سبق أن نشرنا الجزء الأوّل من محاضرة الدكتور فتحي بن سلامة،
وهنا ننشر الجزء الثاني من نفس المحاضرة بعنوان "الإسلام في ضوء التحليل
النفسي"، وألقيت باللغة الفرنسيّة خلال مؤتمر "قوّة التوحيد- التحليل
النفسي والأديان" الذي انعقد بمتحف سيغموند فرويد بفيينا أيّام 29-21
أكتوبر 2009. اسمحوا لي أن أنتقل الآن
إلى فرضيّة فرويد حول الإسلام في موسى والتوحيد. إنّ إعجابي بالكشف
الفرويدي، الذي اعتبره سبقاً حضاريّا، لا يؤدّي بالضرورة إلى تبنّي كلام
فرويد دون نقدٍ، أو إلى التسليم بمقترحاته النظريّة، بما في ذلك الجانب
النظري من أفكاره. فكما أشرتُ في بداية هذا العرض، فإنّ الفقرة التي
خصّصها فرويد للإسلام كانت مشوبة بحذرٍ كبيرٍ واعتذاراتٍ عن محدوديّة
معلوماته عنه. وأقتبس هنا النقطة الأساسيّة في تلك الفقرة: "أدّى استرداد
(Wiedergewinnung) الأب الأصلي الأكبر والوحيد (Urvater) عند العرب إلى
حدوث تسامٍ خارقٍ في الوعي بالذّات، ما أدّى إلى نجاحاتٍ دنيويّةٍ كبيرةٍ،
ولكنّه تسامٍ استنفد قواه فيهم. لقد أظهر الله من الاعتراف بالجميل نحو
شعبه المختار أكثر ممّا أظهر يَهْوَهْ نحو شعبه. ولكنّ التطوّر الداخلي
للدّين الجديد سرعان ما توقّف، ربّما لأنّه ينقصه العمق الذي أنتج في
الحالة اليهوديّة قتل مؤسّس الدين"[1].
إنّ هذه
الصياغة تُدرج حالة الإسلام في الإطار العامّ لنظريّته في الدين، من حيث
علاقته بالمسألة المركزيّة للأب، والتي يُعتبر الأب بمقتضاها أساس
الروحانيّة، روحانيّة يكمن جوهرها في قتل ذاك الأب. ومع ذلك، تعترضنا
مشكلتان علينا طرحهما هنا.
1- أوّلاً،
جريمة قتل الأب في اليهوديّة، كما هو الحال في المسيحيّة، ليست سوى تأويلٍ
أو بناءٍ أنجزه فرويد، انطلاقاً من هُوام فردي. فلا وجود لمسألة قتل الأب
في اليهوديّة ولا في المسيحيّة، وبالتالي فإنّ فرويد لم يجد في الإسلام ما
ليس موجوداً في الديانتين التوحيديّتين الأخريين. وحتّى في حالة
المسيحيّة، فإنّ الأمر يتعلّق بالابن لا بالأب. لذا، يمكننا تأويل ذاك
القتل بأنّه أقرب إلى الاعتراف بقتل الأب، ولكنّ هذا يبقى مجرّد تأويل.
فإذا كان لنا أن نُؤوّل وأن نُعيد البناء، فَلْنُأَوِّلْ ولْنَبْنِ في كلّ
مكان. يمكننا أن نُبيّن أنّ هذا القتل المكبوت موجودٌ أيضاً في الإسلام.
ولا أحتاج إلى أن أذكّركم بأنّ قتل الأب هو هُوام بنيويّ عند البشريّة
جمعاء، وأنّ تنفيذه كتخييل أنثروبولوجي من خلال إعلان موت الله هو نتيجة
الحداثة الأوروبيّة.
