العقل وردة في صليب الحاضر، حاضرنا الذي يزخر بما لا يتسق ومطالب العقل ومطالب الروح الإنساني؛ فالظاهرة التسلطية ذات السيماء الرعاعية، التي أشرنا إلى بعض ملامحها (أنظر مقالاتنا السابقة)، وما أنتجته في حياتنا العامة من ظاهرات فرعية، كالفساد السياسي والفساد الأخلاقي و“الاحتكار الفعّال لمصادر السلطة ومصادر الثروة ومصادر القوة”، والفقر والعوز والخوف والإحباط وفقدان الأمل وانطفاء الروح وتفكك علاقات التضامن والتكافل ومبادئ الحق التي كانت قائمة بالفعل بين المواطنين، في العهد الليبرالي، وتفكك الروابط الوطنية، التي كانت قائمة بالفعل في ذلك العهد، والاندفاعات الغريزية التي يسوقها التعصب والهوى وغيرها ظاهرة مجافية للعقل، تدل على أن النظام الشمولي القائم قد تعفَّن وتجاوزه زمن الأحياء، وتبين فساده لكل ذي بصر وبصيرة، جرَّاء فساد المبادئ التي قام عليها أولاً، وإفساد مبادئ الدولة الأمة، أو جنين الدولة الأمة، التي كانت قائمة بالفعل تالياً، إفساداً تجلىفي إلغاء عمومية الدولة، ومن ثم، إلغاء مبدأ المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات وإلغاء سيادة القانون وإلغاء سيادة الشعب. تلكم هي أبرز “مكتسبات”النزعة الراديكالية القومية والإسلامية والاشتراكية على حد سواء. فالنزعة الراديكالية هي النزعة الراديكالية في كل زمان ومكان، وثمارها هي هي في كل زمان ومكانممهورة بعذابات ضحاياها ودمائهم.
النزعة الراديكالية، “الثورية” التي وسمت الأحزاب السياسية، التي تدين بوجودها لمناخ الحرية في العهد الليبرالي، تبدَّت في الواقع العملي نزعةً حصريةً وإلغائيةً ومعادية للحرية تزدري كل ما هو عام ومشترك بين المواطنين وبين الفئات الاجتماعية، وتعظم بالمقابل كل ما هو خاص وحصري، حتى غدت الخصوصية والحصرية والأنانية من أبرز سمات الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية. فمن البديهي وهذه الحال أن يغلب التعصب والانغلاق على التسامح والانفتاح والتواصل، في جميع الميادين، ولاسيما في الميدان الأيديولوجي، فكان الانقلاب الكارثي: من جماعة سياسية إلى جماعات أيديولوجية، لا تختلف الحزبية منها عن المذهبية والطائفية والإثنية (قيل الكثير وكتب الكثير عن التطرف الإسلامي، الذي انتهى إلى إرهاب موصوف، ولكن الذين قالوا وكتبوا، ومعظمهم من اليساريين الثوريين، لم يتنبهوا إلى حقيقة أن التطرف والإرهاب ملازمان للأيديولوجيات الراديكالية، قومية كانت أم إسلامية أم اشتراكية، ماركسية لينينية. وهما، أي التطرف والإرهاب من نتاج الوعي الأيديولوجي بوجه عام). الأحزاب القومية والجماعات الإسلامية، التي يفترض أنها أحزاب وجماعات توحيدية، قادت بلدانها ومجتمعاتها إلى التشظي والتفكك، حتى بات توحيد ما فرقته هذه الأحزاب والجماعات يحتاج إلى كفاح طويل.
