لم
يعد مقبولا أن تنام العناوين ببرودة كالجثث فوق الورق وهي مكفّنة ببياضه،
عليها أن تقلع عن ذلك وتكون صادمة مقلقة، وإن تجرّأت أكثر عليها أن تخرج
العيون من محاجرها لترى هول المأساة والتحديات التي تنتظرها. الآن يمكن
الحديث عن نهاية أمم وانبعاث أخرى، وعلينا أيضا أن نتخلى عن تلك اللغة
الأخلاقية المقرفة في تجميل وتزوير الوقائع الاجتماعية والسياسية
والاقتصادية والثقافية والمفاهيم العلمية والحقائق المعاشة. اليوم إمّا أن
تكون الشعوب حرّة مستقلة وبكرامة كاملة، غير منقوصة تحت أية ذريعة كيفما
كانت كخصوصية موروثة ومتوارثة أو هوية ثابتة صنمية، شعوب مسؤولة تعيش
مواطنة حقيقية باستقلالية ومساواة في الحقوق والواجبات، ومتعلمة متطوّرة
قادرة على مواكبة المستجدات العلمية والثقافية٬ ليس من موقع الاستيعاب
فحسب بل أيضا الإسهام في الفاعلية الإنتاجية، أو لا تكون. الفحولة،
الرجولة، الذكورة، الخصوبة، الأمّية، التخلّف وكثرة الأولاد ؛ كلّها أمور
تفضح المستوى النباتي البيولوجي المعيشي الذي تتخبط فيه شعوب أقصت أحلامها
وطموحاتها وفقدت إنسانيتها في هذا الزمن العولمي بتحدياته العلمية
التكنولوجية، وثورته المعلوماتية وانفجاره المعرفي، وبانهيار الأطر
الاجتماعية القديمة والمعايير الثقافية التقليدية، والتحولات التي مست
مفاهيم كثيرة كالتعلم والتعليم والتنشئة والزمان والمكان …كل هذا يتطلب
موارد بشرية مؤهلة قادرة على فرض نفسها، من خلال الاقتدار المعرفي والتمكن
العلمي، المؤسس على كفاءات نفسية، اجتماعية، مهنية، معرفية وخلقية، بما
يسمح لها بالمشاركة والمبادرة والنقد والبناء٬ كذوات حرة فاعلة، مستقلة
واثقة من نفسها وراضية على انتمائها للوطن الذي يوسع آفاقها العالمية.
تطلب العمل والجهد والانجاز وتسعى إليه بصورة دؤوبة، وبنفس طويل في بناء
الذات والمجتمع والدولة والوطن الذي يوفر التقدير والاعتراف والقيمة،
ويعمل على تحصينها وحمايتها بالتكوين والتأهيل والتعلم المستمر، وبالتشجيع
والتحفيز للأداء المتميز، بما يحقق الرضا الوظيفي والضمير المهني
والالتزام الوطني.
جميع الكائنات الحية بما
فيها الإنسان، تجد نفسها في اللحظات الصراعية الصعبة أمام اختيارات
محدودة، فهي إما تلجأ للمجابهة إذا كانت واثقة من قدراتها ومن توازن القوى
مع الخصم أو إلى الفرار والاختباء في حالة اختلال ميزان القوى، أما إذا
كانت الصدمة المباغتة قوية فإنها تصاب بالذعر والتبلد وفقدان الذاكرة. إلا
أنها في لحظات كثيرة عندما تتأكد من الحصار المطبق عليها ولا خيار أمامها
إلا الدفاع عن حقها في الوجود والحياة أو الموت، فغالبا ما تقاوم بشراسة،
وهذا ما حدث خلال ثورات الربيع العربي الذي لم يفهمه المستبد العربي، ولا
جال بخاطر القوى السياسية المعارضة، كما لم يكن مطروحا في كتابات المثقف
الشعري والنثري المأخوذ بسحر ميتافيزيقا الدولة القهرية. هذا هو التهديد
القهري الشمولي الذي أفرزه الهدر كشكل أرقى وجليّ للموت الذي امتد وطال كل
شيء، الإنسان والثروات التي هربت خارج الوطن، وأغرقت البلدان بالديون
الداخلية والأجنبية، مما جعلها أسيرة التبعية الغربية والتحكم في قرارها
