هذه
ترجمة لمحاضرة الدكتور فتحي بن سلامة أستاذ علم النفس وعميد وحدة البحث
والتكوين في العلوم الإنسانية العياديّة بجامعة باريس ديدرو. المحاضرة
بعنوان "الإسلام في ضوء التحليل النفسي"، وألقيت باللغة الفرنسيّة خلال
مؤتمر "قوّة التوحيد. التحليل النفسي والأديان" الذي انعقد بمتحف سيغموند
فرويد بفيينا أيّام 29-21 أكتوبر 2009.
. حين بدا لي في منتصف الثمانينات أنّه من الضروري مناقشة الإسلام من
منظور تحليلنفسي، لم يكن يوجد ما يوحي بأنّ هذه المهمّة سوف تفرض نفسها
عليّ، إذ كان وجود الإسلام آنذاك شبحيّاً في أدبيّات التحليل النفسي.
وأقول "شبحيّاً"، لأنّ ظهوره كان عَرَضيّاً وبوصفه عنصراً غائباً في أعمال
اختصاصنا المكرَّسة للدّين عموماً وبشكل أكثر تحديداً للدّيانات
التوحيديّة. بل إنّ هذا المفهوم كان أيضا مختَزلاً عمليّاً، في الغالب
الأعمّ من تلك الأعمال، في اليهوديّة وفي المسيحيّة. وبذلك كنتُ أشعر في
ذلك الوقت، بأنّني بصدد التطفّل على الفضاء المألوف لليهوديّة المسيحيّة،
إن لم يكن بالأحرى فضاءها العائلي، وكأنّني إسماعيل، الذي يعود بعد أن تمّ
التخلّي عنه في صحراء الذاكرة، ليطرح مسألة الأب وميراثه.
وإذا كان صحيحاً أنّ صورة إسماعيل كانت بوّابة عبوري نحو طرح مسألة
الأب في العلاقة بين الإسلام والديانتين التوحيديّتين الأخريين، من خلال
إعادة قراءة قصّة هاجر في سفر التكوين [1]، فإنّ ذلك يعود إلى أنّ موضوعة
الابن المقصيّ الموجودة في أصل الديانات التوحيديّة، ظلّت نشطة بطرائق
مختلفة عبر التاريخ. وخطاب القدّيس بولس في رسالته إلى أهل "غلاطيّة"، حيث
يقابل بين ابن الجسد وابن الروح [2]، ما لايزال يفعل فعله حتّى اليوم في
العلاقات بين الغرب اليهودي المسيحي والإسلام، وبطريقة مؤلمة، حتّى في
الأعمال المعرفيّة المعاصرة. ومن وجهة النظر هذه، توجد ديمومة عجيبة لبنية
نزاع الأصول وللضّغائن بين الديانات التوحيديّة، وهي ضغائن غير غريبة على
ما نسمّيه هنا "قوّة التوحيد". فما تكنّه هذه الديانات الثلاث، التي
يُفترض أنّها تعبد نفس الإله، من كراهيّة تجاه بعضها بعض، هي بنيويّة؛
ولذلك، فهي لا تفاجئنا. ورغم أنّه يتمّ إخفاء تلك الكراهيّة، بشكل عامّ،
بالدّعوة لإله محبّة وسلام، ومن خلال دعوات مصالحة، وهي دعوات ولئن كانت
قطعاً ضروريّة، إلاّ أنّها تبقى دون تأثير حقيقيّ، ما لم تُعقل يتمّ
التفكير في الكراهيّة الأصليّة. وفي الواقع، ينبغي لنا أن نتحدّث عن
"كراهيّات" لا عن كراهيّة واحدة، لأنّها تختلف في طبيعتها بحسب نظرتنا،
إمّا بمنظور التشابك المسيحي اليهودي، أو التلاصق الإسلامي اليهودي، أو
التقاطعات الإسلاميّة المسيحيّة حيث تطلّ علينا بين الحين والآخر الإشارة
إلى الحروب الصليبيّة في نشرات الأخبار. وتظلّ الحقيقة أنّ المحلّلين
النفسيّين يَرِثُون أيضاً، طوعاً أو كرهاً، بعض تلك الخلافات، وإلى حدّ ما
التعارض الذي سطّره القدّيس بولس بين الروح والجسد. بل ويبدو لي أنّ فرويد
نفسه لم يكن في مأمن من هذا الأمر، وإن كان ذلك على طريقته، حين وصل إلى
تناول مسألة الإسلام. وهذا ما سأعود إليه بعد قليل.
