حركة التنويريين الاحرار لشمال افريقيا
زوارنا الكرام ..هرمنا ترحب بكم .. وتدعوكم لاستكمال الثورة الثقافية ..اضموا الينا ثورة وابداعا
حركة التنويريين الاحرار لشمال افريقيا
زوارنا الكرام ..هرمنا ترحب بكم .. وتدعوكم لاستكمال الثورة الثقافية ..اضموا الينا ثورة وابداعا
حركة التنويريين الاحرار لشمال افريقيا
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةالبوابةالأحداثالمنشوراتأحدث الصورالتسجيلدخول
عدد الزوار


 

 سحر الموت.. سحر الكتابة الخميس 23 شباط (فبراير) 2012 بقلم: نعمان الحاج حسين

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
هشام
ثـــــــــــــــائر
ثـــــــــــــــائر
avatar


الجنس : ذكر
عدد المساهمات : 77
معدل التفوق : 207
السٌّمعَة : 20
تاريخ التسجيل : 26/01/2012

سحر الموت.. سحر الكتابة الخميس 23 شباط (فبراير) 2012 بقلم: نعمان الحاج حسين  Empty
24022012
مُساهمةسحر الموت.. سحر الكتابة الخميس 23 شباط (فبراير) 2012 بقلم: نعمان الحاج حسين



سحر الموت.. سحر الكتابة الخميس 23 شباط (فبراير) 2012 بقلم: نعمان الحاج حسين  Arton10918-cf568


" وفجأة ياصاحبي صار الواحد اثنين ومر بي زرادشت.."

نيتشه

-1-


.."
القارىء الجيد أفضل من الكاتب الرديء" كما يقولون، لكنّ كاتبا جيدا قد
يكون قارئا عظيما مثل (خ.ل.بورخيس). يسحرنا بورخيس وهو يستعرض قراءاته
علينا، ونظنّ المتعة ناتجة عن الربط الذي نقوم به بين الأشياء التي يدلي
بها معتقدين أنّ هذا هو أسلوبنا في القراءة، والحقيقة أنّ هذا هو أسلوب
الكتابة عند (بورخيس) الذي، بعد كلّ شيء، يقول عن نفسه إنّه قارئ تورّط
بالكتابة. وكان نيتشه يقول إنّ مؤلفاته (ما هي إلا أحاديث يجريها بينه
وبين نفسه) وهكذا يجد قراء نيتشه أنفسهم حاضرين دون دعوة بين الكاتب ونصه
من غير أن ينقصهم شيء من كرم المضيف مما يزيد المتعة، وكلّ ما في الأمر
أنّ نيتشه ضمن لنفسه قرّاءً من حيث استبعدهم بالضبط. وتعود أوّل قراءة لي
عن (بورخيس) إلى قراءة بيت شعريّ واحد: "حين كنت طفلا/ لم أكن أعرف الموت/
كنت خالدا.." وليس ثمّة قارئ لهذا البيت لا يشعر أنه هو كاتبه، ومن هنا
تنشأ شعبية الشعر أي من تلك الموضوعات الحميمة التي يجدها القاريء عند
الشعراء كما لو كانوا يتحدثون عن طفولته ذاتها. ونحن جميعا نكتشف الموت
حين نغادر الطفولة مطرودين من الفردوس، وهو الوقت نفسه الذي نحترف فيه
الكتابة والقراءة ولعلّ الأمر يبدأ كتعويض عن فقدان الخلود، ثمّ سرعان ما
يصبح تعبيرا عن امتلاء تمنحنا إياه الكتابة، والقراءة، ونحصل هكذا على نوع
من الخلود، لنقل إنّه خلود عابر، بحيث يمكننا القول إنّ الخلود حديقة وسط
صحراء الفناء إذا استخدمنا تعبير سارتر بطريقة أخرى: "العدم بحيرة وسط
الوجود.."!