ومع ذلك، فإن العقل وردة في صليب هذا الحاضر ذاته وبين أشواكه، وهو المحبة المصلوبة على هذا الصليب، والسلام الذي ينوء تحث ثقله. أجل، العقل محبة، والله محبة. ومهمة الفكر الذي يستحق اسمه، هي، كما أشرنا، اكتشاف العنصر العقلي في هذا الحاضر السوري أو العراقي أو اللبناني أو المصري .. وإعادة اكتشافه، والعمل على هديه وبمقتضاه بلا كلل ولا فتور. وإن برودة العقل وحرارة القلب مما يحتاج إليه الفكر ليقوم بمهمته. المبدأ الضروري للفكر هو المحبة، محبة الحقيقة، فالحقيقة فوق “الأمة العربية” وفوق “الأمة الإسلامية”؛ وليست حكراً على أحد؛ ولا تنجلي إلا بكشف الباطل الذي يلابسها. ومن ثم، فإن محبة الحقيقة هي محبة الجميع، لأن الحقيقة قائمة لدى الجميع، بلا استثناء، وقائمة فيهم، وقائمة بهم. محبة الحقيقة مفهومة على هذا النحو هي محبة الوطن والمواطنين، ومحبة القانون، الذي يوجد من أجلنا جميعاً، ومحبة الدولة الأمة، ومحبة الإنسان. المحبة لا تنفي الاختلاف والخلاف والتنافس والتعارض، بل تؤنسنها جميعاً، ولا تنفي تضارب المصالح، بل تبتكر أساليب إنسانية، مدنية وسلمية، للتفاوض فيما بينها، على قاعدة التساوي في الحقوق والواجبات ومشروعية التفاوت في ما لا سبيل إلى التساوي فيه. وتلكم هي فضيلة المجتمع المفتوح، الذي ينمو ويتقدم بلا انقلابات راديكالية وبلا أضاحي بشرية، المجتمع الذي تنتصر فيه الحياة وتنمو وتزدهر. والمحبة فوق هذا كله تعترف بمشروعية الخطأ، فلا تجرِّمه، بل تتوسل به لمعرفة الصواب، فالخطأ ظل العمل، وتميز الخطأ من الجريمة، فتدين الجريمة أخلاقياً قبل أن تدينها قانونياً، لكي لا يعاد ارتكابها مرة تلو مرة. سلاح المحبة، إذا جاز أن يكون لها سلاح، هو الفضيلة، والفضيلة في الدولة السياسية، أي في الجمهورية، هي المواطنة.
سيقول قائل: هذه مجرد نزعة أخلاقية لا مكان لها في عالم السياسة، وفي مجتمع الحاجات ومسرح التاريخ. نقول: أجل، هي نزعة أخلاقية، لأن رؤيتنا تقوم على أساس أن الأخلاق هي المبدأ والغاية، وهي ما يميز المجتمعات البشرية من مجتمعات الحيوان. وتقوم على أساس أن الجذر العقلاني للسياسة هو نفسه جذرها الأخلاقي، الذي جف في عالمنا العربي، والذي جففه هو الاستبداد. الحكمة الشعبية تقول إن الأخلاق هي المعاملة، وإن الدين، بوصفة منظومة أخلاقية، هو المعاملة. هذا القول الشعبي هو قول فلسفي بامتياز، لأنه يحيل على الخصائص النوعية للعمل البشري وللتعامل بين البشر، بوصفهم كائنات عاقلة وأخلاقية بالتساوي. الأخلاق هي مما يميز الإنسان من الحيوان. فيوم تستعيد السياسة قيمتها الأخلاقية يستعيد المجتمع مبادئ المحبة والسلام والعدالة والمساواة ومبادئ الحق.