السياسي والاقتصادي إلى جانب هدر الموارد والمؤسسات والبحث العلميّ والوعي
والفكر والتفكير والطاقات كشباب…هذا هو السؤال الصعب الذي رآه حجازي ومن
موقعه كإنسان ومثقف ومفكر نقديّ لم يقبل الاستسلام أمام الموت٬ وهو يعرف
أن المعركة لم تعد تفسح مجالا لخيار آخر سوى الكلام أو الموت، والكلام
يعني هنا الدفاع عن الحياة وحق الحياة بشكل إنساني، حيث لا مساومة أو
مقايضة، ولا تنازل عن القيمة والحرية والكرامة والحصانة الإنسانية، كأساس
وأرضية لكل الأفكار والرؤى والعلاقات والانطلاقات الفكرية والاجتماعية
والاقتصادية والسياسية المرغوب في إنجازها وتحقيقها راهنا ومستقبلا. أمام
هذا الهدر الشامل والمرعب، وبغريزة البقاء والمحافظة على حقّ الإنسان
كمشروع وجودي مستقبلي يتوخى الاعتراف والتقدير والاعتبار ويسعى إليه، كما
يهدف إلى حماية حق الأجيال القادمة في حياة إنسانية حقيقية. قلت: أمام هذا
الهدر الذي أتى على الأخضر واليابس فهم حجازي واستوعب عمق الموقف المصيري
وعمق التحليل الذي قدمه مصطفى صفوان في كتابه الكلام أو الموت(1) -هنا
والآن- أدرك الاختيار الصعب، "تكتب أو تُقتل احذر أن تفهم أن هذا الإنذار
موجّه إليك من جلاد ما، إذا تجاوزت سطحية الرمز ستعرف أن صوت التاريخ هو
الذي يتكلم، وهو يعبر عن أحد اعنف قوانينه ׃ كلّ صمت تقصير في حق الحياة.
كل يوم يمرّ دون أن تكون على موعد مع الكلمة يمثل انكسار فرع شجرة الحياة.
وبعبارة بسيطة كل كلمة تضيع هي صوت يخنق٬ صرخة يائسة لا تجد لها صدى،
فضيحة تسقط في مستنقع الأحداث التافهة"(2).
وبهذا
الوعي اليقظ الفاعل والحيّ كتب كتابا رائعا- الإنسان المهدور- ينتصر فيه
للحياة ضد الخوف من الموت، بعد أن جرّد الموت من كافة أسلحته، وحلّل بشكل
عميق بنيات وآليات إنتاج الموت التي تتمثل في هدر شمولي، يجعل حياة
الإنسان تبدو بسيطة نمطية تكرارية ومثقلة بالروتينية والملل في شكل من
التخبط العشوائي الذي تبرّره وتكرّسه ايديولوجية خفية، تتسلّح بتعميم
الجهل ومحاصرة الوعي بالبداهة والطبيعية، كقانون علوي قدري يتطلب القبول
والتسليم بالأمر الواقع كنصيب في الحظ أو النحس، بشكل يغيب حقيقة الوجود
الإنساني كاجتماع بشري يخضع لضرورات العمران٬ كتناقض مجتمعي يؤسسه الصراع
السياسي والاجتماعي كمصالح مادية ورمزية. هذا التناقض والصراع المجتمعي
يخاض في مجتمعات الهدر الاستبدادي بنوع من جلد الذات والاحتماء السلفي
بالماضي والقدر والمكتوب ."إنما يهرب الإنسان من هدره في قدريته ومكتوبه
كي يرسخ هذا الهدر ويفاقمه في حالة من التلقي السلبي له على انه الحالة
الطبيعية التي لا راد لها "(3).
إمعان
وإصرار على قتل التاريخ وما يتطلبه من رؤى علمية وتخطيط واستراتيجيات
مستقبلية، بتعطيل الوعي والفكر والتقدم العلمي، وتهميش الكفاءات إلى درجة
الغربة عن الذات والوطن. وبالمقابل يتم تشجيع الرداءة واللامبالاة
والسلبية، "وبذلك يتدنى الانتماء إلى الوظيفة وتتراجع جذوة الحماس للأداء
المميز وتتفشى مشاعر اللاجدوى ومعها الاستسلام والنكوص إلى مستوى الحاجات
الأولية والرضا بتحقيقها. ويعيش وجوده كإنسان مهدور وطاقة مهدورة وكفاءة
مهدورة وعطاء مهدور" (4).
