هذه محاولة لصياغة معنى للمشهد المضطرب بين الجنسين، اضطرابَ المشاهد الأخرى.
هذه العلاقة كانت دائما إشكالية؛ حتى أيام “التوازن” الغابرة والرومانسية. لكنها اليوم، وفوق إشكاليتها السابقة، مصابة بأكثر من اضطراب. ومن العوارض السريعة لهذين الإشكالية والاضطراب، تضخم ظواهر الخصومة بين الجنسين: الطلاق، العزوبة والعنوسة، العنف العائلي، الاغتصاب، التحرش العنيف في الأمكنة العامة، العودة القوية للتصورات البائدة... يقابلها غياب أية ثقافة تقاربية إنسجامية بين الطرفين، أفرادا وجماعات، لا في الفن ولا في الأدب ولا في غيرهما من مجالات توليد المعاني.
ما الذي يهيمن على العقول الآن؟ إيديولوجيا دينية جديدة معطوفة على ذكورة مشحونة. مهما اختلفت التصنيفات: إسلاميون، رجال سلطة، جماهير، علمانيون، ليبراليون، قوميون.... كلهم يجدون أنفسهم ملزمين بأن يعودوا إلى المرجعية الدينية إذا أرادوا تثبيت خطاهم. المرجعية بفهمها الحرفي السلفي الشكلي، وخزانها القرآن والحديث والسيرة والصحابة وأحيانا اصدقاء الصحابة. الحق مع كل واحد يغرف من هذا الخزان شيئا مما يعطيه الشرعية. إيديولوجيا تبعية المعرفة والوعي للدين.
ثم إنه عصر العودة إلى ماض متخيّل. أو كما يتخيله رجالات هذه الهيمنة، أي الدعاة والشيوخ الفضائيين والأرضيين وخطباء الجمعة في أقاصي القرى والأحزاب الدينية على اختلاف تلاوينها... وليس كما يحتاج المؤرخون واللغويون والأنثروبولوجيون والشعراء... إلى كتابته. رجالات هذه الهيمنة يؤرخون للماضي ويصيغون الحاضر، وأكثر ما يبغضونه في هذا الحاضر، أكثر ما يبدون انهم يقاومونه، هو خروج النساء الى المجال العام، ظهور النساء في المكان العام. الحلال والحرام منْبع سطوتهم. منظومة التحريمات أخذت مكان القانون المدني الصادر عن الدولة. لا يكلّ ولا يملّ المؤمنون عن السؤال عنها، في أبسط تفاصيل حياتهم.... سيل من الفتاوى والفتاوى المضادة.
التحريم النوعي، أي التحريم الذي يطال النساء، أو بالاحرى العلاقة بين الجنسين، هو المسيطر في منظومة التحريمات بطبيعة الحال. أنظر إلى كتاب بن باز “من منكرات الأفراح والأعراس”، نموذجا للفكر التحريمي السائد، حيث يحرم على المرأة مثلا شهر العسل (هل من شهر العسل من دون المرأة-العروس؟) والوقوف على الشرفة والالتفات الى الوراء والمشي وسط الطريق وإظهار القدم أو الظفر والجلوس مع الخطيب على المنصة أو الهودج... ناهيك طبعا عن السفور والتبرج والاختلاط الخ. في سوق المطبوعات الورقية والإلكترونية تجد كمّا هائلا من الكتب والكتيبات من هذا القبيل.
الآن، ماذا في الواقع؟ ماذا في إنتاج المعاني والفنون؟
في الواقع أولا: في المجال العام، حيث تلتقي النساء بأخريات وبآخرين. الطريق، الشارع، السوق، مكان العمل أو الدراسة، المقاهي، السيارة والمترو، أو أية وسيلة نقل عام... الخ. المكان الخارج عن المنزل. كيف يبدو مشهد هذا الواقع؟ تسيطر عليه المحجبات. يسيطر عليه عدم الاختلاط بين الجنسين. يسيطر عليه التحرش العنيف، اللفظي والجسدي، والأخير يصل إلى الاغتصاب في حالات شبه يومية. شارع طارد للنساء إجمالا؛ محجبات كن أم منقبات أم سافرات.