المجال الوحيد الذي يسمّى فيه هذا
المخلوق (خالقا) مجازا هو مجال الإبداع الفني، وتشبيه مخاض الإبداع عند
الفنانين بمخاض المرأة أثناء الولادة هو من الذيوع بحيث لا نحتاج للتذكير
به. وقد يكون إنجاب المرأة للحياة من رحمها هو سبب عدم اكتراثها بخلق
الأعمال الفنية، وهنا يصبح تعليق عمدة نيويورك الطريف:(لم يمارس أيّ كتاب
إغراء على أية امرأة) قليل القيمة. لم يجب أحد على سؤال الولادة والموت
لكنّ (جلجامش) وهو من سلالة إلهية وبشرية اصطدم بحادثة الموت من خلال موت
صديقه واكتشف أنّ له نصيبا من الموت بسبب نصفه البشري، وردّ بسؤال لازال
يتردّد عبر القرون: "طالما أنّ الموت مقدّر على البشر فلماذا أحسّ في نفسي
هذه الرغبة بالخلود؟" أمّا (بوذا) وهو من سلالة ملكية وبشرية وهما طبيعتان
يصيبهما الموت بالتساوي، لكنه اكتشف الموت خارج قصره الذي أراد أبوه الملك
أن يعزله فيه عن مآسي الحياة وبهذا المعنى.. عاش بوذا طفولة طويلة. وكما
يصبح بعض الأشخاص كتابا أو قراء حين يفقدون طفولتهم فإن (بوذا) حين عرف
الموت غادر قصره وطفولته وصار نبيا، ومن جهة أخرى، ألا يوصف الفنان بأنه
(راء) ؟.. في إنجيل يوحنا يبدأ كل شيء هكذا: (في البدء كان الكلمة،
والكلمة كان الله.. ) أما في القرآن الكريم فإنّ أوّل كلمة كتبها المسلمون
نقلا عن النبي الذي تلقى الوحي هي كلمة: (اقرأ). ولا غرابة أن
يقول (برنارد شو) ردا على سؤال حول الكتب المقدسة: ( كلّ الكتب..
مقدّسة!). إن سؤال لماذا نكتب ونقرأ ؟ يشبه سؤال لماذا نولد ونموت ؟ لكننا
نولد ونموت دون أن نجيب على السؤال وكذلك نحن نكتب ونقرأ..


ليس
ثمة كاتب لم يساوره الشك ولو لمرة واحدة بعد الانتهاء من كتابة عمل ما
فيما إذا كان عمله الذي فرغ منه للتوّ لم يقرأه في زمن سابق وأنه استعاده
من ذاكرته وليس من إبداعه؟.. ويظن أن عجزه عن الحسم في الأمر ناجم عن
اختلاط إبداعه مع ذاكرة بعيدة جدا بحيث لا يستطيع التحقق منها مما يزيد من
تشوشه، ولكن إلى أي حد قد تكون ذاكرة الكاتب موضع الالتباس بعيدة؟ هل ترجع
إلى زمن الطفولة؟.. كان الشاعر (ريلكه) يستغرب من الكاتب الذي يشتكي من
عدم وجود موضوعات للكتابة، ويضيف (ريلكه): ( حتى عندما يكون الكاتب محجوزا
بين أربعة جدران سيكون لديه ما يكتبه.. ألا يتذكر طفولته ؟!) ولكن في هذه
الحالة، فإن الطفولة هي الزمن الذي لم يكن فيه الكاتب يقرأ كما لم يكن
يحتاج إلى الخلود أما بورخيس فقد حسم المسألة بروح ساخرة كعادته حين قال
إن كل ما كتبه كان التباسا بين إبداعه وذاكرته وأنه لم يعد يحاول التحقق
من الأمر. و(ألن تيت ) حتى عندما يتحدث عن روايات ( فلوبير ) يقول إن
الأدب حين يبلغ هذه الدرجة الرفيعة من النضج "فإنه ينسب إلى.. مجهول". على
الجانب المقابل، ليس ثمة قارئ، تورط عميقا في القراءة، لم يساوره الخوف من
أن يقرأ كل الكتب الممتعة وأن يفقد الرغبة بالحياة، قال ( مالارميه):
"جسدي حزين، واأسفاه، وقد قرأت جميع الكتب"، ولعل الكاتب هو قارئ يحاول أن
يكتب الكتاب الذي كان يحلم بقراءته. ويظهر الفنانون والمبدعون في كل
العصور وكل المجتمعات بمظهر الرجال المشوشين غير المتزنين كما لو أنهم
يعيشون أكثر من حياة واحدة في نفس الوقت.