2-إذا كان الإسلام يستردّ
الأب الأصلي الأكبر والوحيد (Urvater)، فإنّنا نكون في هذه الحالة في
تناقضٍ مع أطروحات فرويد، لأنّه لا يمكن أن ينشأ مع الأب الأصليّ أيُّ
صرحٍ اجتماعي، وأيُّ بناءٍ للقانون والحضارة والروحانيّة. وبذلك نعود إلى
الرهط البدائي. لا أعرف ما هي مصادر معلومات فرويد عن الإسلام، وقد سعيت
في سبيل ذلك عبثاً. ويبدو لي في هذه الصيغة، أنّه إذا ما استنجدنا بصورة
الأب البدائي في الطوطم والطابو [2] لشرح محفّزات الإسلام، فإنّنا نجد
فيه، تحت لَبُوسٍ آخر، التعارض "البُولْسي" بين الروح والجسد ممثّلاً في
ابني إبراهيم. فنكون من ناحية أولى، إزاء مظهر روحاني من خلال مقتل الأب
في اليهوديّة والمسيحيّة، وإزاء غياب الروحانيّة من خلال وجود القوّة
الفظّة، من ناحية أخرى. هذا إن لم نعتقد أنّ الأب البدائي - الوحشي
والقاسي، والمتمتّع بجميع السلطات- لا يني عن العودة حتّى حين ندّعي أنّنا
انتهينا من أمره، وهذا ما يبدو لي أكثر اتّساقاً مع التاريخ الفعلي
للجماعات البشريّة. وعلى سبيل المثال، فإنّ الطّغاة في العالم العربي
اليوم، قريبون جدّاً من صورة الأب البدائي هذه، وأنا أزِنُ عباراتي حول
هذا الموضوع، وإلاّ فإنّ الواقع أغرب من الخيال.
لقد قادني
البحث داخل أبنية الإسلام حول مسألة الأب، إلى نتيجة مختلفة تماماً، وهي
نتيجةٌ تُسطِّر سُبَلاً جديدة للروحانيّة داخل التوحيد نفسه، روحانيّةٌ
غير متولّدةٍ بالضرورة عن الأب. وبطبيعة الحال فإنّ هذا الأمر سيصدم
الامتياز الأبوي والمركزي القضيبي الشائع بين كثير من الح لّلين
النفسيّين، ولكن هذا غير مهمّ ما دام تحويل التحليل النفسي نحو الإسلام من
شأنه فتح منظور جديد، مكبوت من قبل فرويد نفسه ومن قبل نزعته
البُولْسِيّة. وأودّ أن أرسم هنا الخطوط العريضة لنتائج هذا البحث :
1- يبدو
المحفّز الروحي للإسلام في كثير من الجوانب، بالأحرى، مثيل محاولة التخلّي
عن الأب في صميم بنيته اللاهوتيّة، أي تنزيه الله عن كلّ تطابقٍ مع صورة
الأبوّة، عن كلّ نظام بُنُوَّةٍ إنسانيّةٍ وهميّةٍ أو رمزيّةٍ. وهذا
التنزيه ليس أرسطيّاً كما يُقال غالباً، فهذا شأن إله الفلاسفة المسلمين
المتأخّر في القرن الحادي عشر. ولنتذكّر أنّ الإسلام تأسّس في القرن
السادس. إنّ الله القرآني هو بالأحرى بارمنيدسي على ما يقترح الباحث
الفرنسي الكبير في الإسلاميّات جاك بيرك (J. Berque)، من خلال المقارنة
بين مقطع قرآني[3] والقطعة الثامنة من بارمنيدس وفيها :"[…] لم يولد، وهو
الباقي، الكاملُ، الواحدُ، المتينُ وبلا نهاية/لم يكن ولن يكون، لأنّه هو
الآن، كاملٌ، دائمٌ"[4]. وفي الواقع، فإنّ إله الإسلام هو إله موسويّ
الأصل، لأنّ الله لم يغدُ اسم عَلَمٍ إلاّ لاحقاً، وهذه الكلمة تعني في
الأصل "الإله".
2- وهذه
المحاولة للنّكوص عن الأب، وأقول محاولة، لأنّني أعتقد أنّها محدودةٌ وبلا
أفقٍ لأسباب سوف أشير إليها، محدَّدةٌ سلفاً في أولى الكتابات التوحيديّة،
أي الكتاب المقدّس نفسه، ولا سيّما في سِفْر التكوين حيث يتمّ التركيب
النَّسَابي والأخلاقي الأوّل حول إبراهيم وزوجتيْه،
الزوجة-الأميرة-السيّدة سارّة والأَمَةُ هاجر، وابناه: إسحاق وإسماعيل. في
الواقع، تنتهي قصّة تمرّد هاجر ورفضها أن تكون مجرّد رَحِمٍ يسْتَبْضِعُهُ
الأسياد، بطردها وابنها إلى الصحراء. ولكن تفحّص الأمر عن كثبٍ، يُرينا
أنّ الإله في سفر التكوين يعقد عهداً ثانياً مع هذه المرأة، بعد أن كان
العهد الأوّل مع إبراهيم. ذلك أنّ إله سفر التكوين يعترف لهاجر بحقّها في
أن يكون لها نَسْلٌ خاصٌّ بها، ووعدها بأُمَّةٍ من نسلها، بل وبأكثر من
ذلك: لقد تميّزت بأنّها المرأة الوحيدة في الرواية التوراتيّة التي
استطاعت أن ترى الإله دون أن تموت. وأذكّر أنّ سبينوزا يعتبر هاجر نبيّة،
في حين أنّها ظلّت محتقرة بصفة دائمة تقريباً عند شارحي التوراة وعلى
رأسهم القدّيس بولس. وهكذا نجد منذ أوّل الكتابات التوحيديّة، الاعتراف
بمسار روحيّ آخر لا يمرّ بالعلاقة بين الربّ والأب، ولكن بين الربّ وامرأة
مظلومة اعترف لها بالحقّ في نسبٍ خاصّ بها.