في مجال إنتاج المعاني، والمسيطر الآن عليه هو التلفزيون. وعلى هذا التلفزيون يسيطر صنفان: القنوات المتخصصة أو نصف المتخصصة في فن الغناء، والذي يستحوذ عليه الفيديو كليب الآن. إنه الإرسال الاقوى، الطلب الأكبر من المشاهدين-المستمعين. ونجمات الكليب الآن هن المهيمنات على نجمات الفنون الأخرى، وعلى نجمات مجالات أخرى. ثلاث منهن انتُخبنَ مؤخرا من بين “مئة أقوى شخصية عربية”. أما المضمون، الذوق، المفهوم، النموذج... التي يبثها الكليب، فتعود إلى عوالم الحريم المتخيلة. الأنثى طريدة تبحث عن صياد.امرأة من “الحرمْلِك”، حيث المنافسة بين النساء هي من أجل الاستحواذ على شهوة الرجال؛ فاقدة الحرية، بجمالها، مع انها متحررة من اللباس التقليدي ومن غيره... يفكّك الصحافي احمد المغربي في مقال عن أغنية الكليب فيصف “التناقض المذهل بين ابتذال الـ”أنا“بصريا واستعمال صفة”الأنا“(في الأغنية) التي يفترض أن ترفع من شأنها”، أي شأن هذه “الانا”.(الحياة 16-3-2007).
الصنف الثاني: قد تكون لاحظتَ طبعا أن مستهلكي الفيديو كليب هم انفسهم مستهلكو الشاشة الدينية الأصولية المتخصصة ونصف المتخصصة؛ أو ذات المضامين الدينية الأصولية المتناثرة. الاعتصامات والحملات الالكترونية (موقع “حماسنا” خصوصاً) التي يخوضها شباب مقربون من “الإخوان المسلمين” ضد مغنيات الكليب، ضد “الأباحية” و“الانحطاط الأخلاقي”، ومطالبتهن بالاعتزال والتحجب الخ... كل هذا دليل على مشاهدة عالية وشغف واضح.
وما يجعل الأمر اكثر إثارة هو أن صانعي الفيديو كليب هم أيضا صانعو البرامج الدينية “المنافسة” لها... ظاهرياً. هم أنفسهم الذين يدفعون لهيفاء وهبي ومروى، يدفعون لعمرو خالد وخالد الجندي. اكثر من ذلك: أصحاب هذه الفضائيات اشتروا أفلاما كلاسيكية مصرية يعرضونها في قنواتهم بعدما “يقصّون” مشاهدها الساخنة؛ سخونة متواضعة إذا ما قيست بخلاعة الكليبات التي يعرضونها على شاشات أخرى. وكذلك هم بعض مخرجي الكليب. مثل مخرج الأغنية الساخنة جدا، “نجلا والحصان”، الذي صار الآن يخرج أناشيد دينية، لا وجود لامرأة فيها بتاتاً.
الذكورة في الواقع، كما في المخيلة، موحدة المعاني: السيطرة الكاملة على النساء عبر الدين والجسد. بين الكليب والحجاب التعايش تام. بل يذهب البعض الى اعتبار رواج الكليب من ضرورات رواج مثل ذلك التديّن. عالمان لا يجب التوهّم بأنهما عالم حرية وعالم سجن. بل قد يكون عالم المحجبة أكثر حرية من عالم المرأة-الجسد.
الذكورة الثقافية لها ما يسندها في التقاليد طبعاً. لكنها زادت حدة في الآونة الأخيرة، بل وجدت لها مكانا في الصراع الإقليمي العربي: يوصف “الممانعون” أنفسهم بالذكور، وينعتون غير الممانعين من بينهم بالإناث. ما سمح لبشار الاسد أن يطلق على القادة العرب الآخرين صفة “أنصاف رجال” لأنهم لم يؤيدوا عملية “الوعد الصادق” لـ“حزب الله” الصيف الماضي.
الذكورية الأصولية تتضاعف الآن. مع الغزو العسكري الأميركي، وفكرة الجهاد والمقاتلة بالقتل. وسيادة “حرب الحضارت” على ما عداها من حروب وصراعات. الجهاد الداخلي أيضا، وأداته التكفير. وعداء شديد لكل تعبيرات حداثية من غير قطيعة مع الحداثة. وهذه إشكالية، أو بالأحرى مرحلة جديدة من الإشكالية الإيديولوجية الدينية مع الحداثة، تنتظر من ينكبّ على وصفها.
أيضا لأن الحداثة أنثوية برغم ذكوريتها. قبل الحداثة، لم يكن للنساء أدوات تعبير غير تلك، المتواضعة، التي رسّختها الهيمنة الذكورية السابقة على مصائرهن... وجلّها ينحصر في البكاء والتظلم والركون إلى الأولياء الصالحين. الآن الحداثة مكّنتهن مما باتت الذكورة تعيشه كاستفزاز وتحدّ. العودة عن الحداثة، ولو بالعشوائية التي نشاهد، هي من أجل ستعادة ذكورة متخيلة بأدوات تنتجها بنفسها. صرخة الشيخ الكبيسي لنساء العراق بعيد الغزو الاميركي : “يا نساء العراق تحجبّن!”... رداً على الاحتلال... خير تعبير عن هذه الاستعادة.