وإذا كنت اتّخذت، في مشروعي المتمثّل في إدخال الإسلام في المقاربة
التحليلنفسيّة للدّين وللتّوحيد، من مسألة الأب مدخلاً إلى ذلك – وهي
مسألة لا حاجة لنا للقول بأنّها أساسيّة سواء في التحليل النفسي أو في
التوحيد أو في ما بينهما من أصداء -، فما ذلك إلاّ لأنّ فرويد نفسه تناول
الإسلام من هذه الزاوية في إحدى المناسبات القليلة التي تحدّث فيها عنه.
إنّها تلك الفقرة القصيرة الواردة في كتاب موسى والتوحيد[3]، ولكنّها فقرة
مثقلة بافتراض صِيغَ على عَجَلٍ ولم يُطرح قطّ، على حدّ علمي، كموضوع
لنقاش جادّ من قبل المحلّلين النفسيّين باللّغة الفرنسيّة. ومن نافلة
القول الإشارة إلى أنّ ذكر الإسلام هذا قد جاء في الفصل الفرعي المتعلّق
بالصعوبات، وأنّ فرويد اعتذر فيه عن محدوديّة معلوماته عن الإسلام، قبل أن
يسارع إلى استبعاده من مجال دراسته. ومن المحتمل أنّ هذه الإشارة الواردة
في آخر كُتُب فرويد لم تسترع اهتماماً كبيراً، لأنّ الإسلام سيظلّ طويلاً
بمعزل عن الأسئلة الحديثة، حبيساً في مخازن الاستشراق. ولعلّ هذا الاهتمام
بالإسلام ما كان له أن يتحقّق لولا بروز مظهر معيّن من هذا الدين على
الساحة العالميّة اليوم بصفة يوميّة منذ عشرين عاماً. ولعلّه يجب أن نكون
حذرين من مطابقة الإسلام ككلّ مع الحركات المتطرّفة التي تظهر بطريقة
عنيفة. وما كان لي أن أسوق هذه الملاحظة هنا، وهي عديمة الفائدة في وسط
مثقّفٍ مبدئيّاً، لولا أنّني سمعت مثل هذا الخلط في هذا المكان ذاته ليلة
أمس. يجب علينا ألاّ ننسى أنّ لجميع الأديان تماميّتها، وأنّ اللاّهوت
المسيحي، الذي يُشاد به كثيراً اليوم، كان أيضاً في أحد جوانبه عنيفاً
للغاية، بل ولا يزال يتضمّن إلى حدّ أيّامنا تيّارات متعصّبة، إلى جانب
أخرى هي، لحسن الحظّ، منفتحة.
ومع ذلك، فإن هذا الظهور للإسلام على المسرح العالمي يحدث في الفجوة
التي يجب علينا الإشارة إليها قبل أي تناول لمسألة الإسلام اليوم. ففي حين
حظيت اليهوديّة والمسيحيّة في الغرب بإعادة قراءة معلمنة، وعاشت التفكيك
والترجمة التاريخيّة والأنثروبولوجيّة، فإنّ الإسلام لم يعرف بنفس الشّدّة
مثل هذا العمل الهائل المنصبّ على الفكر وعلى الواقع الاجتماعي والذاتي.
وهذا ما استتبع نتيجتين على الأقلّ أرغب في عرضهما بسرعة.
الأولى هي أنّ الإسلام، أو بأكثر دقّة المسلمين، قد دخلوا تدريجيّا
بالفعل في الحداثة منذ القرن التاسع عشر، وأنّ ذلك الدخول كان مصطبغاً
بالعنف الاستعماري وبعيداً عن تنوير الفكر الحديث، أو لنقل، بعيداً عن
الأنوار التي ظلّت حكراً على النخبة. إنّها حداثة ظِلٍّ، أو بالأحرى
تحديثٌ أعمى، بل هو تحديث لاواعٍ بالنّسبة لغالبيّة المسلمين. فعمل
الثقافة (Kulturarbeit) الحديث لم يتقدّم بنفس وتيرة التحوّل المادّي لذلك
العالم. بل إنّ حقيقة أن يظلّ التحليل النفسي إلى الآن متلجلجاً في العالم
المسلم، حتّى حين يتعلّق الأمر بمجتمعات قريبة جدّاً من أوروبّا، لهو من
أعراض هذه الحالة، كما لو أنّ المُسلم اليوم لا يمكنه النفاذ إلى جهاز
قراءة تتوافق مع ظروف نفسه (psyché) الراهنة. وبالتالي، فإنّه لا شكّ في
أنّ عدم قدرة المسلم على قراءة هويّته وعالمه، هو أصل ما نراه من تمرّد
جماعي ميتافيزيقي يائس يريد استعادة تأويل الأسلاف اللاهوتي المُطَمْئِن.
