وفق أية معايير تتم عملية الإصطفاف بين من هو وطني ومن هو غير وطني؟ وماهو العمل الوطني؟ وكيف لعمل ما أن يكون غير وطني؟ كل فرد منا، معرّض هذه الأيام لأن يكون وطنيا وأن لا يكون. وحكم الشئ ونقيضه يعود إلى وجهة نظر، أكثر من إستناده على تعريف دقيق أو مواصفات حاسمة. أن تكون وطنيا، هو أن تعمل بما فيه مصلحة للوطن. وفي هذا التعريف ورشة تفتح أسئلة تليها أسئلة عن مصلحة الوطن، وكيف تتحدد مصلحة الوطن؟ ومن يقرر ما هي مصلحة الوطن؟ وهل الوطن أهم مما هو فوق الوطن أو يتجاوز الوطن؟..الخ.
لم يعرف الإنسان الوطن إلا في تاريخه الحديث. قبل ذلك كانت عملية الانتماء – وما زالت في بقاع كثيرة – محكومة بالقبيلة أو العشيرة أو الجماعة. فالناس محكوم عليهم بالعيش متجمعين درءا لقسوة الطبيعة من جهة، وإتقاء من غرائز الشر التي يطلقها الإنسان الآخر أو الجماعة الأخرى. وحول تلك الجماعة تتأسس أصول الوطنية (أو سيادة شعبية تتفاعل مع عدو حسب روسو). ذلك أن الدفاع عن الجماعة فيصل في هذا المضمار. فمن هو معنا هو وطني. ومن هو ضدنا فهو عدو. ومن هو معنا ولا يعمل معنا فهو خائن. التصنيف شديد البساطة، حاد الملامح، نافر الحدود.
لكن البشرية تطورت، وتجاوزت بدائيتها القبلية المتوحشة (رغم أن الإنسان ذئب لأخيه الإنسان حسب هوبز)، وأضحت طموحات البشر تتعدى مجرد الوقاية الغرائزية. فالوطنية لم تعد تفسيرا ماديا على فعل مادي بسيط، بل صارت موقفا سياسيا وفلسفيا، من الصعب إختزال ملامحه. ثم أن الوطنية لا تختصر فقط بموقف بسيط من المعتدي أو المحتل، فذلك أبسط أشكال المواقف، بل من تعريف ذاتي غير علمي للعمل الوطني.
فهل الشيوعية خيار وطني؟ وهل الجمهورية خيار وطني؟ وهل النظام الإسلامي خيار وطني؟ وهل إسقاط صدام حسين عمل وطني؟ وهل الكفاح المسلح عمل وطني؟ وهل كامب ديفيد عمل وطني؟ وهل وقف إطلاق النار في الجولان عمل وطني؟
الأسئلة كثيرة ودائمة لا تنتهي، طالما ان مفهوم الوطنية ملتبس ضبابي نسبي وذاتي. يحكم التاريخ بالوطنية من عدمها بحسب الرواية وحسب الرواة. هكذا حين انتصرت الثورة البلشفية في روسيا، مجّد التاريخ الوطنيون الشيوعيون وهجا في الوقت عينه أؤلئك المدافعين عن روسيا القيصرية البيضاء. علماً أن الشريحة الأخيرة كانت تعتبر الشيوعية الزاحفة على بلادهم، كارثة سياسية ملحدة، من شأنها تدمير حضارة البلاد وبنيانها الثقافي والتاريخي. فالشيوعية في هذا العرف، عمل غير وطني، بل خيانة عظمى وجب وطنيا مكافحتها.
بالإمكان ملاحظة نفس العوارض، إبّان التجربة النازية في ألمانيا. فهتلر في أطروحته، لم يكن إلا ليستند على شعور قومي وطني إستلهم مقوماته من معاهدة فرساي المذلة. النازية إذن في هذا السياق تمرد على أعداء الأمة، وخلاص لها من المذلة. أن تكون نازيا، إذن أن تكون وطنيا. على هذه الأسس تم إستنفار القوى الوطنية ضد القوى اللأوطنية.
هزمت النازية أواسط القرن الماضي على يد الوطنيين. هكذا إجتمعت الوطنية الشيوعية أيام ستالين، مع الوطنية الديغولية في فرنسا، والوطنية البريطانية أيام ونستون تشرشل، معطوفة مع وطنية أميركية آتية من وراء المحيط أيام روزفلت.