كما تناول بعمق
ودقة قضية الاستبداد والعصبيات والأصوليات التي تقف في وجه التنمية
والطاقات الحية وصحة المؤسسات التي تتجاوز العصبيات، والأصوليات التي
تنحسر كسقف سياسي تقليدي ولا تاريخي يبني دولا لكن لا يستطيع بناء
الأوطان، بالمعنى الحديث والحداثي كنسيج مجتمعي وليس كقبائل وطوائف
واثنيات ومذاهب، مكرسة التبعية والولاء والانحسار في الزمان والمكان،
المولد للانغلاق النفسي والاجتماعي والمعرفي، والتصلب الذهني٬ حارما
الإنسان من حق التفاعل والتواصل والتعرف على الذات والمجتمع
والوطن والواقع، لإنتاج معرفة جديدة تمكن من السيطرة على الواقع
والمستقبل والمصير. فالاستبداد والعصبيات والأصوليات جميعها تكره بشدة
الإنسان المفكر الذي يسعى إلى المعرفة والوعي "هل من الغريب بعد هذا أن
تؤول مخططات التنمية الطموحة إلى الفشل على طول العالم الثالث –ومنه
بالطبع العالم العربي – ذلك هو أحد الجوانب الخفية المسؤولة عما تخلفه
العصبيات من هدر لطاقات الإنسان والموارد والمؤسسات والوطن ذاته"(5).
إنها
تقوم وفق تبعيتها لقوى الهدر الخارجي بتنمية التخلف الذي يخدم مصالحها
الضيقة، ولو على حساب هدر كيان الإنسان والوطن، مستفيدة من الدرس
الكولونيالي في بعديه السوسيولوجي والانثروبولوجي على المستوى الإيديولوجي
الذي أنتجه بعض علماء الغرب حول المجتمعات المتخلفة، مستبعدة تطوير الجانب
العلمي من هذا الإنتاج النظري والميداني، بل اتجهت قوى الهدر في شكلها
الطغياني إلى استغلال العلوم الإنسانية والاجتماعية للسيطرة على الشعوب من
الداخل "إنه- المستبد- لا يكتفي إذا بالسيطرة على الناس من الخارج بل يريد
السيطرة عليهم من الداخل من داخل ذواتهم على مستوى السلوك والفكر والإرادة
وحتى الوعي والكيان"(6).
فذهب حجازي بعيدا
في تحليله البنيات النفسية والاجتماعية والسياسية، مقدما دراسة تاريخية
نقدية للرصيد الديني والموروث الثقافي السياسي الذي تمتد جذوره إلى بداية
الحكم الأموي والعباسي. هذا الإرث الثقيل بوقائعه ونصوصه الذي لم يكن إلا
تراكما للسقوط السريع للحضارة العربية الإسلامية هو الذي تتنافس في
السيطرة عليه قوى الهدر السابقة، لتجعل شعوبها مجرد عصبيات وقبائل وطوائف
مذهبية، متناحرة تجتر الجمود والتقليد. حيث تعيش كل واحدة أسطورة الفرقة
الناجية الخيرة الطيبة التي من واجبها ممارسة القتل كفريضة وواجب ديني
للآخرين فكريا وسياسيا واجتماعيا وروحيا. وفي مثل هذا الواقع يسهل تسويق
أسطورة الإطار المرجعي الابستيمي للعصور الذهبية في ظل العلاقات
البطريركية، ذات القيم العمودية الذكورية بلغة بيانية إيمانية وثوقية ولا
حوارية، تنتشر الحقيقة المطلقة وتخاف مغامرة المجهول، المنتج للجديد
والمتجاوز للسائد والمألوف الذي يرى الإتباع كله خير والابتداع كله شرّ.