***


تشبه
طريقة الناس في تعاملهم مع المبدعين أحيانا طريقة التعامل مع الأطفال.
يقول محي الدين بن عربي: ( انظر إلى الرجل الذي يمسك بيده طفلا وهما
يمشيان ثم يتوقفان لأن الطفل يريد أن يذهب في درب بينما يريد الرجل الذهاب
في الدرب الصحيح وفي النهاية أي طريق سيسلكان ؟ الطريق الذي أراده الطفل
لأن الرجل حين يعجز عن إقناع الطفل عقليا يضطر إلى مجاراته) ومن يدري لعله
الدرب الصحيح. ويضيف المتصوف (أن الأطفال قريبي العهد إلى زمن مجيئهم
للوجود أي إلى بداية الزمن ولذلك هم أقرب إلى الله). وكما يجاري الرجل
الأطفال في كل شيء يجاريهم في عدم معرفتهم للموت ولعل الأطفال لا يجهلون
الموت لكنه لا يثير اهتمامهم كما يثير اهتمام الكبار أو يفهمونه بطريقة
أخرى وذلك بسبب ذاكرتهم غير الواعية عما قبل الولادة، و الطفل يظن الموت
شأنا خاصا بالآخرين، مثل البدائيين الذين يعتبرون الموت حادثة لكنهم لا
يؤمنون به ويعرف كل إنسان أنه، في أعماقه، لا يصدق موته الخاص، لكن العقل
يعتبر أن هذا الإحساس الباطني وهم من أوهام الذات التي ترجع إلى زمن
الطفولة، وهكذا يظن الرجل الذي اكتسب ذاكرة واعية تجعله يعرف أن الموت
الذي يصيب الآخرين يصيبه هو أيضا ويعتبر هذا من البداهة العقلية بحيث لا
يحتاج إلى إثبات لكن الذات ترفض الموت ولا تصدق أنها ستموت.. ولعله سوء
تفاهم فالذات الأصلية التي تصلنا بطفولتنا تعبر بلغتها عن وهم الموت
بطريقة اختزالية عندما ترفض موتها الخاص فقط ولا ترفض موت الآخرين الذي
يحدث طوال الوقت وتعتبر أن تصديق موت الأنا لمجرد رؤية الآخرين يموتون هو
وهم من أوهام العقل الذي لا يعرف شيئا عن مصيره المجهول بعد الموت، و
الشعراء أشبه بالأطفال والبدائيين يقول ريلكه "أن الإنسان عندما سيلاقي
موته سيجده شبيها بحياته".


ترى هل ترجع ذاكرة
الكاتب إلى أبعد من الطفولة إلى الزمن الذي لم يكن قد ولد فيه بعد كما أحس
نيتشه حين وقف في وادي الأنغادين بأنه قد وقف ألف مرة من قبل وأنه كان في
كل مرة يستعيد الذكرى نفسها ؟ وإذا كان الطفل ببراءته ولا عقلانيته أقرب
إلى بداية الزمن وأقرب إلى ا لله فإن ذكرى نيتشه تعود إلى زمن لم يكن قد
انفصل عن الله بعد..


