الإقناع المتمخض عنهما)؛ هذه المهمة التي يتعين على الفكر القيام بها، بشكل مسترسل ، تجاه نفسه تحت طائلة تحويل العقلاني إلى اعتقادي ومن ثم إلى "أدلوجة - فكرة" كما حصل في أنساق فلسفية لاحقة.[/rtl]
[rtl]يتعين على الفلسفة اليوم ودائما ، للحفاظ على استقلالية الفكر بداخلها، أن تتوسع في هذا الفصل السقراطي وتخصبه على ضوء ما يستجد في العلاقة التفاعلية (الذي قد تنـزلق إلى تثاقفية) بين العقل العلمي والعقل بإطلاق (الفكر)، وسوف نرى كيف أن عملا منظما كهذا سيدفع بنا، بادئ بدء، إلى "إعادة نظر" ضرورية في بعض مقولاتنا الذهنية، وفي القلب منها مقولة الفهم، الذي كان الإرث الفلسفي الإغريقي يرى بأنها تنتصب علما قائما بذاته بمجرد حيازتنا لتلك المقولات الجوانية التي هي العلة، المبدأ والماهية.[/rtl]
[rtl]إلا أن التشويه الكبير اللاحق في الزمان والذي طال هذه المقولة كان قد حصل في أوج فتوحات العقل في مجالات العلوم المختلفة. إذ حصلت عملية اختزال مخلة للفهم البشري في ضبط القوانين العلمية الخرساء وصوغها بمعادلات، وهو ما أفضى إلى إفقار له بحسبانه يخيل ، على وجه الحصر، على ما هو قابل للفهم بفضل العلم.[/rtl]
[rtl]غالى الفكر البشري عندما رفع التواترات التي عاينها وفي نظام اشتغال الحوادث، إلى درجة القوانين الصارمة والتي لا تعرف أي مرونة أو سيولة طريقا إليها. وكان أن ترتب عن ذلك ، ترتب لزوم، اختزال أكثر إخلالا للمعني في عقل ومنطق متحدرين،أصلا، من فهم مهيض، مفقر ومدعي في ذات الوقت. إن مسلمة قابلية كل شيء للفهم، وبالأدوات التي يوفرها العلم المزهو المنتصر على وجه التحديد والحصر ،معناه الانزلاق إلى ما هو أشد ادعائية ألا وهو قابلية كل شيء للتفسير الذي لن يقبل إلا بالوجهة الواحدة وبالأحادية المركزية.[/rtl]
[rtl]مرة أخرى، وجب على الفلسفة أن تتدخل ، كما يجب عليها اليوم وبعده، لفضح هذه التبسيطات المتلاحقة ولن يكون ذلك إلا بأن تجعل على رأس جدول اهتماماتها الفكرية إعادة تفكير لا تفتأ تتجدد وتتخصب في معنى المعنى الذي قد يكون من شأن الحقيقة أن تكتسيه.[/rtl]
[rtl]ذلك أن فهما حقيقيا بلا شيء، خلافا للمزعم العقلاني، ربيب علموية توسعية وهيمنية، لا يتحقق إلا إذا كان على بينة من شيئين :[/rtl]
[rtl]1. الحافز المحرك للشيء قيد الدرس؛[/rtl]
[rtl]2. الغاية التي يرمي إليها من خلال تلك الحركة المحفزة (علم الغايات).[/rtl]
[rtl]إن فهما كهذا وحده هو القمين بإعطاء تفسيرات تربط الحافز بالعناية مستخلصة منهما القوة الاقناعية المفسرة (انظر مثال هايزنبرغ عن الطائرة المحلقة) وبدونه، يكون الانتقال متسرعا، ادعائيا وساذجا، من تحصيل فهم كسيح ومنقوص إلى ادعاء تفسير لا وجود له إلا لادعاء تفسير، وهو ما يقره أغلب علماء الفيزياء الذرية الذين "فهموا"، جيدا، حجم الدرس الذي يجب استخلاصه من التحول النوعي لموضوع بحثهم من المادة إلى الطاقة.[/rtl]