3-ويرتكز
هذا المسار الروحي أساساً، عند تفحّص مغزاه الرمزي، على الاعتراف الأخلاقي
بحقّ إمرأة في ألاّ تكون أداة حيّة (وهذا هو التعريف القديم للمسترَقّ)،
أو إن شئنا، في ألاّ تكون مجرّد رَحِمٍ في خدمة أسيادها. ذلك أنّه كان على
هاجر أن تنجب طفلاً للأسياد العاقرين البالغين من العمر عتيّاً، ثمّ
تختفي. إلاّ أنّ هذه المرأة سوف تتحمّل الرفض أو التطليق من قبل البطريرك
والتيه في الصحراء، وخاصّة، بالنسبة للطّفل، عدم إنقاذه من الخطر من قبل
الأب بل من قبل إلهٍ سوف يعطي الأمّ القدرة على رؤية العين في الصحراء.
ونحن نجد هنا، في مستوى ما يعتبره فرويد في أصل الشعور الديني نفسه، أي
الكَرَب الطفولي (Hilflosichkeit)، مَفْزَعاً لا يمرّ من خلال الأب، بل من
خلال غيريّة تسمع إذا ما استندنا إلى عبارة الكتاب المقدس التي تذكر
اللحظة التي وجدت فيها هاجر العين التي ستنقذها وابنها:
لا تخافي، لأنّ الله قد سمع لصوت الغلام حيث هو(21 :17 - 20). إنّه إسماعيل، وحرفيّاً: اسمع إيل، الله يسمع. ولعمري أنّ
تلك الغيريّة التي تسمع الطفل حيث هو من أجل إنقاذه، والمرأة التي ترى
المنجي حيث يمتدّ فضاء الصحراء القاسية والعزلة الأصليّة، لهي الرؤيا
الأموميّة التي تشكّل نظريّة أخرى لما هو ديني، بالمعنى الاشتقاقي ذاته
لمفهوم النظريّة في اليونانيّة (θεωρειν) بمعنى نظر وتأمّل (وهي أيضا في
العربيّة : نظريّة بمعنى ما يُنظر إليه/فيه). وتلخيصاً لهذا، أقول إنّه
توجد روحيّة محفّزها النفسي استجابة الإله السميع، متفمصلة مع نظرة الأمّ
كاستجابة للكَرَب الطفولي، ومستغنية عن الوجود المادي للأب في ذات اللحظة
التي يتخلّى فيها الأب عن الطفل.
4-وفرضيّتي هي
أنّ الإسلام (والذي يعني اشتقاقيّا المُنجِي بعد التخلّي) متولّدٌ من هذا
المحفّز الروحي، وهذا هو السبب في أنّ هذا الدين على وجه التحديد يستبعد
صراحة أيّ تقارب بين الله والأب. فإذا ما نظرنا إلى التركيب النَّسَابي في
التوراة من جانب إسحاق، لوجدنا أنّ الله يتدخّل من خلال معجزة في جسد
سارّة لكي تحبُل (أنجبت في السبعين من عمرها)، وهو ما يُعتبر النموذج
الأصلي للتدخّل الإلهي في جسد مريم، فيما نجد على الجانب الآخر أنّ إنجاب
إسماعيل كان نتيجة تلقيح طبيعي من إبراهيم لجسد هاجر، ودون أيّ تدخّل
إلهيّ. فالتقارب بين الله والأب يتمّ، من الجانب اليهودي المسيحي، من خلال
انصهار التلقيح الروحي والمادي؛ بينما نجد من جانب الإسلام فرقاً بين
الاثنين يندّ عن كلّ قياس: التلقيح حقيقي وبقاء النطفة روحيّ. ومن هنا،
فإنّ مصدر الإيمان ليس الحياة في ذاتها، بل البقاء على قيد الحياة. ودعماً
لهذه الفرضيّة، يمكننا الإشارة إلى أنّ القرآن لم يكن وديعاً تجاه الآباء
بصفة عامّة، ولا مؤمثلاً لهم. بل إنّ هذا هو أيضا حال مؤسّس الإسلام ذاته
الذي لا يُعتبر أباً: لقد كان يتيماً وضالاًّ قبل أن يهتدي. واليتيم هو
أحد ألقاب مؤسّس الإسلام. ولذلك، نحن إزاء إحالة أساسيّة على الأب
المتوفّى.