هذه الرؤية للسياسة تقوم على مبدأ نفي الحرب إلى خارج المدينة، أي إلى خارج المجتمع، وإلى خارج المدنية، وتضع جميع الحروب، بما فيها التي تسمى حروباً عادلة أو حروب تحرير، في خانة الجرائم، فليس هنالك ما يسوغ الحروب “الظالمة”، وليس هنالك ما يسوغ ردود الفعل التي هي من نوع الفعل ذاته؛ فلا يعقل أن يكون الفعل ظالماً ويكون رد الفعل، الذي من نوع الفعل ذاته، عادلاً، إلا إذا كنا نعوِّل على النوايا والأهداف الذاتية وحدها، لا على النتائج. ويصير السؤال هنا عن نوع القوة اللازمة لإحقاق الحق، هل هي قوة قبضة اليد (القوة العسكرية)، بتعبير كلاوزوفيتز، أم قوة الجسم جسداً وروحاً (قوة البنيان الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والسياسي والأخلاقي)، والجسد هو كثيف الروح والروح لطيف الجسد؟. الجسد، أعني المجتمع، هو كثيف الثقافة والسياسة والأخلاق، التي هي روح المجتمع، والثقافة والسياسة والأخلاق هي لطيف المجتمع، فليس في المجتمع شيء ليس موجوداً في الإنسان بالقوة أو بالفعل.
وفق هذا المبدأ الأخلاقي نحاول إعادة تعريف الأمة، انطلاقاً من الواقع القائم ومن الحاضر. فننظر إلى جميع السوريين، على اختلاف “أصولهم” وفصولهم، وعلى اختلاف انتماءاتهم الإثنية اللغوية والدينية والمذهبية والطائفية والطبقية... على أنهم أعضاء متساوون في الأمة الدولة السورية تساويهم في الحقوق والواجبات، ونحاول إعادة تعريف الوطنية والقومية على هذا الأساس. فلا يعقل أن تنص الدساتير السورية المتعاقبة على تساوي جميع المواطنين في الحقوق والواجبات ولا نعدُّهم جميعاً أعضاء في الأمة السورية. وكذلك الأمر في الدول الأخرى. لا يعقل أن يكون الفرد مواطناً في الدولة المعنية ولا يكون عضواً في الأمة ذاتها، إلا في “العقل العربي” أو “العقل الإسلامي” أو “العقل” الطبقوي، الماركسي اللينيني الستاليني. ومن مقتضيات هذه الرؤية النظر إلى الجماعات الإثنية اللغوية، بما فيها الجماعة العربية الأكثر عدداً، وإلى الجماعات الدينية والمذهبية والطائفية والطبقية على أنها متساوية في القيمة الإنسانية، بغض النظر عن عدد أفراد كل منها، ومتساوية من ثم في الحقوق، في رحاب المجتمع المدني السوري. وقد حصرنا المساواة بين الجماعات المختلفة في نطاق المجتمع المدني، لأنه لا يجوز أن تنتج من تعددها واختلافها أي نتائج سياسية، على صعيد بنية الدولة الأمة ووظائفها الاجتماعية. ذلك لأن الحقل السياسي الوطني هو حقل عام تتجلى عموميته في المؤسسة التشريعية وفي عمومية الدستور والقانون، كما تتجلى في السلطة السياسية العامة، الوطنية، المكلفة إنفاذ القانون والسهر على حسن تطبيقه، وفي السلطة القضائية المستقلة التي تعمل بموجب القانون الوضعي.
نشير هنا مرة أخرى إلى الحد المفهومي والواقعي بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي؛ فقد نتج من عدم مراعاة هذا الحد خلط كثير، أخطر نتائجه ما نراه اليوم من محاولات تقاسم السلطة العامة وتقاسم السيادة الوطنية هنا وهناك، وفق النسب العددية للجماعات الإثنية والدينية والمذهبية والطائفية ووفق قوة كل منها وقوة ميليشياتها. ونشير مرة أخرى أيضاً إلى أن العقد الاجتماعي الذي هو قوام وحدة الأمة هو عقد بين أفراد أحرار متساوين في الحقوق والواجبات، أي متساوين في المواطنة والوطنية، لا بين عشائر وطوائف وملل ونحل وإثنيات. وكونه كذلك، أي كونه عقداً بين أفراد أحرار ومتساوين، هو أساس ديمومته، في حين يتعرض العقد بين جماعات إثنية ومذهبية وطائفية للنقض بين الحين والحين، ما يجعل من “الاستقرار السياسي” و“السلم الأهلي” هدنة بين حربين، ويجعل من السياسة امتداداً للحرب بوسائل أخرى.