[rtl]إن فعل الخلخلة الشاملة هذه التي يستدعيها عمل يهدف إلى كشف لأوثان العقل وهدمها كأية أوثان تتحول إلى أداة استلاب للإنسان، يدفع بنا، حتما، وعلى نفس الخط، إلى إعادة صياغة لبعض المصطلحات التي أمست ذات سلطة فيتيشية في الحقل الدلالي المعرفي، وفي مقدمتها مصطلح القانون الذي لن "يفهم" بهذا السياق إلا كتواتر وانتظام ورتابة وتكرار: إن الطابع التقنيني الثاوي في القانون العلمي يحيل، بحد ذاته، على عوالم دلالية ميتا-علمية تجعل منه في الظاهر ما لا يلبيه ويشبعه في الخفاء ، ونقصد الترتيب المعقول، القواعد الثابتة، الطمأنة السيكولوجية (نوع من بديل للمكتوب الخرافي والأسطوري ) مضبوطة لا تزيغ عن مدار حركتها ولن تزيع ولن تختلف.. لا يجب، بالأخص، أن يغرب عن البال أن لمقولة القانون العلمي طابعا مغالطا مانحا لإيمان فكري هو نيو-أسطوري في جوهره وهو ما أكده كل من (ليفي برول) و (فاليري). هذا الطابع المغالطي لإيمان متقنع جديد هو الذي استحث، في الأصل ، ظهور الإرهاصات الأولى لأنثروبولوجيا نقدية كانطية مع معادلـها النيتشوي سيكولوجيا معرفية، وهما، كلاهما ، ضربان متجانسان لغرض واحد هو ممارسة، في بداياتـها، لعلم نفس تحليلي لسلطة الإقناع الفكري.[/rtl]
[rtl]إن الطابع المغالط لهذا الإيمان المتقنع الجديد عبر عنه (دوديكيز) نفسه في بعبارة بليغة وتصويرية عندما نسب إليه فعلة تحويل الطبيعة إلى نظرية معلنا بذلك موت الأولى بولادة الثانية لتنتفض الطبيعة في هيئة نظرية (على طريق تناسخ أرواح هندية). هذه النظرية التي ستكون بمثابة "رغيف فكري" يقتات منها العقل ويعيش عالة عليه..[/rtl]
[rtl]يتحول الفكر بالمقابل، وتحت مفعول هذا الطابع المغالط للعقل العلمي ومصطلحات القانوناوية، إلى مذبح-معبد تجري بداخله عملية تحويل دائبة للطبيعة إلى فكرة-نظرية ويتحول رجل التجربة إلى قس جديد يمارس تقربات إلى العقل- الإله بقرابين السببية، الحتمية، العلل والقوانين وفي حركة دائرية، يجازيه الكوسموس جزاءا وفاقا بكلمات يراد لهـا أن تحمل معنى نسميها : "نظريات"![/rtl]
[rtl]جسدت الهيغيلية الثمرة الخالصة لـهذا الأوج الذي بلغه هذا التحالف المقدس بين العلم ولوغوس مؤمثل. فقد استخلصت كل المترتبات، إلى حد الاستنفاذ الناتجة "منطقيا" عن تحويل النظرية: الابن "الشرعي" لـهذا الزواج الكاثوليكي، إلى إنجيل الفكرة حيث علينا أن نتهجى الأفكار..[/rtl]
[rtl]إن الطابع الغنوصي في هذه الزيجة الكاثوليكية ظاهر جلي. فالنظرية إن هي - لمن يبحث عن غنوصات جديدة - إلا غنوصا للعصور الحديثة التي يفترض فيها تجلية أفعال وحركات اللوغوس. وها هنا، بالضبط، عندما تكثف الفكر البشري في لوغوس النظرية- الغنوص الجديد، بدأنا نرى في النظرية وثنا خرج من عباءة العلم - اللاوثني بامتياز، وثن يقوم بذات الوظائف السيكولوجية التي كان الإيمان السحري - الديني بفطرة متخفية في الكائن قبل انولاده أو مبادئ عقلية أولى (الشعور بالبداهة الديكارتي مثلا…) يتولى القيام بـها.[/rtl]