يقول أحد الفلاسفة : (تكمن
مأساة الإنسان في أنه يكون طفلا ثم يكبر بعد ذلك) أي أن لدى هذا الفيلسوف
تصوّرا عن السعادة يستند على عكس مجرى الزمن حيث يولد الإنسان شيخا ثم
يصبح طفلا بعد ذلك، وحينها كان سوء الفهم بين الذات والعقل حول الموت سيجد
حله لكن الإنسان قد يشعر بالخوف من مصيره المجهول ما قبل الولادة، وكانت
مسألة الحنين ستجد شكلا آخر كما قال المتنبي: (خلقت ألوفا لو رجعت إلى
الصبا/ لفارقت شيبي موجع القلب باكيا). ولكن طالما أن مجرى الزمن على
الحال الذي نعرفه فإن بورخيس يقول: " أكتب لنفسي ولأصدقائي.. ولتهدئة
جريان الزمن"!.. حقا، هذه هي المسألة: تهدئة جريان الزمن.. إنها مسألة
الكاتب والقارئ وهي أيضا مسألة السلطان، فمن جهة أخرى يريد كل سلطان أن
يكون خالدا ليس في الماضي ولكن في المستقبل.. المستقبل القريب الذي يبدأ
منذ الآن، ونجد عند الحاكم على حد تعبير (برودسكي):" مرور الزمن بشكل
بطيء" الذي يوصل المرء إلى القمة.





***

2


الموقف
الأنموذجي للإبداع في مواجهة الموت، وللخيال في مواجهة الواقع دون أن يكون
واضحا في البداية أيهما أكثر جدوى وأيهما أكثر عبثية، هو موقف (شهرزاد)
أمام الملك (شهريار) الذي كان يتزوج كل ليلة فتاة ثم يقتلها في الصباح.
فقد لجأت شهرزاد إلى سرد حكاية ولم يمانع الملك في ذلك نظرا إلى أنه عمل
غير ضار وغير نافع ولن يغير نيته في قتلها لكن شهرزاد توقفت مع شروق
الصباح قبل أن تكمل حكايتها فأجل الملك موتها إلى الليلة التالية لمعرفة
بقية الحكاية. والملك الذي يتحكم بحياة وموت رعاياه كان يتحكم بالزمن إذ
لا مشكلة في تأجيل ما عزم عليه ليلة أخرى، ومثلما يليق بالناس المجردين من
السلطة سرد حكايات لا معنى لها، يليق بملك مثل (شهريار) أن يمط الوقت أو
يقصره حسب رغبته. في الليلة التالية سكتت شهرزاد قبل أن تتم بقية الحكاية
ولم يمانع الملك بالانتظار ليلة أخرى دون أن يدرك أن رغبته بمعرفة بقية
الحكاية تفوقت على رغبته بالقتل وأن تحكمه بالزمن ربما بدأ يفلت من يده، و
هكذا سردت شهرزاد بشكل لانهائي حكاية من قلب حكاية تدور في معظمها حول
أشخاص يجدون أنفسهم في مآزق يكون عليهم أن يسردوا حكاية للنجاة من الموت،
ومن الحكايات التي استوقفت الدارسين هي الحكاية التي ترويها شهرزاد في
الليلة الثانية بعد الستمائة، وتدور حول التجربة التي عاشها الملك
(شهريار) نفسه والتي جعلته يتزوج كل ليلة فتاة ويقتلها في الصباح إلى أن
ظهرت شهرزاد وأوقفت مسلسل القتل بحكاياتها التي أدت إلى نشوء كتاب (ألف
ليلة وليلة). وانتصار شهرزاد على الموت المشخص بـ(الحاكم) الذي يمارس
القتل المتسلسل هو انتصار للسرد على الموت. وقد ظهرت رواية (دون كيشوت)
قبل ترجمة (ألف ليلة وليلة) إلى اللغات الأوروبية، رغم ذلك يزعم (سرفانتس)
مؤلف(دون كيشوت) أنه نقلها عن حكايات عربية أي أن سرفانتس يزعم أنه مجرد
قارئ لحكايات أخرى، وبطل (دون كيشوت) هو نفسه رجل يقرأ الكتب ثم يقرر أن
يعيش بحسب ما قرأه مما يجعله يقف مواقف مضحكة وهزلية. أكثر الإبداعات
تأثيرا وإثارة للجدال كانت أكثرها خيالية وبعدا عن النفعية وليس العكس..!
والإبداع الذي يزاوله أشخاص ليس أمرا شخصيا والأمثلة المعروفة أكثر من أن
تذكر، فحين عزف بيتهوفن سيمفونيته التاسعة التي سحرت مستمعيه قال أحدهم:
"أعتقد أن ا لله خلق العالم لكي يؤلف بيتهوفن السيمفونية التاسعة" لكن ما
يثير الدهشة أن بيتهوفن نفسه لم يسمعها لأنه كان قد أصيب بالصمم.. على
العكس من (نيرون) الذي استمع وحده إلى اللحن الذي راح يعزفه حين كانت روما
تحترق!