الحجاب. عنوان الهيمنة الدينية الذكورية الراهنة. قد تكون حقبتنا أكثر الحقب تكلما وتأكيدا وتكراراً وكتابة حول الحجاب ومن أجله. وحتى الموقف السلبي من الحجاب يستمد أحقيته من المرجعية الدينية. لماذا كل هذا الشأن للحجاب؟ كل هذه الفتاوي والخطب والمقالات والمناظرات.... حول الحجاب؟
أولا: لأن النساء خرجن عن نطاقهن السابق. نطاق الداخل والمنزل. الأمثولة الماضية معروفة: من بيت الأهل إلى بيت الزوج ومن بيت الزوج إلى القبر. في السابق، الحجاب لم يطرح بهذه القوة، ببساطة، لأن لا نساء في الخارج... وإن وجدنَ، فهن لسن “حرات” ليلبسنه، بل “أمات”... فلا نقاش للحجاب، ولا صخب حوله. اما الآن فكثافة الحضور النسائي... يقتضي ليس فقط الحجب بل الفصل أيضا بين الجنسين.
ولكن أيضا: النساء بخروجهن تغيرن. لم يعدن كما كن. الخروج أعطاهن وظائف ومهارات وطبائع جديدة، كلها تتحدى الذكورة، وتهدد امتيازاتها السابقة. مهما كانت هذه الوظائف والمهارات ضئيلة... وهذا بالضبط ما يقلق الذكورة، ويعيدها الى هويتها المتخيلة الاولى. فالرجال، مثلهم مثل كل الكائنات الذكية، شديدو الغيرة على امتيازاتهم ووظائفهم. خاصة أنهم لا يعرفون عالما غير ذاك. وكما تستمد جماعة من الهوية قوة للـ“جهاد” ضد الغرب المعتدي، كذلك تستمد الذكورة من الهوية الذكورية قوة وعنفاً، دفاعا عن هويتها. إذ لا تملك غيرها أمام هذا الطوفان النسائي لمجال الرجال الحيوي، الواقعي والمتخيَّل.
الذكور لم يتغيروا، فيما الإناث تغيرن؟ أحدس شيئا مختلفا: النساء تغيرن والرجال تغيروا أيضا. قليلون جدا دخلوا عوالم المنزل الجديدة عليهم. والذين في الماضي، مثل الطهطاوي أو قاسم امين، تعاطوا بشؤون النساء، لم يعد الآن من يرثهم من الرجال... فالغالبية صارت أكثر توترا، أقل وضوحا، أقل ثقة وتماسكا، أكثر عنفا... مع ميل صريح وضمني لإعادة النساء إلى البيت أو إلى وظائفه. في الشارع بالتحرش بعد التحجيب والتنقيب والفصل. وفي المخيلة بالحريمية الفنية القيمية.
وكلها أسهم ضد الذكورة. إنه صراع. يصل إلى الحرب غالبا. عنوانه الولاء لهذه الذكورية بالحجاب. شيوخ الحجاب يقولون عنه أنه يجسد “التواضع الأنثوي”. وهي الكلمة الملطّفة للخضوع، للولاء. عنوان التسليم بضرورات الخروج البيت، الخروج “السليم”... وإن كان عنوانا غير كاف.
وهنا حالة من حالات البوح عن معاني الولاء في الحجاب؛ بطلته باحثة قومية تقدمية غير محجبة. اذ تكتب في مجلة “المستقبل العربي” (العدد 336 شباط 2007) مقالا عنوانه “إلى لبنان المقاوم... رسالة محب”. تصف فيها أول زيارة لها لحسن نصر الله، الأمين العام لـ“حزب الله”، فتقول: “أذكر دائما المرة اليتيمة التي التقيتُ فيها بالأمين العام لحزب الله، ولم يكن الجنوب قد تحرر، ولا كان هو حسن نصر الله الذي بات يعرفه كل طفل عربي. ودُعينا للقائه (...) ودار حوار حول ما إذا كان رجال الحزب سيطلبون منا وضع غطاء الرأس قبل لقاء السيد، وكنت ممن قلن لو طلب فلن أذهب (...) استمعنا إليه باهتمام يحكي عن خبرة مقاتليه في مواجهة الصهاينة وهم يفرون أمامهم كالجرذان، يتحدث بثقة (...) ويطمئننا على أن نصر الله قريب (...) قلتُ لنفسي: في المرة المقبلة إن طلبوا مني غطاء رأس قبل لقائه فلن أقاوم...”. إنه صراع. لا تخوضه كل النساء بهذا المنطق من التسليم.