صادرت الناصرية في مصر بعد ثورة تموز-يوليو من عام 1952 العمل الوطني، وأسست لتعريفات جديدة لا تتفق مع تلك التعريفات التي كانت سائدة ومسيّرة لحركة عرابي والنحاس وزغلول. فالوطنية الناصرية شكلت قطيعة مع الواقع من خلال إسقاط الملكية ، بينما وطنية السابقين تعايشت مع واقع الحال. وحين تبوأ أنور السادات سدة الحكم، أطاح بالوطنية الناصرية ووطنييها، وأسس لثقافة أخرى، تشكك بالوطنية الناصرية وتسبغ عليها تهم الغوغاء الخطابي والعاطفي. والأمر أبعد من أن يكون فرض أمر واقع، بل هو تبدل في القناعات العامة، بحيث أضحى إخراج مصر من حلقة الصراع مع إسرائيل أمرا وطنيا مستساغا من قبل العامة، لما فيه من “مصلحة للوطن”.
ونسوق الحالة المصرية ليس في إطار السرد التاريخي، بل على قاعدة أن يصبح الوطن أولوية على ما وراء الوطن. أضحت الوطنية أقرب إلى المعايير الدولية المعتمدة. أي ملتصقة بالحدود الجغراقية والسياسية المعترف بها فعليا وقانونيا، ومبتعدة عن تلك الحدود غير المحددة، والتي ترسمها طموحات إيديولوجية حالمة. ( وهو مفهوم قريب مما أثاره هابرماس من تمييز بين “أمّة الدولة” و“الأمّة الثقافية” ).
في فرنسا تحالف الوطنيون الشيوعيون واليساريون والديغوليون في معسكر واحد، من أجل هدف واحد : تحرير البلاد من الإحتلال النازي. ولم يجفل هذا التحالف من أن يأتي التحرير بمساهمة أميركية كبرى. فلم نطّلع مما تكدس من وثائق، على بيان شيوعي مفترض، يعتبر إنزال الحلفاء في النورماندي تدخلا في شؤون فرنسا، ولم نصادف بيانا يطالب بترك أمر فرنسا و“نزاعها” الألماني للفرنسيين. لكن الوطنية الفرنسية الجامعة سرعان ما تحولت إلى وطنية متناقضة على أسس أيديولوجية من جهة، وعلى أسس تتعلق بالظروف التاريخية من جهة أخرى.
فالوطنيون الشيوعيون الفرنسيون وجدوا أنفسهم أقرب إلى الوطنيين الشيوعيين الروس من الوطنيين الديغوليين الفرنسيين. حتى أن وطنية شارل ديغول نفسه، أملت عليه، وبسبب إرث فرنسي كبير، التمرد على الحليف الأطلسي والخروج من مؤساسته العسكرية، كما أملت عليه الإقتراب من المانيا (العدو السابق) من أجل درء خطر وطنية قادمة من روسيا.
أن نحرر فلسطين فهو الحد الطبيعي والعادي من الوطنية العربية. تنادت الجيوش وفشلت في التحرير. لكن شعار التحرير بقي منتصبا، صامدا، لا تكسره نكبة، ولا تضعفه نكسة، ولا يرهبه اجتياح. من رحم وطنية التحرير خرجت ثلاثة مفاهيم جديدة: الأول مفهوم قاد إلى كامب دايفيد في مصر وإلى وادي عربة في الأردن. وهو مفهوم يعطي للوطنية تعريفا واقعيا (البعض يسمونه انهزاميا)، يوقف الصراع، ويحدّ من خسائره، وينصرف إلى معالجة قضايا الوطن متجاوزا لفخ الثنائية التاريخية الاحتلال – التحرير. الثاني مفهوم قاد إلى تجميد الصدام العسكري المباشر، فأدى في سورية إلى إسكات جبهة الجولان، على أن يستمر الصدام العسكري غير المباشر من خلال الآخرين وجغرافيا الآخرين. والثالث وهو متعلق بهؤلاء الآخرين الذين أبقوا حالة الصدام في ظل فشل سيناريوهات عدم الصدام.