للكتابة والقراءة علاقة بالخجل وحتى
القرن السابع عشر كانت الشخصيات الأرستقراطية في أوروبا تقرأ الأعمال
الأدبية والمسرحية بالسرّ لأنّ تعاطي الأعمال الخيالية كان أمر مخجلا..!
ويؤكد (دريدا) أنّ معظم الرجال يتجنبون كتابة الرسائل لأنهم يشعرون بالخجل
من تدوين مشاعرهم ويفضلون الرسائل الشفهية غير المكتوبة. إن خيطا رفيعا
يفصل بين ما هو مغر وماهو منفّر، بين ذروة اللذة وذروة الاشمئزاز، بين
الأدب الرفيع والأدب الرديء. ومن بين جميع الأنشطة النفعية التي يقوم بها
البشر تبدو الكتابة والقراءة نشاطا عبثيا خياليا غير نافع، والمفارقة أن
الناس لا يأخذون هذه المخلوقات من الكتاب والمبدعين على محمل الجدّ، لكنهم
ينظرون باحترام إلى نتاجهم بكثير من الجدية كما لو أنه ليس نتاج الأشخاص
أنفسهم. في المرحلة النازية لم تجد الصحافة ما تدين به شخصا هاما معاديا
للنازية مثل (توماس مان) سوى القول إنه روائي ضعيف لأنه.. لا يكتب الشعر،
على العكس من (نيتشه) الذي كان فيلسوفا لكن الدليل على عمق فلسفته هو، من
وجهة نظر النازية، أنه كان شاعرا، مع أن غوته كان فيلسوفا وشاعرا أيضا غير
أن النازية تنسب نفسها إلى(نيتشه) وإلى الموسيقار (فاغنر) الذي كان
عنصريا..!


ومادام الأدب نشاطا خياليا غير نفعي
فلماذا هذا الانشغال به عبر العصور من جانب السلطات الحاكمة؟ وهل من
الممكن أن نتخيل ضابطا من (الغستابو)، جهاز المخابرات الألمانية، مهتما
بتأليف القصص أو كتابة الأشعار كدليل على عمق التزامه بالنازية؟ يمكن
بطريقة ما أن تكون الإجابة: نعم، فوزير الدعاية النازية الشهير (غوبلز)
كتب مقالات لم تنشرها له أية صحيفة بسبب افتقارها للإبداع وكتب مسرحيتين
لم تجدا سبيلا إلى المسرح إلا بعد وصول النازية للحكم، وحتى في هذه الحالة
فقد عرضت إحداهما لثلاثة أيام فقط وكانت استجابة الجمهور لها، الصمت
المطبق..!