[rtl]انساق العقل إذن وراء هذه اللعبة التي كلفته خسران حريته وانقلب إلى غنوصية جديدة ، لكن مع هذا الانسياق ، وبسببه، غدت مهمة الفكر، الذي هو أداة التفكير الحرة، هي الشروع في " إزالة الأقنعة" التي تتحين الفرص للهجرة من قارة المعتقد إلى قارة العقل.[/rtl]
[rtl]انتهى العقل المبهور، الخادم الطيع هذا إلى خلق مثل جديدة ليست سوى أفكار صعدت إلى درجة المثال، أمثلت ونحتت منها طوطمات جديدة للإنسان : إنها الطوطمات الذهنية. واعتمد في كل هذا على ثقته العمياء بمقولات النظرية وأدواتـها التي ليست، في واقع الأمر، إلا توتولوجيات متخفية.[/rtl]
[rtl]لكن يجب أن نسجل بأن قصة تأرجح العقل هذه بين النظرية والتجربة، بين الأسطورة والواقع ترقى إلى العهد الإغريقي حتى لا نقول إلى عهود أغبر نظرا لتواضع معارفنا عن "العقول" الأخرى، معطى واشتغالا وحتى امتداد في الزمن الحاضر.[/rtl]
[rtl]وفي كل مرة حاول فيها، ومنذ ذلك العهد، استبدال أساطير لا عقلانية مفسرة للأشياء بعقلانية محض، إلا وأتى، متببضعا، بتفاسير لا تقل أسطرة، وإن كانت تتاخم أكثر المعقول الذهني أو العقلي. فقد كان يعتقد، مثلا، في خضم إرسائه لنظريات كونية بوجود خبير ممتاز " على رأس هرمها المهندس الأول : الإله، وكان يعتقد بوجود علية لها قوة تفسيرية قديرة ، لكن يعجز، في كل مرة، عن توصيف هذه العلة كما هي في واقعها الفينومينولوجي. فما كان يرى فيه (هارفي) علية حيوية كان يرى فيه (ديكارت) علية مكانيكية. والحال أن كليهما ليس بأعجز من الآخر عن تعريف العلة أو ما يسميانه كذلك.[/rtl]
[rtl]كانت هناك إذن ثغرات بالغة داخل العلم يتسرب منها المعتقد متنكرا فيأخذ، بعدها، شكل نظرية ذات القول الفصل. إن مفهوم "العلل" في العلم الكلاسيكي لا يبتعد كثيرا عن مفهوم المعقولات في النسق الفلسفي الأفلاطوني ولا عن العلية الرباعية الأبعاد في النسق الأرسطي وغير ذلك كثير..[/rtl]
[rtl]لا مناص، بعد كل هذا، من جهد فلسفي يتغيا تخليص المشهد الفكري من هذه الوثنيات المتوارثة منها أو المنبعثة من رمادها الفينيقي، أو على الأقل الوعي بكونها كذلك. جهد يستلهم العمل التدشيني الهائل لكل من (أبيلار) و (أوكام) : الأول بتحريره الفكر من الأساطير المتسربة إليه من أوثان اللغة، والثاني بانتصاره الساحق على السكولائية وتعبيده السبيل لحركة الإصلاح والنهضة.[/rtl]
[rtl]إن المساعي النظرية التدشينية لأبيلار وأوكام تندرج، في المبدأ، ضمن هذه الحاجة الضاغطة للفكر إلى استكشاف متسارع الخطى لعالم الذاتية باعتباره اكتشافا لـ"جرعات" المعتقد التي تختلط في العقل، بشكل خلاسي، بالنتاج الفكري الحر، المتيقط والمحاذر كما تندرج ضمنها مساع نظرية خلاقة أخرى لكل من (كانط، مونتاني، نيتشه).[/rtl]