الأمة الموجودة بالقوة، هي الأمة السورية أو الأمة اللبنانية أو الأمة العراقية أو الأمة المصرية أو غيرها من الأمم / الدول، التي اصطلح على وصفها بـ “الدول العربية”. وكان بالإمكان أن نقول إن الشعب الموجود بالقوة هو الشعب السوري والشعب اللبناني والشعب العراقي والشعب المصري وغيرها مما اصطلح على تسميتها “الشعوب العربية”، لولا حرصنا على تحديد المفاهيم وتعيين الفروق فيما بينها. فمفهوم الأمة يحيل، وفق الرؤية التي يقوم عليها البحث، على الوعي الأخلاقي لجماعة بعينها، في حين يحيل مفهوم الشعب على الوعي السياسي للجماعة ذاتها. وقد أشرنا إلى العلاقة الضرورية منطقياً وواقعياً بين الأخلاق والسياسة (نقترح تسلسلاً تصاعدياً ينطلق من المجتمع إلى المجتمع المدني فالشعب فالأمة فالدولة / الأمة. ومن الضروري تعيين الحدود بين هذه المفاهيم التي تنتمي إلى النسق المعرفي ذاته). فالعمل في سبيل تحويل الدول الأمم الموجودة بالقوة إلى دول / أمم موجودة بالفعل هو وظيفة السياسة، بجميع منطوياتها الاجتماعية الاقتصادية والثقافية والأخلاقية. وما لم يتصد المثقفون والأحزاب السياسية الوطنية ومؤسسات المجتمع المدني الأخرى، في كل من هذه “الدول”، لهذه المهمة سيظل الجميع خارج دائرة الفعل، وستظل مجتمعاتنا تعيد إنتاج بناها التقليدية، وتعيد من ثم إنتاج التحاجز الاجتماعي، وشروط الحرب الأهلية.
وفي اعتقادي أن صفة العربية لا تضيف إلى هذه الدول / الأمم شيئاً، وحذفها لا ينقص منها شيئاً، إذا كان العرب، في أي دولة منالدول التي تتوفر على تعدد إثني، قادرين على الاعتراف بأنهم جزء من الأمة، بغض النظر عن كثرة العدد. أما إذا كانوا غير قادرين على ذلك، وظلوا مصرين على عدم الاعتراف بحقوق متساوية لمواطنيهم من غير العرب، فإن صفة العربية تضيف إلى هذه الدولة أو تلك صفة العنصرية و“التعصب القومي”، فإن اعتراف الأكثرية العددية بالجزئية ينطوي على موقف أخلاقي يؤسس للفضيلة السياسية، أعني المواطنة، ويجعل من الأمة الموجودة بالقوة هنا أو هناك أمة موجودة بالفعل. لا أدري ما الذي يضير العرب من الاعتراف بأنهم جزء من الأمة القائمة بالقوة أو بالفعل، مع أنهم الأكثر عدداً، ومع أن لغتهم هي اللغة الرسمية في هذه الدول، بحكم كونها لغة الأكثرية العددية من جهة، ولعدم وجود لغات تنافسها من جهة أخرى، وبحكم القاع الثقافي المشترك بين العرب وغير العرب من مواطني هذه الدول. بل إنني أعتقد أن اعتراف العرب بأنهم جزء من الأمة، في كل بلد من هذه البلدان، هو المدخل الضروري للمساواة، لا بين المواطنين فحسب، بل بين الأعراق واللغات والثقافات والأديان والمذاهب والطوائف والطبقات، وهو المدخل الضروري أيضاً للإفادة من نعمة التعدد والاختلاف، ولكي لا تتحول هذه النعمة إلى نقمة، كما هي الحال في غير مكان. فإن المساواة بين المواطنين تظل مثلومة وعرضة للنكوص عنها ما لم تقترن بالمساواة، في الحقوق والواجبات وفي القيمة الروحية، بين الأعراق واللغات والثقافات والأديان والمذاهب والطوائف والطبقات والأحزاب السياسية والاتجاهات الفكرية.