***


يقول
الشاعر العراقي (عبد الوهاب البياتي): "كل المبدعين الفاشلين يصبحون
جلادين بيد السلطة"، والعكس صحيح، أي أن لدى الجلادين والسجانين دائما في
أدراجهم رواية غير مكتملة أو قصيدة غير منشورة. لقد كان (موسوليني) كاتبا
صحفيا قبل أن يصبح ديكتاتورا فاشيا وكان يستخدم عبارات أقرب إلى أن تكون
صورا أدبية، فهو يصرخ في إحدى خطبه: " تلمع من ورائي ثمانية ملايين حربة"،
قاصدا أنّ تعداد جيشه يبلغ ثمانية ملايين جندي، رغم أن الجيش الإيطالي لم
يكن يبلغ المليونين. وكان (هتلر) رساما غير مشهور وأصبح ديكتاتورا مشهورا
يمارس الرسم في تصميم المنشآت النازية وقد ألحق الأذى بخمسين مليون إنسان
في الحرب لكنه قبل ذلك ألحق الأذى بخيال مواطنيه عن طريق الدعاية النازية
التي كان يقودها وزيره (غوبلز) الذي قال: "عندما أسمع كلمة ثقافة أتحسس
مسدسي.." الحيز الذي يحدث داخله اللقاء، أو بالأحرى التصادم، بين الكاتب
والطاغية هو حيز الخيال، وهنا تختلط الوجوه بالأقنعة فالإبداع الفاشل ليس
الوجه الآخر للإبداع بل هو الوجه الآخر للطاغية حيث "غياب المخيلة أكثر
أصالة من حضورها" كما يقول (برودسكي)، ومثل معزوفة (نيرون) على أنقاض
مدينة (روما) لا يتذكرها المؤرخون كعمل فني موسيقي بل كعمل وحشي من أعمال
الطاغية. في فيلم ( القيامة الآن) للمخرج (فرانسيس كوبولا) نرى طائرة
أمريكية تشنّ غارة على قرية فيتنامية وهي ليست محمّلة بالصواريخ والقذائف
فقط، وإنما بمكبرات صوت تبث موسيقى ( تريستان وإيزولدة) لإخافة القرويين
بموسيقى (فاغنر) التي كرهها نيتشه كراهية مميتة إلى درجة القول إنها سبب
جنونه، أي أن النازية التي تنتسب إلى فاغنر ونيتشه كانت مصابة بـ(انفصام
الشخصية) من قبل أن تولد.