[rtl]هي حساسية إبستمولوجية قابلة للتجديد انطلقت منذ (أبيلار) وعبرت عن نفسها بزهو باذخ مع (نيتشه) وتحققت ، بدرجات متفاوتة، مع (مونتاني) و (كانط)، حمل الفكر الحر المُحاذر عبرها مشعلا تحلق حوله كل الغيورين على استقلالية التفكير تجاه كل صداءات العادة وإغواءات الترسانة المفاهيمية العلموية المتبخترة؛ فلم يعد " وهو بحديقة الكلمة مسترخيا مخدرا واهما بأنه بحديقة طبيعة، السيدُ فيها هو فهم خلقه الله خلقا".[/rtl]
[rtl]لكن ما عساها تكون الانعكاسات الأساسية لتحقق هذا المشروع على مستويات عدة مشكلة، في مجملها، لمشهدنا الفكري؟[/rtl]
[rtl]على مستوى الوضع الإعتباري للعلم، نجد أنه كان دائما مرتهنا بثابت أساس متمثل في إعطاء الأسبقية لـ "حقوق التجربة" على "حقوق النظرية". وهو " منطقي" في ذلك لكونه يدين ل "العقل التجريبي" في غالب كشوفاته وفتوحاته الباهرة، دينا قاده إلى تلك النقطة القصية التي حملته على أن يجعل من "النزعة الإختبارية" وانعكاسها "الأدلوجي":الوضعانية، إنجيلا فكريا له. ومما يثير هنا أن العلوم، على امتداد تطورها وكشوفاتـها النوعية، لم ترضخ إلا لماما لقواعد المنطق البشري منذ الصياغة الأرسطية المعروفة لها (بالأخص مبدأ الهوية وعدم التناقض)، ولم تخرج إلى الوجود الصياغة الفيزيائية لقانون العطالة إلا بعد ارتداد عن مفهوم الحركة بمعناها الأرسطي والذي كان، بحد ذاته، متمفصلا مع بداهة الفكر والمنطق البشريين. فكما لو أنه قيض للعلم ألا يتطور ويغزو " أراضي بكرا" إلا بعد أن يكون قد " تطهر" من كل ما يتراءى متطابقا مع بداهات الفكر البشري متجاوزا لها نحو نقائضها ![/rtl]
[rtl]ليس منتظرا من العلم، باعتبار ارتهانه لوضعه الإعتباري الذي قوامه خلخلة المنطق التقليدي للفهم البشري وتسويده للتجربة والإعلاء من شأنـها إلى نزعة بقفاها الأدلوجي الوضعاني، أن يساهم، وهو على هذا الوضع، في ما نتوخاه من تحرير راهن للعقل من سطوة أوثانه المتربصة به بغية تنميطه وجعله تحت طلب ميثولوجيا جديدة متزيية، بلبوس الحجةالاقناعية المفحمة : التجربة الحاسمة. إلا أن تلك هي مهمة العقل الحر: عقل التفكير الفلسفي الذي لا يتخصب ولا يغتني وتتجدد بشرايينه الدماء إلا بمقدار انفتاحه على ذلك "الجهل السقراطي" و" اللغز الأبدي" الذي يلف الشرط الإنساني والذي ما فات التنبيه إليه كبار العقول التي لا تستسلم، بسهولة، أمام إغواءات الطوطمات الذهنية. فكلما كان الفكر مهددا بأنساق متكلسة لنزعات مدرسية على اختلافها (علموية، سكولائية، لاهوتية..) إلا ويبحث لنفسه عن منافذ ومتنفسات، نوع من المجالات الحيوية" فيجدها، أول ما يجدها ، في الآداب والفنون .[/rtl]
[rtl]وكم هو دال أن الغليان الفكري والتلقائية الخلاقة التي كانت مصدرا لنتاج فكري ثر بالجامعة الفرنسية صاحبهما وجوب توفر أساتذة بجامعة السوربون الشهيرة على لقب "أستاذ في الفنون" قبل توفرهم على لقب " أستاذ في اللاهوت"، وهو ما دام واستمر حتى بدايات العصر الوسيط التي تلاها " انقلاب دوغمائي" للنزعة العقلانية الضيقة الأفق بإحكام فصيلة "السوربونارديين" الخناق على الجامعة.[/rtl]