فما لم يعترف العرب بجزئيتهم، وهم القوم الأكثر، لا يمكن أن يعترفوا بتساويهم مع غير العرب في الحقوق والواجبات، ولا يمكن من ثم أن يشقوا طريقاً آمنة إلى مستقبل ديمقراطي، ولا يمكن أن يتحرروا من أوهام خصوصيتهم ويرتقوا إلى آفاق كونية وإنسانية أرحب وأخصب وأغنى وأجمل. وحين يعترف العرب بأنهم جزء من كل مجتمع من المجتمعات التي يعيشون فيها، سيكتشفون أن مقولة الأمة العربية غير ذات معنى، وأنها لا يمكن أن تندرج في رؤية فكرية وسياسية ديمقراطية. وهذا لا يعني أن يتخلى العرب عن عروبتهم، لأن هذا مستحيل واقعياً، أو أن يكفوا عن الاعتزاز بثقافتهم وتراثهم، فهذا مستحيل ذاتياً وموضوعياً، أو أن يكفوا عن التواصل والتضامن والتناصر والتكافل فيما بينهم، فهذا معيب أخلاقياً؛ فإن نضج الهوية الوطنية وارتقاءها إلى مصاف الكونية يجعلان من التواصل والتضامن بين من تجمعهم روابط شتى من باب الأولى.
وما لا يقل أهمية عن ذلك أنهم سيعلمون الجماعات العرقية اللغوية الأخرى درساً ضرورياً، إن لم تتعلمه سيظل على جدول أعمالها، ما لم تكن راغبة في العزلة والانكفاء على الذات والمضي في دفع أثمان باهظة من أجل لا شيء، والتشبث بأوهام “الخصوصية القومية”، التي لم تنتج لها شيئاً في الماضي، ولن تنتج لها شيئاً في المدى المنظور، لأسباب لا تتعلق بإرادة العرب وحدهم، ولا تتعلق بإرادة الجماعة الإثنية الراغبة في إقامة دولة قومية لها، كالكورد مثلاً. ولعل من مصلحة العرب في كل من العراق وسورية خاصة أن يعترفوا اعترافاً مبدئياً ونهائياً بحق الكورد في إقامة “دولة كوردية”، لإطفاء جذوة التعصب القومي عند الطرفين معاً، ففي هذه الحال فقط يمكن أن تتضح الخيارات النهائية للكورد العراقيين والسوريين، ويمكن للعرب والكورد معاً أن يشقوا طريقاً واضحة إما إلى مواطنة كاملة، وإما إلى صداقة عربية كوردية راسخة مع الدولة التي ينشدها الكورد في حال قيامها. فإن حق الانفصال كحق الطلاق الاعتراف به لا يعني وجوب حصوله، وهو في جميع الأحوال رهن بإرادة الطرفين ومصلحة كل منهما. الانتماء إلى الدولة الأمة اختيار حر، فما أكثر العرب الذين اختاروا أن يكونوا مواطنين في دول أخرى منحتهم حقوقاً مساوية لحقوق مواطنيها وتسنموا فيها مناصب رفيعة. العقل لا يخاف من الحرية، لأنها ماهيته وجوهره. الخوف من الحرية، بالمعنى الذي أشار إليه أريك فروم، هو مرضنا الخبيث، وهو ما يجعلنا نعيد إنتاج انتماءاتنا ما قبل الوطنية وما قبل الأمَّوية في البنى والمؤسسات التي يفترض أنها بنى ومؤسسات مجتمعية عامة، وطنية، حديثة وعصرية، كالنقابات والأحزاب السياسية ومؤسسات الدولة.