وإذا كان القاريء
الجيد أفضل من الكاتب الرديء فإن الكاتب الرديء نذير بولادة طاغية وعلامة
من علامات الطغيان. في أواخر عهد (صدام حسين) صدرت في العراق رواية (زبيبة
والملك) التي أشيع أنها من تأليف (صدام حسين) نفسه، وقال النقاد العراقيون
الخائفون إنها رواية جيدة، معتمدين في إخفاء رعبهم على أن الديكتاتور لم
يضع اسمه عليها، ومن حيث أنها رواية أدبية رديئة من تأليف الديكتاتور
فإنها دليل لا يقدر بثمن، بالمعنى الأنثروبولوجي والجنائي، غير أن أكثر
التعليقات طرافة هو تعليق الأديب (عباس بيضون) عندما قال : " صدام حسين لم
يؤلف الرواية التي لم يؤلفها"، ومثله العقيد (معمر القذافي) الذي نسبت
إليه مجموعة قصصية أشيع بعدها أن أديبا ليبيا قام بتأليفها له. الطاغية
يظنّ نفسه مبدعا مثل الكاتب وربما الكاتب المؤسس، وحاكم تركمانستان
(تركمان باشي) ألف كتابا قال إنه تلقاه عن طريق نوع من (الوحي)..!
و(تركمان باشي) نفسه منع تداول الكتب المطبوعة قبل وصوله للحكم ليس في
مجال الأدب والسياسة أو التاريخ بل حتى الجغرافية. وبعد ظهور الجزء الأول
من رواية (دون كيشوت) توقف سرفانتس لسنين عن إكمالها وفجأة صدرت نسخة
مزيّفة زعم مؤلفها أنّها الجزء الثاني من دون كيشوت واضطر سرفانتس إلى
الإسراع بتأليف الجزء الثاني من الرواية التي كان يزعم أنه قرأها بالعربية
وإنه يترجمها إلى الإسبانية. ولكن من هو صاحب النسخة المزيفة من ( دون
كيشوت)؟ من المثير للإهتمام أن يكون رئيس محكمة التفتيش المرعبة أشهر هيئة
قمعية في التاريخ والتي كانت نوعا من (غستابو) عصر النهضة، هو المؤلف
المزيف! ولم تقتل محكمة التفتيش آلاف الأشخاص فقط بل أحرقت آلاف الكتب.
يظنّ السلطان أنه يستطيع أن يمدّ سيطرته التي تشمل عالم الواقع لتشمل عالم
الخيال لكنه سرعان ما يدرك التهديد الذي يشكله الخيال على سلطته المطلقة،
والعزلة التي تبدو ظاهريا سمة الكاتب تصبح خطرا على الطاغية بعد ما كانت
موضع سخرية الرعايا. يجد الكاتب نفسه دوما في موقع حيث ينظر السلطان إليه
باعتباره مثل (سنمار ) الذي كان وحده يعرف سرّ الحجر الذي إذا انتزع انهار
القصر كله، رغم أن (إيتالو كالفينو) يقول إن الكاتب لا يؤلف كتبا عن
الأشياء التي يعرفها بل عن الأشياء التي لا يعرفها. ويظنّ الكاتب حين
يخرجه السلطان من عزلته ويقربه منه، أنه سيمدّ حيز الخيال ليشمل حيز
الواقع من خلال انجذاب السلطان كقوة من قوى الواقع إليه مثل واحد من
مريديه، لكن الكاتب سرعان ما يكتشف أن السلطان قارئ رديء وخطر، وهذا كان
مصير (أفلاطون) و(ابن المقفع) و(مكيافيللي)، فغالبا ما يجازي السلطان
الكاتب بـ(جزاء سنمار) الذي قتل لكي يموت السرّ معه. في الأسطورة
اليونانية، فإن (أوديب) الهارب من أبويه ومن النبوءة التي تقول إنه سيقتل
أباه ويقترن بأمه، وجد نفسه أمام بوابة مدينة طيبة حيث وحش (السفنكس) الذي
يلقي على كل عابر لغزا فإما أن يحله أو أن يموت والجزء الثاني من الرهان
أن (السفنكس) يموت إذا نجح العابر بحل اللغز: (ما هو المخلوق الذي يمشي في
الصباح على أربع.. وفي النهار على اثنتين.. وعند الغروب على ثلاثة ؟) وقد
نجح (أوديب) بحلّ الأحجية حين قال: (الإنسان) فقتل الوحش نفسه. دخل أوديب
مدينة طيبة كالفاتح بسبب سعة خياله وكان قد قتل ملكا على الطريق وجعله
أهالي طيبة ملكا عليها بدل الملك المقتول وزوجوه الملكة لكن تلك اللحظة
كانت بداية نهاية (أوديب) الذي سيعجز عن حل ألغاز حياته الخاصة. (أوديب)
كان بطلا انتصر بخياله على الوحش وما أن أصبح حاكما حتى خانه خياله فحقق
النبوءة التي كان يهرب منها، واكتشف أن أبويه الذين هرب منهما أبواه
بالتبني وأن الملك المقتول هو أبوه الحقيقي وقام أوديب بفقء عينيه.