[rtl]بالمثل، فإمكان مشروع نقد الأوثان المتربصة بالعقل وانطلاقته الفكرية أن يضعنا، وجها لوجه، أمام نمط من "سيكولوجيا تجريبية" تكشف الوظائف اللاشعورية للأوثان إياها بالنسبة لصاحبها ومتعهدها. ففيها يجد صورته مؤمثلة عابدا لها متعبدا بـها ويحيطها بقداسات، فيجد بـها ما افتقده من "إيمان ديني في هيئة" إيمان عقلاني، وهو ما لم يفت (جاك لاك) عندما تحدث في نظريته حول "مرحلة المرآة" عن "أنا ذهني" أو "مثالي" يجده إنسان العقل العلموي في منتوجاته ومقولاته المعرفية الأوثانية.[/rtl]
[rtl]لم تسلم السياسة من الانعاكاسات الطحلبية لأنا مثيل. اتخذت شكل التنظير للدولة الكليانية : بنت الفكرة المطلقة واصطبغت بتلوينات عدة منذ (أفلاطون) مرورا (بهيغل) وصولا إلى (لينين) و(روبسبيير) تلك الدولة - الأدلوجة، المحققة المزعومة لـ" العقل في التاريخ" والمجسدة المزهوة لـ "إرادة اللاهوت".[/rtl]
[rtl]إن نقدا للأوثان الجديدة للعقل لا يعري، فقط، تَخَفِّي "حاجات سيكولوجية، غير مفصح عنها" تشبعها وتلبيها عند صانعيها ومتعهديها بل هو مرشح ليكون النقد الفكري الجذري الأكثر جدية لنسيخها السياسي المنتصب في هيئة -الدولة - الفكرة كما نظر لها كثيرون من واضعي أنساق فلسفية تنحو منحى الشمولية والانغلاق على نفسها وتختزل الخصوبة والتعقد في جفاف الفكرة المبسطة الأحادية الجانب وفي البساطة المقترة الساذجة لتفسيرات مفقرة تنتهي إلى الدوران على محورها والاقتيات من لحمها"[/rtl]
[rtl]ما سلف ، يدفع إلى الحديث عن الضرورة القصوى لأنثربولوجيا نقدية تصلنا بتراث فلسفي كانطي، نيتشوي كان له السبق في صوغ بعض من ملامحها. ففي سياق هذه "السياسة الوقائية" ضد أوثان العقل المتربصة بطلاقة الفكر، لا مناص من الأنثربولوجيا إياها، أنثربولوجيا تكون مهمتها هي ضمان "دوران معارفنا النظرية والعلمية[/rtl]
[rtl]حول قواعد بداهات منطق الفكر البشري تماما، كذلك الدوران الكوسمولوجي للشمس حول الأرض كفرضية كانطية معكوسة لدوران الأرض حول الشمس.[/rtl]
[rtl]الدوران إياه إن هو إلا تعبير مجازي عن تأكيد ضرورة استمرار التفاعل والتجاذب الخلاق بين القانون العلمي وطابعه التقنيني والضرورات الحياتية المرتبطة بمعيشاتنا (جمع معيش). تفاعل، وتجاذب هو بمثابة ممارسة دؤوبة لرياضة النـزول، من حين لآخر، نحو "هاوية أو مهاوي ذاتيات العقل" من خلال فعل تعال متجدد لبحث فلسفي يعبر عن نفسه من خلال إناسة نقدية. سوف يكون الشغل الشاغل للإناسة إياها هو محاصرة العقل الوثوقي المسئول الأول عن إنجاب أشكال شتى من الأوثان الذهنية ذات الانزلاقات الأدلوجية - السياسية، وتلك مهمتها السالبة. أما مهمتها الإيجابية فهي رفد علوم الإنسان وتلقيحها بما راكمته من خبرة من "شغلها الشاغل" ذاك.[/rtl]