العالم كله اليوم في قارب واحد؛ والمشكلات الكبرى التي تقض المضاجع، كالفقر والجهل والمرض والإرهاب والتصحر وتلوث البيئة والاحتباس الحراري والأسلحة التقليدية وغير التقليدية التي تبدد جزءأً مهماً من قوة عمل الشعوب ومن ثرواتها، وتؤجج نيران الحرب وغيرها غدت مشكلات عالمية، ليس بوسع أي دولة أن تتغلب عليها بمفردها. إذا كان الأمر كذلك، وهو كذلك بالفعل، فمن البديهي أن يكون السوريون أو العراقيون أو اللبنانيون أو المصريون ... في قارب واحد تتقاذفه أمواج عاتية، فإما أن ينجوا معاً وإما أن يغرقوا معاً. والشرط اللازم وغير الكافي للنجاة هو إعادة بناء الوطنية السورية والوطنية العراقية والوطنية اللبنانية والوطنية المصرية وغيرها، أي إعادة بناء العقد الاجتماعي في كل من هذه البلدان عقداً بين أفراد أحرار، لا بين جماعات إثنية ومذهبية وطائفية، عقداً يجعل من سكان كل منها أمة حديثة ودولة حديثة. فإن التعدد والتنوع والاختلاف والتعارض في كل من هذه البلدان هو ما يجعل العقد الاجتماعي ضرورياً، وإن ما هو مشترك بين جميع مواطني كل منها هو ما يجعله ممكناً. إن تحت هذا الخراب الذي تسببت به الأنظمة الشمولية عقداَ اجتماعياً قائماً بالقوة يحتاج إلى جهود الجميع ليصير عقداً اجتماعياً بالفعل. هل نشكر الحروب الأهلية التي تعلم أن لا محيد عن التفاوض الاجتماعي والسياسي ولا محيد عن العقد الاجتماعي في نهاية الأمر، أم ندين لا عقلانية ولا أخلاقية من يخوضونها؟ أليس العقل في كل مجتمع قادراً على تلافي مثل هذه الكوارث؟! وليس للعقل في أي مجتمع من تجسيد فعلي سوى في الدولة الأمة. الدولة الأمة هي ما يعصم المجتمعات من الانزلاق إلى أتون الحروب الأهلية، ويعصم الأفراد من الجهل والهوى.
الحروب الأهلية المتفجرة في غير مكان والكامنة في غير مكان تبين بالسلب، حتى للمواطن البسيط، قيمة الدولة الوطنية، الدولة الأمة، ملاذاً آمناً لا ملاذ غيره للأفراد والجماعات. أين الدولة؟ هذا هو السؤال الذي صار يردده المكتوون بنار الفوضى والدمار وحرب الجميع على الجميع في العراق ولبنان وفلسطين والسودان والجزائر ... وفي سورية وغيرها أيضاً.
المثقف مسؤول أخلاقياً، لا عن الجرائم التي ارتكبت فحسب، بل عن تلك التي سوف ترتكب أيضاً. والفكر مسؤول كذلك. فلا سبيل إلى بناء دولة وطنية بلا ثقافة وطنية وبلا وعي وطني، حتى لو توافرت الشروط الأخرى. وإذا كان ثمة من مقياس للضمير، ولا سيما ضمير المثقف، فإن المشكلات التي تقلقه هي مقياس ضميره؛ فإذا كانت هذه المشكلات هي مشكلات مذهبه أو طائفته أو جماعته الإثنية أو حزبه فضميره على قد المذهب أو الطائفة أو الجماعة الإثنية أو الحزب، وإذا كانت هذه المشكلات هي مشكلات مجتمعه ووطنه فضميره على قدهما، وإذا كانت هذه المشكلات هي مشكلات الإنسان أينما كان فضميره على قد إنسانيته. فهل سينهض المثقفون بمسؤوليتهم الأخلاقية، وهل سيستيقظ فيهم الضمير الإنساني؟! الضمير الإنساني هو أساس الضمير الوطني، لا العكس، والكونية هي رافعة الوطنية، لا العكس. المفكرون والفلاسفة والعلماء والأدباء والفنانون، الذين تدين لهم البشرية بالجميل كانوا جميعاً وطنيين بامتياز، لأنهم كانوا كونيين بامتياز. إنهم فخر أوطانهم وفخر البشرية المثقفة بالتساوي.