والاعتبار الثاني هو أنّ تصاعد الطلب والعرض في السوق الدينيّة في
المجتمعات المسلمة اليوم لا يتّسم بنفس السمات التي كانت له في المجتمعات
التي شهدت من قبل علمنة الطابو، أي المحرّم، وحلول الدولة محلّ مؤسّسة
الطوطم التقليديّة، وبعبارة أخرى، حلول الدّولة محلّ مرجعيّة الأب
البطريركي في الاقتصاد الرمزي للمجتمع. ولئن تمّت إقامة الدولة "الحديثة"
في المجتمعات الإسلاميّة، إلاّ أنّها لم تقم في معظم الحالات، بتحطيم
التنظيمات التقليديّة، بما فيها العائليّة العشائريّة؛ بل اُستنبتت فيها،
وخَلْخَلَتْهَا، وتآلفت معها، لكنّها لم تستطع احتكار سلطة القانون التي
تمكنّت الدولة من احتكارها في المجتمعات الحديثة. وبالمثل، فإنّ علمنة
المحرَّم لم تحدث سوى جزئيّاً فحسب، ولم تصل إلى عمق البنى الذاتيّة. لذا،
فإنّه لا وجود لعودة فعليّة لما يسمّى "الدين" في معظم مجتمعات العالم
المسلم، لأنّ البنية الدينيّة للرّابط الاجتماعي وضامنه الذاتي لم يضعفا،
بل تحلّلا تحت تأثير سَحْب "العلمويّة" على تصوّر العالم والرسملة
السوقيّة للتّبادلات. وعلى عكس ما كنّا نعتقد، وفرويد أوّلنا، فإنّ الدين
لم يتراجع هنا تحت تأثير تقدّم العلم، ولكنّه أفلت من إطار المؤسّسة
الدينيّة التقليديّة وانحلّ. وانحلال الدين ودخوله في إعادة تركيب مع خطاب
العلم ومنطق السوق، هو الحقيقة الكبرى في الوضع الراهن، وما يُسمّى
"الإسلاميّة" الإسلاموية (l’islamisme) هو عَرَضَه الأكبر. ولعلّه ينبغي
أن نكون هنا أكثر حزماً ولا ننظر إلى المسألة إلاّ في إطار منطقة جغرافيّة
معيّنة وفي إطار مجتمع محدّد من العالم المسلم الرحيب، ولكن ليس لديّ
الوقت للقيام بذلك في حدود هذه المحاضرة.
ومع ذلك، فإنّ خِطاطة اضمحلال الدين وإعادة تركيبه مع خطاب العلم ومع
التقنيات، وظهور سوق دينيّة معولمة، ينطبق على ما يبدو لي على جميع
الأمكنة، مع تلوّنات وتغيّرات بحسب اختلاف الوضعيّات. وهنا، يبدو لي بعد
أكثر من ثمانين عاما على نشر مستقبل وهم[4]، أنّ الاتّجاه الحالي يناقض
تقدميّة فرويد في هذا الكتاب، وذلك رغم توقّع فرويد تحرّر العقائد
الدينيّة على مدى أطول. وبالطّبع، فقد كان هذا النصّ متأثّراً كأشدّ ما
يكون بالسياق التاريخي العامّ الأوروبي لحقبة العشرينات والثلاثينات من
القرن العشرين، ولكنّه يتضمّن مسارات يمكن أن تكون خصبة جدّاً للتفكّر في
ما يحدث اليوم مع الإسلام من وجهة نظر اجتماعيّة وذاتيّة، مع اطّراحي
المسألة السياسيّة رغم أهميّتها القصوى، جانباً، إذ سبق أن تناولتها في
مكان آخر[5]. لكن دعوني أشير فقط إلى أنّه لا يمكننا أن نبحث الواقعة
الدينيّة بوصفها هواماً فحسب، وأنّ الدين ينخرط في واقع اجتماعي واقتصادي
وسياسي، وباختصار في الحياة الماديّة وليس فقط في النصوص المكتوبة منذ
آلاف السنين.