5-ولا أستطيع هنا التوسّع في تناول
مسار محاولة النكوص عن الأب كمحفّز للتّوحيد الإسلامي، ولكن اسمحوا لي أن
أشير دون تردّد إلى أنّ هذا المقترح يبدو متناقضاً مع أطروحة فرويد
الراسخة، التي صاغها أوّلاَ في الطوطم والطابو، والقائلة بأنّ اشتياق الأب
(Sehnsucht)[5] في أصل خلق الآلهة والتشكيلات الدينيّة. ومع ذلك، فنحن
نتذكّر أنّ فرويد يشير في كتابه ذكرى طفوليّة لليوناردو دا فينشي[6]، إلى
إمكانيّة النكوص عن الأب بوصفها إمكانيّة للإعلاء (عند ليوناردو) تكمن في
عدم الاحتياج إلى اعتماد تجلية الأب في الله. فتجلية الأب في الله يدخل في
باب الأَمْثَلَة، في حين يدخل النكوص عن الأب في باب الإعلاء. وبطبيعة
الحال، فإنّ هذا يؤدّي بنا إلى التفكير في الدين من منظور الإعلاء، لا
الأمْثَلَة والتوهّم. ولكن لماذا ننكر إمكانيّة السيرورات الإعلائيّة
الجزئيّة في الروحانيّة الدينيّة؟ دعونا ننظر في إسهامات كلّ ديانة من
الديانات التوحيديّة في الفنون والآداب، والفلسفة، والقانون، وما إلى ذلك،
وباختصار، في جميع ما اعتبره فرويد نفسه إسهاماً في الحضارة. ولكن ما هي
الحضارة، قبل الإمكانيّة الأوروبيّة منذ قرنين للاستغناء عن الله، إن لم
تكن حضارة دينيّة عند مجمل البشريّة ؟
6- ومع
اقتراحي النظر إلى محاولة النكوص عن الأب باعتبارها من محفّزات الدين
الإسلامي، إلاّ أنّني أوضّح أنّ هذه المحاولة لن تبلغ مداها النهائي بسبب
قيودها اللاهوتيّة، إلاّ في التصوّف الإسلامي الذي يلعب دوراً هامّاً
للغاية. وقبل تناول سبب هذا الفشل اللاهوتي، أوضّح أنّ محاولة النكوص عن
الأب هذه، إن كان الإسلام يحمل علاماتها الواضحة، فهي أيضاً موجودة في
اليهوديّة والمسيحيّة وإن في ثوب مختلف. بل إنّي أعتقد أيضاً أنّ إحدى قوى
الإبداع في التوحيد تكمن بالذّات في نكوص أوّلي عن الأب، ولكن هذا النكوص
أُعيق أو عُوّض بمسار عكسي عنيف يمتح من أمْثَلَة الأب، مسارٌ يكمن في
اللاّمحتمل الذي يمثلّه النكوص البدئي. وبعبارة أخرى، يتألّف التوحيد من
قوّتين متعارضتين في آن، وهنا كلّ قوّته: أنّه في آنٍ دَفْعٌ من جانب أوّل
للنّكوص عن الأب ودَفْعٌ أيضا من جانب آخر نحو تعزيز قوّته الهائلة.
وبالأساس، فأنا ألوم فرويد ومن تبعه من الحللّلين النفسيّين على هذا
الصعيد، لاعتمادهم وجهة نظر أبويّة تجاه الروحانيّة، وإهمال وجود مسار
روحي مؤنّث استبصره التوحيد الأصلي، ولكنّه مرفوضٌ.