[rtl]بوسع مشروع النقد إياه كذلك أن ينفخ الحياة مجددا، خلافا لما قد يظن، في أشكال مختلفة من "عودات المقدس". فالبروتستانتية، مثلا، كحركة إصلاحية مقوضة، على طريقتها، لأوثان لاهوتية طاغية، مدينة في ظهورها لعمل نقدي مثيل قام به الاسميون من خلال ثورتهم اللغوية. وفي عودات المقدس التي ليس لنا إلا أننحتفي بها من هذا المنظور ، عودة لأشكال مستديمة من اللغز المحيط بالوضع الإنساني وإعادة اعتبار لتعالي "العقل التأملي" :صمام الأمان من كل "انزلاقات إغوائية".[/rtl]
[rtl]وبموازاة مع ذلك الوضع الاعتباري السالف الذي له ثابته أو ثوابته التي تتحدد بها هويته المفترضة على المقاس، لابد، في شكل من الموازنة، من وضع اعتباري جديد للفلسفة : حاضنة الفكر الحر.[/rtl]
[rtl]هذا الوضع الاعتباري الذي يتعين عليه أن يسند للفلسفة مهمة بالغة الخطورة ألا وهي نقد لاشعور العقل. النقد هنا بمعناه الإغريقي الأصيل أي كاتارسيس : عملية تطهير مستمرة للروح من أدرانه وللفكر من ركاماته. وأول ما يشرطه هذا النقد وتلك المساءلة للاشعور العقل إعادة صياغة مستمرة لإشكالية الحقيقة في الفلسفة بتسليط الأضواء، أضواء المعرفة - على شاكلة ديدن - على مقادير المعتقد المتسللة إلى لغتنا الفلسفية. سوف يكون السؤال المركزي لإشكالية الحقيقة والذي يمكن أن تتفرع عنه، باستمرار ، صيغ تساؤلية أخرى.[/rtl]
[rtl]عم نبحث في بحثنا عن الحقيقة: أعن الواقع الفعلي للأشياء أم عن قابليتها للفهم؟[/rtl]
[rtl]ضمن منظور مثيل، لا يمكن للفلسفة إلا أن تستعيد وتعيد إلى الإنسان فضائلها الأولى التي ليست قابلة للتجاوز وبالذات في هذه المرحلة من تطور العقل البشري الموسوم بتربصات تطاله من كل جانب كما رأينا. وسوف تجعل من أهدافها تلك التي كان "البادئون الكبار" (الفلاسفة الرواد)، بعبارة (هوسرل)، قد وضعوها، دائما، نصب أعينهم:[/rtl]
[rtl]نقد الجهل المكابر: الجهل الذي يجهل جهله ويدعي معرفة،[/rtl]
[rtl]التمرس على ممارسة الاستئناس: أي الدخول الدائم إلى بداية كل بداية،[/rtl]
[rtl]جعل التواضع الفكري والشك المعرفي قيمة معرفية لا يعلى عليها.[/rtl]
[rtl]والسعي الدؤوب نحو هذه الغايات هو السبيل الأمثل لتعميق معارفنا بالأشياء، بذواتنا، وبالأفكار.[/rtl]
[rtl]------------[/rtl]
[rtl]نص المقالة المترجمة[/rtl]
[rtl]I - عقل وفلسفة :[/rtl]
[rtl]كانت الفلسفة الكلاسيكية تطرح، تقليديا، ثلاثة أسئلة أساسية. في المتافيزيقا أو "الفلسفة الأولى" كانت تتساءل السؤال الآتي: ما هو الواقع الأصلي : المادة، الحياة أو الروح؟ في الإتيقا ( مبحث الأخلاق)، كانت تتساءل عن ماهية القيم. إلا أن هذين السؤالين كانا يتوقفان، كلية، على السؤال الثالث الذي ينصب على التساؤل عن مصداقية المعرفة. فهل بمقدور الفكر الإنساني معرفة الحقيقة بمعنى امتلاك الواقع وفهمه؟[/rtl]