إنّ "مستقبل وهم" يأخذ بعين الاعتبار، في عدّة مناسبات، هذا الجانب
المادي المحسوس، وخصوصاً حين يتحدّث فرويد عن المضطهَدين. وفي ما عدا ذلك،
يبقى مستقبل وهم نصّاً أكثر تعقيداً ممّا يبدو عليه، وهذا بالتّأكيد شأن
نصوص فرويد غالباً، إلاّ أنّ هذا الكتاب بالذّات يختصّ بتضمّنه نسبة عالية
ممّا يدحضه، بما يتجاوز الحوار الوهمي مع مخالفه (القس بفيستر). ومن بين
البراهين التي قد تفيدنا في تفكّر الجيشان الديني في العالم المسلم،
يمكنني استعارة اثنين على الأقلّ يتطابقان مع الوقائع المعاينة عياديّاً
والإنتاجات الثقافيّة المعاصرة.
الأوّل هو المتعلّق بعلمنة المحرَّم، أو ما يسمّيه فرويد "التأسيس
الاجتماعي للمحرَّم الثقافي" (ص 182). ففرويد يرى بالفعل أنّ النقلة
المتمثّلة في إسناد ما حرّمه الله إلى الإنسان، ومن الأوامر الإيمانيّة
إلى البناء العقلاني، تفتح إمكانيّة حدوث قفزةٍ مُهلكةٍ وفشلٍ قد تكون له
عواقب خطيرة. والسبب هو أنّ الدين أقرب إلى الحقيقة العاطفيّة للمحرَّم
المرتبط بالكَرَب الطفولي (Hilflosichkeit)، وإلى الأب المؤمثل. فالمحرَّم
المعلمَن، وبعبارة أخرى المعقلَن، ينشأ من تطهير عاطفي يُكسبه فعاليّة
ذاتيّة أدنى ممّا يُكْسِبُه المحرَّم المغلّف دينيّاً. وهذا الرهان هو ما
يبدو مركزيّاً في الخطابات القائمة اليوم في العالم المسلم، وهو ما نجده
على سبيل المثال في تنامي ظاهرة الفتاوى بشكل مذهلٍ وفظٍّ. فرجال الدين
إمّا يسعون بجميع الوسائل إلى منع عمليّة علمنة المحرَّم، أو هم يحاولون
تحويله دينيّاً.
ولنأخذ مثالاً على ذلك، ما عُرف بفتوى إرضاع الكبير الصادرة مؤخّراً عن
شيخ أزهري في القاهرة يقدّم فيها حلاّ لمسألة الاختلاء بغير المحارم، وهو
إرضاع الموظّفات زملاءهنّ الرجال في مكاتب العمل حتّى يَحْرُمْنَ عليهم!
ويمكنكم تخيّل ما أثارته فتوى الإرضاع المعمّم تلك من ضحكٍ مجنونٍ في
العالم المسلم… وهذا يعني أنّ بعض رجال الدين لا يعوقهم الانسياق وراء
التهريج في محاولتهم سدّ الثغرات التي أحدثتها الحياة المعاصرة في النسيج
الأخلاقي التقليدي. ولكن هذه الظاهرة لم تنمُ إلاّ لكونها تلبّي طلباً
اجتماعيّاً شديداً يترجم عن تنامي الإحساس بالذّنب لدى الجماهير وما يتبعه
من طلب النجاة. وهذا هو السبب في أن يغدو التكفير والتضحية والاستشهاد،
ممارسات شائعة. لقد غدا هذا ممكناً في عالم اهتزّت فيه مرجعيّات المحرَّم
التقليديّة وأضحت فيه هوامات الإسراف في المتعة تُنذر بالشرّ من كلّ جانب.