هنا يكمن سرّ قرون الانحطاط ، لأنّ السير كان ضدّ منطق التاريخ وجدل الفكر
والواقع، حيث نعرف أن البراديغم الجديد ينشأ عندما يعجز القديم عن الإجابة
عن التحديات والمشاكل التي يطرحها التغيير والتطور. لكن قوى الهدر عندنا
تدفع باتجاه براديغم الماضي، الشيء الذي يناقض منطق الوقع والبحث العلمي
كاستثمار في المجهول، في هذا النكوص المرضي نجد كل الحقائق جاهزة نهائية
في الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي، وفي كل صغيرة في حياة الإنسان
اليومية، والنتيجة تحريم وتجريم الشك والسؤال المولد للتفكير والفكر
العقلاني النقدي التحليلي، وللوعي الفاعل والمنتج . يعزز ذلك سيادة ثقافة
الندب التي تنتصر لنزوة الموت، وتجعل حياة الإنسان جحيما لا ينتهي تحت ضغط
الهوامات اللذّية المصاحبة للألم، كما انهارت أيضا جميع العلاقات
الإنسانية في البيت والمجتمع، فهدر الحياة يطلق العنان لنزعات الموت
"وعليه فحين تعطل نزوة الحياة والنماء في حالات الهدر، تصبح نزوة الموت هي
اللاعب الأقوى على الساحة الوجودية وعندها تفعل فعلها التدميري الموجه إلى
الذات أو إلى الدنيا والناس أو إلى كليهما معا"(7).
تصر
قوى الهدر على النظر إلى هذا الواقع كخصوصية قدرية طبيعية، والخطير في
الأمر أنها ترفع هذه الخصوصية إلى مستوى التفاخر والاعتداد والتميز،
فيترسخ هذا الوعي في أعماق نفسية الإنسان المتخلف كتجل ذاتي خصوصي يجعله
مستعدا للموت والحرب لتأكيد هذه الذات والهوية المتوارثة، أبا عن جدّ،
بعيدا عن التاريخ وصيرورته وتحولاته في الاستيعاب والإنتاج والتجاوز في
نوع من مقاومة التغيير والتقدم، من خلال استثمار قوى الهدر للرصيد الديني
والموروث الثقافي، وكلّ ما استجد في الحرب النفسية من علوم سلوكية وعصبية
…كلها تهدف إلى "إيقاف التفكير والامتثال للواقع والاقتناع به على أنه
الحقيقة الفضلى وهو ما يفتح الباب أمام كل استبداد وجعله ممكنا"(8).
هذا
الواقع الذي تضافرت في بنائه مراحل تاريخية ثقافية وسياسية إيديولوجية،
تحكمت في صيرورته رؤية المتسلط المستخلف في الأرض كقدر إلهي لا دخل
للإنسان في نشأته وتطوره واستمرار وجوده، وأيضا نظرا لكون قوى الهدر تعيش
في رعب دائم بسبب تضخم أنا المستبدّ وساديته التي تجعله لا يطمئن إلى نفسه
ولا إلى اقرب الناس إليه. يمتحن ولاءهم وخنوعهم ويراقب آليات إيقاف
التفكير والفكر والوعي، انطلاقا من تحطيم ثقافة الجهد والجد والانجاز وطول
النفس في بناء المعرفة والذات. ينتصر للخداع والغش والفساد من خلال العطاء
المشروط بالخضوع والولاء، مما يسدّ الفرص أمام النماء والكفاءات والطاقات
الخلاقة المبدعة، خصوصا الشباب حيث يتم تحريف وتزييف الوعي بآخر ما استجد
في سياسة رضاعة التسلية وصناعة الأحلام والأوهام وفق قيم ثقافية اجتماعية
استلابية، بالسيطرة على التوجيه الثقافي والإعلامي الذي يسمح بالتحكم في
الإدراك وإدارته، بما يخدم تشكيل الأفكار والتصورات والتوجهات والقناعات
بقضايا تافهة لا علاقة لها بواقع الإنسان المتخلف (9) الذي يسعى كلام
حجازي إلى دفعه للفهم والوعي بالعوامل والآليات والبنيات والقوى التي شكلت
وجوده ونمط حياته وأسلوب تفكيره ومفهومه للذات والآخرين والعالم. من هنا
تبدأ الأسئلة ومحاكمة المعرفة، المنهجيات، النظريات، المفاهيم وحتى الفكر