المدخل الضروري إلى بناء الوطنية السورية أو العراقية أو اللبنانية أو المصرية .. ، على صعيد الفكر، وعلى صعيد السياسة أيضاً، هو الاعتراف اعترافاً مبدئياً ونهائياً بالقيمة الروحية: الفكرية والسياسية والجمالية للتنوع والاختلاف، وبأنهما، أي التنوع والاختلاف، من أخص خصائص الواقع، ولا سبيل إلى إنكارهما أو التحايل عليهما، ناهيك عن محاولة السيطرة عليهما، على نحو ما فعلت الأنظمة الشمولية والأحزاب الشمولية. فقط حينما نعترف بقيمة التنوع والاختلاف يمكن لكل منا أن ينظر إلى الآخر على أنه مواطنه، وعلى أنه تجلي ماهيته الإنسانية، ويمكن لكل منا أن ينظر إلى الآخر على أنه “أنا”، وأن تمتعه بحقوقه وحريته شرط لازم لتمتعي بحقوقي وحريتي. الاعتراف بقيمة التنوع والاختلاف والنظر إلى الآخر على أنه مواطني وتجلي ماهيتي الإنسانية يفضيان بالضرورة إلى الاعتراف بأن الحقوق المدنية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية هي حقوق المواطن وحقوق الإنسان، لا حقوق العربي أو المسلم أو الكوردي أو المسيحي .. إلخ. هذا الاعتراف المبدئي والنهائي، الذي تنتج منه نتائج سياسية مختلفة عما هو قائم عندنا اليوم، هو بالأحرى اعتراف بالواقع الفعلي ليس غير، وهو مما يبطل حجج “وزراء الله” وأوليائه الصالحين، من القوميين والإسلاميين والاشتراكيين، بالوصاية على البشر، والولاية على عقولهم وضمائرهم. الاعتراف المبدئي والنهائي بأن جميع السوريين، مثلاً، مواطنون متساوون في الحقوق والواجبات، وبأنهم أحرار في ما يعتقدون، وبأنه لا يجوز أن تنتج من انتماءاتهم الإثنية اللغوية أو الدينية أو المذهبية أو الطائفية أي نتائج سياسية هو المدخل الضروري لبناء الوطنية أو الأمَّوية، التي تجعل من السوريين أمة حديثة.
الفكر شكل العالم، فهنالك أشكال للعالم بقدر ما هنالك من منظومات فكرية أو فلسفية، وبقدر ما هنالك من رؤى فنية وأعمال إبداعية، لا تغنينا جميعها عن إعادة التفكير في العالم كما هو معطى لنا بالحياة، من دون أن تثنينا شكوى العقل من قيود التجريد عن إعادة التجريد مرة تلو مرة، لإنتاج مفاهيم جديدة، ورؤى جديدة، من زاوية نظر كل منا لموضوع فكره وعمله. وما ذلك إلا لأن بلوغ الفكرة الشاملة أو الحقيقة المطلقة مستحيل علينا وعلى من سيأتي بعدنا، كما كان مستحيلاً على من سبقونا، لأن الفكرة الشاملة (الفكر أو العقل أو الله، وهي ثلاثة أسماء لمسمى واحد هو الإنسان) منهمكة في عملية خلق وإبداع لا تتوقف ولا تنتهي. فلنغذّ السير، بلا فتور، على طريق اللانهاية كاظمين أسانا من نهائية الأفراد وآجالهم المحدودة والمحتومة، وليس من عزاء سوى التمتع بجمال الحاضر والانشغال به والاشتغال فيه