ويلعب التحريض على الاستهلاك، وخاصّة صُوَرَه، دوراً مهمّاً في هذا الشأن،
لأنّنا كما تعلمون نأكل بأعيننا أيضاً، حتّى حين لا نريد أو لا نستطيع أن
نأكل. والتعمية على الشيء أو جعله غير جذّابٍ أو منفّراً، قد يكون حلاًّ
في هذا الخصوص. ومن هنا ظهور مختلف أنواع الحجب والإنتاج المكثّف للقُبح
داخل الأوساط الأصوليّة. وعلى المستوى العياديّ، لاحظتُ عند تحليل كثير من
حالات المرضى من ذوي الديانة الإسلاميّة، العمل النفسي الشاقّ لترجمة
المحظورات الدينيّة بتأثيراتها العاطفيّة، إلى محظورات مُعَلْمَنَة. وتأتي
رهانات الانتقاليّة المتمحورة حول صورة الأب المؤمثل، وهي صورة شرسة تطالب
بالتضحية، على رأس تلك المحظورات. وما لم يتمّ تحليل الانفعالات والصراعات
الطفوليّة والتغلّب عليها، فإنّ الخوف الشديد من خرق المحرّمات والبحث عن
التكفير عن ذلك الخرق، يبقيان راهنين. ولكنّ المعتقدات البدائيّة يصعب
التغلّب عليها لأنّها تشمل، حيثما كانت، بُعد الاعتراف الرابط بين بقاء
الفرد وانتمائه إلى الجماعة التي وُلد فيها، كما لو كانت تلك الجماعة، هي
الجنس البشري نفسه.
أمّا الجانب الثاني الذي يمكن أن نقرأه في مستقبل وهم، ويبدو لي شديد
التعبير عن حالة الذوات الحديثة في العالم المسلم، فهو ما يتّصل بتحويل
العصاب الجماعي إلى عصاب فرديّ شخصيّ. وهذا ما أشار إليه فرويد في نصوص
أخرى متعلّقة مثلاً بوضعيّة الانفصال التي يعيشها الشاعر أو المبدع بشكل
عامّ، عن جماعته. فالشّاعر والفنّان والكاتب والمؤلّف (وكلّ ذات حديثة
تغدو "صانعة" حياتها الخاصّة وتاريخيّتها) عُرضة للاتّهام بالخيانة من قبل
جماعته. ولا يتحّقق الوصول إلى الاستقلال الذاتي تجاه معتقدات الجماعة،
إلاّ بتوفّر شروط معيّنة ملائمة للمشاريع الفرديّة التي تسمح بالتحرّر من
حماية الجماعة. إلاّ أنّ هذه الشروط تعتمد على التعليم العلمي وعلى ضمان
الحريّات السياسيّة، وهو ما لا يتوفّر حاليّاً في العالم المسلم.
فالتّقليعة الدارجة اليوم هي انتقاد حقوق الإنسان في بعض دوائر التحليل
النفسي المتحذلقة، والحال أنّه لا وجود لتحليل نفسي في غياب حقوق الإنسان،
وسيُنظر بالتالي إلى تعبيرات اللاّوعي على أنّها جرائم! كلّ هذا، يدخله
فرويد في عمل الثقافة (Kulturarbeit) وإشكاليّة ما يسمّيه "الأنا العليا
الثقافيّة"، وهو المفهوم الذي أرى أنّه لم يحظ بما يستحقّ من اهتمامٍ في
التحليل النفسي، على الأقلّ في فرنسا. وباختصار، أقول أنّ مستقبل وهم
يفترض دمقرطة الحياة السياسيّة والاجتماعيّة بما يسمح بالانفصال عن
المشروع اللاّهوتي- السياسي، وحصر مطلب الأديان في الخلاص في قطاع
عمومي-خاصّ مخصّص للعبادة. وهذا هو الاحتمال الذي لم يتحقّق بعدُ في
العالم المسلم اليوم. ولعمري أنّ تحقّق هذا لأمر لن يكون سهلاً وسريعاً
وهادئاً، وعلينا أن نتذكّر ما حدث في أوروبّا نفسها منذ وقت غير بعيد.
وأذكّركم أيضا بأنّ القوميّة كثيراً ما استعادت المشروع اللاّهوتي-
السياسي والعواطف الدينيّة، كما هو مبيّن في أعمال إرنست هارتويغ
كانتوروفيتش (Ernest H. Kantorowicz) كما في كتابه "الموت من أجل
الوطن"[6] مثلاً. ونحن نعرف التكلفة البشريّة لكلّ هذا من خلال الحروب
الرهيبة التي عرفتها جميع أنحاء أوروبّا