7- وإنّ
طلاق هاجر وكبت العهد الثاني، هو أُسّ هذه المشكلة. ولا يمكنني، في حدود
الوقت المتاح لي هنا، عرض هذا الأمر بالكامل، فقد سبق أن فعلت ذلك في
كتابي الذي ترجم إلى العربيّة تحت عنوان الإسلام والتحليل النفسي (دار
الساقي، لندن، 2009) وإلى الإنكليزية تحت عنوان Psychoanalysis and the
Challenge of Islam (مطبعة جامعة مينيسوتا، مينيابوليس، 2009). فطلاق
هاجر، أي التخلّي عنها في الصحراء مع ابنها، يفترض زوجاً وأباً فاشلين،
غائبين، وعهداً بين الأمّ والله من أجل إنقاذ الابن. لكأنّنا أمام لوحة
مريم العذراء المنتحِبة (pietà) وهي مقلوبة، أو هي لوحة البقاء على قيد
الحياة. فهي لا تزال تنتظر مايكل أنجلو ليرسمها… لماذا يتوقّف النكوص عن
الأب فجأة مع الدين الإسلامي؟ لأنّه على الرغم من تأكيد مؤسّس الإسلام
أنّه من نسل إسماعيل، فإنّ النصّ القرآني لا يذكر هاجر ويذكر بالمقابل
سارّة ويباركها. وفرضيّتي هنا أنّه كان من الصعب على مؤسّس الإسلام إقناع
عرب الصحراء مع ما عرفوا به من أنَفَة بأنّهم كانوا من نسل أمَةٍ، وابنٍ
تخلّى عنه والده. بل إنّ القرآن يتجاوز ذلك ليجعل إبراهيم يلقى ابنه
ويتصالح معه، والحال أنّ ذلك اللقاء لم يتمّ حسب التوراة إلاّ حين وفاة
إبراهيم. وتلك هي إذن، عودة روحيّة الأب التي تمحو روحيّة الأمّ. وقد
تطلّب الأمر أكثر من قرن بعد وفاة مؤسّس الإسلام ومن دخول المسلمين في
جدالات عجيبة كي يمكنهم الاعتراف بهاجر أُمّاً. ومع ذلك، ما زلنا نجد في
العالم المسلم تسع فتيات يتسمّين باسم سارّة مقابل واحدة فقط تتسمّى باسم
هاجر.
وبما أنّ الوقت محدود، فإنّه يجب أن أختم حديثي الآن
بالتأكيد على أنّ البحث التحليلنفسي حول الإسلام يبيّن لنا وجود محاولة
اتّخاذ مسار روحي لا يمرّ عبر الأب وقتله، ولكن عبر الارتباط بين المؤنّث
وغيريّة تسمع. وهي غيريّة إلهيّة لأنّها مختلفة تماماً، ولأنّها تسمع.
والروحانيّة لا تكمن هنا في قتل الأب، لأنّه كان بالفعل ميتا أو غائباً
متخلّياً، وإنّما تكمن في البقاء على قيد الحياة والغوث المقدّم إلى
الطفل، وليس فقط الغوث المادي، وهذا ضروري للغاية، ولكن البقاء على قيد
الحياة كاستجابة من الآخر السميع لنداء الاستغاثة. هذه المحاولة موجودة
منذ بدايات الكتابات التوحيديّة، والإسلام يتحدّر منها، ولكن لاهوته لا
يعتمدها. وهي لا تظهر إلاّ في بعض المسالك الصوفيّة، وفي بعض الإنتاجات
الثقافيّة. ومن ذلك على سبيل المثال في وضعيّة شهرزاد في ألف ليلة وليلة،
حيث تتغلّب المرأة على الجنون القاتل عند الطاغية، بواسطة الكلام لا غير.
أعتقد،
ولكن لن يكون لي الوقت الكافي للحديث عن هذا الخطّ من التفكير، أنّ عالماً
معلمناً وديمقراطيّاً، يُعترف فيه بالحقوق الإنسانيّة لكلّ فرد بمعزل عن
أصله وفصله، هو ما يوفّر حقّاً إمكانيّة نكوصٍ عن أب البطريركيّة. ولا
يتعلّق الأمر بمجتمع دون أبٍ كما كان يُعتقد لبعض الوقت، بل بالآباء الذين
نعتمد عليهم لنكون قادرين بعدها على الاستغناء عنهم في العيش المشترك، أي
سياسيّاً. أعتقد أنّ الأمر يتعلّق بتجربة روحيّة جديدة للإنسانيّة، حيث
فشل التوحيد، ولكن ما من ضامن أن لا تتعرّض هذه التجربة أيضاً إلى الفشل،
فشل يعود إلى حدّ كبير إلى تسليع العالم وتسليع الرغبة الإنسانيّة. ينبغي
على التحليل النفسي استكشاف هذا الاحتمال، مع الاعتراف بأن المؤنّث يحمل
هو أيضاً روحانيّة، بعد مستقبل وهم، أي بعد إزالة الوهم عن مستقبل دون وهم.