هناك نساء، حالات من النساء، يرمين الذكورة بأسهم إضافية تؤجج نارها:
— نوال السعدواي تصيب الذكورة في صلبها عندما تطالب بأن يُضاف اسم الأم الى اسم الاب في هوية الطفل. منطقها الصراعي يقسم العالم إلى فسطاطين: الابوة الشريرة، الديكتاتورية، الفاسدة. والأمومة نبع الحرية والعدل والحنان. (من موقع نوال السعداوي)
— د. سعاد صالح. العميدة السابقة لجامعة الازهر. أصدرت فتوى (أيدها المفتي بعد ذلك) تجيز إعادة غشاء البكارة بعملية جراحية لمن “ندمت أو تابت أو أرادت الزواج كستر لها”.
وتجيز لها بالطبع عدم البوح بالعملية. تصور! الذكورة في فخ امتيازاتها! حالة غير مسبوقة. مئات الشابات يذهبن الى الإمارات حيث تتوفر هذه العمليات من غير الجهر باسماء صاحباتها. كيف تردّ الذكورة على انتعاش أسلوب الإخفاء الحريمي النكهة، المتلازم مع ورفع راية المظلومية التاريخية في آن؟ بأية وسيلة تدافع الذكورة المخدوعة سلفا من ادعاء العذرية الكاذب؟
— مدرسة الإعلامية المصرية المشهورة هالة سرحان. مدرسة الربط بين الاستفزاز الجنسي والفضائحية، وبين الانعتاق من هيمنة الذكورة واستبدادية الدولة: يرى قسمٌ من المثقفين المصريين في هالة سرحان “جرأة واستفزازا يخرق التابوهات ويحطم كلاسيكيات الإعلام الرسمي، ويبوح بالمسكوت عنه”. فيما المثقفات يرين فيها “انعتاقا من قيود إعلام الدولة، وفرصة عصية على التكرار للوصول إلى الناس بأفكار تصدم وعيهم فيحصل ’الحراك’ المأمول”. (مقال حمدي رزق. ملحق نوافذ، يومية المستقبل. 4-3-2007)
- حالة الزواج العرفي. قبيل الهيمنة الدينية، كان الزواج العرفي محدودا. كانت تقبل عليه عادة الأرملة الراغبة بالزواج ثانيةً من غير خسارة راتب التقاعد لزوجها المتوفي. الآن صار الزواج العرفي “محلّلا دينيا شرعيا” للعلاقات الجنسية بين مئات الآلاف من الشابات والشباب وسط الهيمنة الدينية على العقول. الخاسرات فيه هن الشابات: الحمل وإنكار النسب، بل إنكار المعرفة الشخصية أصلا. مئات الآلاف من دعاوي النسب أمام المحاكم.
الدعوى الأكثر شهرة، دعوى هند الحناوي. والدها يستعين بالعلم الحديث (DNA) ليثبت صدق ابنته. فيكسب القضية التي يرفعها الى المحاكم. الـDNA يحدّ من حرية الذكور المتزوجين عرفيا في تدمير حياة رفيقاتهم في المتعة العابرة.
كل ذلك أشبه بالأسهم النارية. بالمناوشات الحربية. لا تبني، بل تقتنص. فيكون الرد بالمزيد من الذكورة المجروحة، التي تحمل النسوية تبعات جروحها. فيما هذه الاخيرة، ويا للمفارقةَ! لم يتبق من شحنتها السابقة الا الدفع الاستفزازي الذي أوجد النساء في الخارج... ولا شيء غيره.
والسؤال التالي على ما سبق هو: ماذا نفعل بهذه الحرب الضروس بين النساء والرجال؟ هل نؤجّجها مثل بقية الحروب؟ أم ندعو إلى وقفها؟ إلى هدنة عقل؟ هدنة تخفض درجة توتر هذا الصراع؟
كيف يتم ذلك؟
أولا: بنقد الأنوثة. بنقد صفات الأنوثة غير المستحبة. مثل الاستئثار والتحايل والابتزاز والغيرة والمازوشية وضعف القدرة على التجريد، تماما كما تُنقد الذكورة .
ثانيا: الإعلاء من شأن الذكورة الحميدة مثل: التحليل والنجدة، وحس الفكاهة والواقعية والشجاعة ورباطة الجأش.. (معايير الأنوثة والذكورة مأخوذة عن كتاب عزة بيضون ’الرجولة وتغير احوال النساء’ . المركز الثقافي العربي. بيروت. 2007)
ننزع الألغام المحيطة بنا: نبدأ بوقف الحرب بيننا، أو بالتخفيف من جنونها. فنخفض درجة الاضطراب بين الجنسين. الأمر يستاهل؟ ربما... إيقاف الحروب الصغيرة أو تجميدها، بعد العجز عن إيقاف الكبيرة منها.
الإثنين ديسمبر 23, 2013 10:49 pm من طرف ميمونة