تتناقض هذه الوطنيات وتتنافر. ففيما يعتبر حزب الله وسورية أن عملية خطف جنود إسرائيليين عمل وطني بإمتياز، رأت الرياض وعمّان والقاهرة، ومن منظار وطني مختلف، أن تلك مغامرة غير مسؤولة. على أن دمشق لطالما اعتبرت أن قيام نشاطات عسكرية تنطلق من الجولان هو عمل غير مسؤول يتجاوز ويعطل مفهوم الوطنية السوري. على أن وطنية حزب الله تصطدم بوطنية فريق آخر في لبنان، يعتبر الوطن ثروة واستقرارا، ومن غير الوطنية الاستهتار بهما.
في العراق مثال وبيان حول إختلاط المفاهيم وتضادها. المقاومة في العراق تنطلق من مسلمة بسيطة: طرد الاحتلال. فالوطنية البدائية تتطلب هذا السلوك دون تردد أو اجتهاد. على أن الطابع الطائفي لهذه المقاومة يطرح ألف سؤال وسؤال على الطابع الوطني لهذه المقاومة. فلماذا يعتبر البعض الوجود الأجنبي احتلالا تجب مقاومته، في حين يجد بعض آخر أنه احتلال تجب معايشته، فيما يرى بعض ثالث أنه تواجد صديق وحليف تجب مؤآلفته. وفي مقابل وطنية عراقية ترى في التخلص من نظام صدام حسين عملا وطنيا واضحا، حتى بمساعدة الأجنبي، راجت وطنية مقابلة ترى بالتمسك بهذا النظام أو تمجيد أطلاله شكلا من أشكال الصمود والوطنية.
ما زالت الوطنية عند العرب افتراضا أيديولوجيا واجتهادا أخلاقيا. فطالما أن العرب قبلوا بدولة إسرائيل ويعملون على استعادة وضع ما قبل عام 1967، وطالما أن العرب، قبل وبعد ذلك، قبلوا واستسلموا وعملوا ضمن مفاهيم إتفاقية سايكس – بيكو، وطالما أن العرب هضموا مسألة إرتباط حاضرهم بحاضر العالم، واقتصادهم بالمزاجيات الاقتصادية لهذا العالم، وطالما أن العرب فشلوا قي تعريف مشروع واحد يؤسس لمستقبلهم، فإن مفهوم الوطنية سيبقى تابعا لقرار الحاكم وطيّعا لغرائزه. كما سيظل لاهثا وراء السلطة، سواء كانت سلطة مال أو سياسة أو دين. وسيبقى مفهوم الوطنية طريا ضعيفا ضيقا يلهث من أجل تغطية عورات هذه “الأمة”.
انهارت المنظومة الشيوعية، ولم تعد تصدّر للعرب مفاهيم الوطنية الحديثة. وانقسم العرب قبل ذلك على تقييم الأداء المقاوم في أفغانستان. فالمقاومة الأفغانية (وهي فعل وطني وفق التعريف البديهي) أداة من أدوات الغرب قي صراعه مع الشرق بنظر الوطنية العربية المهيمنة آنذاك، في وقت لم تكن الوطنية العربية الأخرى تجاهر بمناصرتها للوطنية الأفغانية، بل كانت تعمل في الخفاء على دعمها. وتفقد الوطنية الراهنة عند العرب هويتها الجامعة، فتصبح قطرية وقومية وإسلامية، قد تتعارض فيما بينها، فيما تروج وطنية طائفية ما زالت تتستر (حتى شعار آخر) بأقنعة وطنية الوطن الكبير. اليوم وبعدما انتصرت وطنية الأفغان، ثم انتصرت وطنية طالبان عليها لتنصر وطنية ثالثة ..الخ، يجد العرب أنفسهم أمام وطنية الإسلاميين التي تطيح بكل التاريخ الوطني لكافة الفرقاء، وتشكك بذلك التاريخ وتنال منه. فتأتي وطنية الإخوان المسلمبن، و“الجماعات” والقاعدة وحزب الله والجهاد وحماس..الخ لتصادر وطنية تقليدية، ناورت بين الواقعية والطوباوية، وتؤسس لوطنية أخرى تعيد طرح السؤال من جديد: من هو الوطني؟ وكيف تكون وطنياً؟.