[rtl]عكس اللاهوت الذي كان يعتقد في حقائق منزلة، فإن الفلسفة، بمعناها الصرف أو على الأقل تلك التي ظهرت إلى الوجود مع الإغريق وطبعها الغرب بدمغة النقد، توكل للفكر البشري مهمة البحث عن الحقيقة. إذا نحن أقررنا بـهذه المسلمة نكون قد سلمنا معها بأن أداة الفلسفة ، في بحثها هذا،هو العقل الذي يأخذ الحدس بيده.(1)[/rtl]
[rtl]نقصد بالعقل، بشكل خاص، قدرة الفكر على ملاحظة ومعرفة الأحداث البشرية أو الطبيعة كما هي وقعت، بالفعل ، في الماضي أو كما هي تقع، فعلا، في الحاضر وقوعا يسمح لنا ببلورة الثوابت المتحكمة فيها والناظمة لها، ويجعلها، من ثمة، قابلة للتنبؤ. يلاحظ العقل، على سبيل المثال، كيف ظهر الإنسان على وجه الأرض عبر سيرورة تطورية بطيئة أو مفاجآت مباغتة. ينطلق العقل، إذن وبالضرورة، من الجهل لكونه يفترض أن الأجوبة المعطاة، سلفا، هي أجوبة خاطئة. ولأن هذه الأخيرة هي أساس كل الأساطير التي وجدت منذ غابر الأزمان، فإن العقل، يبدأ أول ما يبدأ، بالتشكك في الوقائع التي ترويها هذه الأساطير. يترتب عن هذا الذي قلناه أن العقل نهج، ومنذ قرون وبشكل لا محيد عنه، طريقا لادينية في الغرب. كان يتم تصينفه، أيضا، على أنه بروميثوسي أوفوستي(2)، كما فعل ذلك (شبينغلر).[/rtl]
[rtl]تسلح العقل، بمعناه الغربي في بادئ الأمر، بمقولات نظرية كالعلة والمبدأ التي كان أول من صاغها هم الفيثاغوريون وعمل (أرسطو)، من بعدهم، على اختزالها إلى العدد أربعة(3). إلا أنه كان ينظر إلى هذه الأسباب والمبادئ كمقولات جوانية ومن ثـمة، فهي مفصولة عن المعرفة الاختبارية والحسية. يقول (أرسطو) بـهذا الصدد : "ليس امتلاك المهارات هو الذي يجعل الزعماء ( أو القادة) أكثر معرفة من غيرهم بل وامتلاكهم للنظرية وإحاطتهم علما بالعلل"، ويتابع قائلا : "إن أهل التجربة يعرفون ، فقط، أن شيئا كائن لكنهم لا يعرفون لِمَ هو كائن؟ "(4).[/rtl]
[rtl]إن التبخيس من شأن الحواس التي "لا تقول لِمَ شيء ما هو كذا وليس كذا، مثلا: لم النار حارة، بل تكتفي بمعاينة كونها حارة" ، أقول إن هذا التبخيس يجعل من المعرفة النظرية التي تحصل من خلال البحث في العلل والمبادئ علما خاصا بالفهم الخالص. فوق ذلك، بما أن المعرفة بعلة شيء ومبدئه يسمح لصاحبها بممارسة التعميم وإنتاج معرفة ذات طابع كوني (معرفة كونية)، فإن المعرفة الفلسفية القائمة على هاتين المقولتين (علة - مبدأ) تتبدى، بفعل قوتـها، كمعرفة شبه إلـهية. كان (أرسطو) يعلن، بـهذا الصدد، بأن الفلسفة هي "أكثر من معرفة بشرية"، ويضيف : "إن الله أو لنقل، على الأقل، الإله هو الذي بمقدوره، بالدرجة الأولى، امتلاكها"، وفي لهجة أكثر تواضعا يردف: " إن ذاك الذي كان السباق إلى العثور على معرفة خالية من الحواس المشتركة لهو قادر على إثارة إعجاب الناس به"(5).[/rtl]
السبت أبريل 22, 2017 7:42 pm من طرف ساحة الحرية