الذي يدعي أنه علمي نقدي وعقلاني السائد في الاقتصاد والسياسة والثقافة …
فإذا لم نفهم ونستوعب حقيقة هذه التاريخية في البنية الاجتماعية الشاملة،
فإننا لن نستطيع أن نحقق القطائع الابستمولوجية الحقيقية، وتأسيس
براديغمات جديدة أساسها النقد والنقض والتجاوز. ضد هذا الموت الهدر، ومن
أجل الحياة التي ستجدد العالم العربي وشعوب المنطقة كلها خلال عقود بل
سنوات قادمة، تكلم حجازي بوعي ومسؤولية وبتحليل وتفكيك نقدي، ملتقطا بعض
عناصر الحياة التي يمكن أن نجعل منها قضايا سامية تستحق الصمود في وجه
الموت/ الهدر لإسباغ معنى على الوجود، وضد الاكتئاب واليأس والانسحاب
الكامل من الحياة يطرح حجازي فصلا رائعا للنهوض والتغلب على التخلف
والانهيار، وذلك من خلال تفكيك ونقد بنيات وقوى وديناميات القهر والهدر،
كأسلوب مقاربة للحرية و التحرر النفسي الاجتماعي، وكتفكير ووعي بحقيقة
المعوقات التي عطلت وهدرت قيمة الإنسان وعادت به إلى نوع من الوجود
البيولوجي النباتي، بعد أن حطمت حيويته وطاقاته وقواه الحية، واغتالت عقله
وتفكيره ووعيه وجميع رغباته وطموحاته وتحكمت في سجل رغباته الجسدية
والروحية، وحكمت عليه بالتقليد وموت الكلام بإلغائه كمشروع وجودي، قلت في
الفصل الأخير المعنون بعلم النفس الايجابي يكتشف الإنسان جمال وروعة قدرته
على الانتقاء والتعظيم والتعويض، بالتعرف على أوجه القوة والفرص
والإمكانات والتركيز عليها باعتماد مقاربة التفكير الايجابي، أي عدم
الاستسلام للظروف المادية والمعنوية، لأن كل تنازل أمام مشاكل وصعوبات
الحياة يؤدي إلى سلسلة من التنازلات والخسائر النفسية والمادية. والأجمل
من هذا كله أن يكتشف الإنسان رغبته وقدرته على سلوك بدائل واختيارات أخرى
للحياة، كلما توفر الفعل النشط الباحث عن تغيير أ سر الظروف بيقظة ذهنية
ومرونة تلاؤمية، "إنها تلك القدرة الذهنية أو المقاربة المعرفية التي تتيح
للشخص تنظيم الأحداث والآخرين وواقعه ذاته في إضاءة جديدة تتيح له رؤية
الأمور بشكل مختلف ينفتح على التحرك والتصرف"،(10) الشيء الذي ينمي عواطف
ايجابية تشحن الذات بالأمل الفعال المستفز للتفكير الوسائلي والتفكير
التدبيري، من خلال تبنيه لتصورات وأفكار تمنح معنى لوجوده وتؤسس لقضاياه
وطموحاته وأحلامه. فيكتسب راحته وتمام حسن حاله وصحته النفسية في الخلق
والإبداع على المستوى الفردي وداخل الممارسة المجتمعية، بخلق حالات البناء
والفرح والأمل والحب عوض الانكسار والشعور بالعجز والفشل والدونية والنقص
المسبب للغضب والاكتئاب. الأمر ليس سهلا لكن لا شيء مستحيل عند الإنسان
وهو يرى الموت الاستبدادي كقهر وهدر يتهدده في واقعه ومصيره ومستقبله وفي
حياته أيضا. كم من المجتمعات قررت واختارت النهوض والتقدم بعد أن عانت
قرونا من العجز والانحطاط، والمجتمعات المتقدمة لخير دليل على ما نقول،
"والمبدأ يقول إنه كلما تم التركيز على السلبيات سدت الأفاق وتفاقم
الاستسلام، وكلما تقدم التحرك نحو الايجابيات تعدلت الموازين وتفتحت السبل
وازدادت فرص الفاعلية والسيطرة على الوضعية "(11)، وأول الطريق هو الوعي
بالتواطؤ الذاتي والتحرر من تراكماته وترسباته وقيوده ومعوقاته بما يسمح
للتنوير الداخلي بالنمو والنماء كانتصار ذاتي ومجتمعي.