إن
استسلام (شهريار) أمام إصرار (شهرزاد) على سرد الحكايات وتوقفه عن القتل،
وتنفيذ السفنكس التزامه بقتل نفسه أمام من يحل أحاجيه، هما موقفان
استثنائيان، وفي مقابل السرد الذي يعادل الحياة في (ألف ليلة وليلة) يصبح
الصمت معادلا للحياة حيث.. الجدران لها آذان. في ديوان السلطان (سليمان
القانوني) يحكى أن الإبرة تحدث صوتا مسموعا إذا وقعت على الأرض وسط ستة
آلاف موظف وحارس يتبادلون الإشارات بالأيدي والإيماءات بالرؤوس دون نطق
أية كلمة، فكل كلمة أو تأويلها قد يؤدي إلى الموت. ومع ذلك من النادر أن
يموت السرّ في عالم الخيال لأن عالم الإبداع عالم لا نهائي يتناسل فيه
الكتاب والقراء وما يبدو في البداية سرا "يتم الهمس به في المخادع" يذاع
في عالم الكتابة "من فوق الأساطيح على رؤؤس الأشهاد" مثلما قال السيد
المسيح. يقول (بورخيس): (إنّ الذي أمر ببناء سور الصين اللامتناهي هو
الإمبراطور الأول (شي هوانج تي) وهو الذي أمر بطريقة مماثلة أن تحرق كل
الكتب السابقة عليه زمنيا)، وكانت عقوبة كلّ شخص يتم العثور على كتاب لديه
أن يقوم ببناء السور بقية عمره.. وشي هوانج تي هو نفسه الذي أحرق أمه، وهو
أيضا الذي منع ذكر كلمة الموت لأنه يبحث عن الخلود وحبس نفسه في قصر يضم
حجرات بعدد أيام السنة. وأكثر من ذلك كان (شي هوانج تي) قد سمّى نفسه
(هوانج تي) على اسم الذي اخترع الكتابة!..


ينتهي
الطاغية إلى أن يكون منعزلا وسط بطانته عندما يكتشف أنه لا يثق إلا بنفسه،
وأن أقرب المقربين لديه يشكل تهديدا له، وحتى الزمن يخونه مع اقتراب
شيخوخته. أما المبدع فيعيش في عزلته منذ البداية دون أن يكون منعزلا،
وينتهي متصالحا مع الناس ومع الزمن ذاته لأنه لا يؤمن بالموت ولأن الإنسان
أكثر من الكائن الذي في أحجية (السفنكس) ولذلك يمد خياله خارج الواقع
ويغير الواقع ذاته.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
مُشاطرة هذه المقالة على: reddit

سحر الموت.. سحر الكتابة الخميس 23 شباط (فبراير) 2012 بقلم: نعمان الحاج حسين :: تعاليق

لا يوجد حالياً أي تعليق
 

سحر الموت.. سحر الكتابة الخميس 23 شباط (فبراير) 2012 بقلم: نعمان الحاج حسين

الرجوع الى أعلى الصفحة 

صفحة 1 من اصل 1

 مواضيع مماثلة

-
» الإسلام في ضوء التحليل النفسي(2-2) الاحد 19 شباط (فبراير) 2012 بقلم: فتحي بن سلامة ترجمة : محمّد الحاج سالم
» قراءة مصطفى حجازي (5) من القهر إلى الهدر: شرق المتوسط يهيئ نفسه لرفض الموت الاربعاء 15 شباط (فبراير) 2012 بقلم: لحسن وزين
» ن النبوة الدينية إلى النبوة السياسية.. أو من جنة الرحمان إلى جنة الموت الجمعة 3 شباط (فبراير) 2012 بقلم: نزيه كوثراني
»  من النبوة الدينية إلى النبوة السياسية.. أو من جنة الرحمان إلى جنة الموت الجمعة 3 شباط (فبراير) 2012 بقلم: نزيه كوثراني
»  من النبوة الدينية إلى النبوة السياسية.. أو من جنة الرحمان إلى جنة الموت الجمعة 3 شباط (فبراير) 2012 بقلم: نزيه كوثراني

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
حركة التنويريين الاحرار لشمال افريقيا :: المكتبة الشاملة-
انتقل الى: