الإِنسية أو الأَنَسيَّة HUMANISME مذهب مفكري النهضة الأوروبية في إحياء الآداب اليونانية والرومانية القديمة. والأنسي هو العالم بهذه الآداب القديمة، يعمل على إحيائها، وليس لديه أي اعتبار عملي يتقدم على الرغبة في المعرفة بما هي معرفة. “فالعقل الذي تحرر تمام التحرر لم يعد يسترقه، كما في الجامعات من قبل، الحاجة إلى تعليم لتأهيل رجال الدين” (إميل برهييه، تاريخ الفلسفة، العصر الوسيط والنهضة، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة، بيروت، ط1، 1983، ص 267.).
النهضويون، الذين عملوا على إحياء الآداب اليونانية والرومانية، وقعوا على “سر تربية الروح الإنساني”، كما لاحظ الفيلسوف الفرنسي إرنست رينان، لأن قضايا الإنسان ومصائره كانت الموضوع الرئيس لدى أولئك الأسلاف، والموضوع الأثير لدى من عملوا على إحياء آدابهم. ومن ثم يمكن تعيين حدود الإنسية بتحرر العقل والضمير من أي وصاية ومن أي سلطة، دينية أو دنيوية، وبالرغبة في المعرفة بما هي معرفة، أي بما هي مبدأ وغاية في ذاتها، رغبة مؤسسة على مبدأ الحرية والثقة بالعقل، الذي يتجلى في ملكات كل فرد وفي قابلياته وإمكاناته، فليس بوسعنا فصل الإنسانية عن الفردية، وعن الذاتية، بما هي استقلال وحرية.
بهذه المعاني الثلاثة معاً: الوقوف على سر تربية الروح الإنساني، وتحرر العقل والضمير من أي سلطة أو وصاية، والرغبة في المعرفة بما هي معرفة، فضلاً عن استعادة الإنسان إلى مركز العالم وإلى مركز التفكير، يمكن أن نصف إلياس مرقص بأنه من كبار الإنسانويين في الفكر العربي المعاصر.
إحدى ملاحظات إلياس مرقص على الخطاب العربي المعاصر كانت “تضخم الـ”نحن“على حساب الـ”أنا“؛ إذ كان يرى أن”هذه الـ“نحن” قد تكون ستاراً لـ“الأنا الأنانية”. وأن فقدان الـ“أنا أفكر”.. قد يكون سبب فقدان الـ“نحن” و“تبددها”. فالمجتمع، في نظره، هو “مجتمع الاختلاف، وإلا فهو ليس المجتمع”. وأن “الهوية هي هوية في مجتمع. أما المزايدة فتضيِّع المجتمع والأمة” (الياس مرقص، نقد العقلانية العربية، دار الحصاد للنشر والتوزيع، دمشق، 1997، ص 13. وسوف نشير إلى الاقتباسات الأخرى من هذا الكتاب بإدراج رقم الصفحة). وقد ضيعتهما. وكان يرى أنه حين تصير الأمة العربية 200 مليون (أو 300 مليون) “أنا أفكر” تكون قضية الوحدة العربية قد خطت خطوتها الأولى.
ليس عبثاً أن تأتي هذه الأفكار في مقدمة كتابه “نقد العقلانية العربية”، الذي نشر بعد وفاته، لأنه كان حريصاً على استعادة بداية مفقودة كان “الفكر العربي” المعاصر ولا يزال يتخطاها، فيبدأ، حين يبدأ، مما بعدها. البداية المفقودة هي المبدأ البسيط، الذي لا يحتاج إلى برهان على صحته، أعني الكوجيتو الديكارتي: “أنا أفكر إذن أنا موجود”.
فقد انشغل الفكر السياسي العربي، على مدى عقود، في البرهنة على “وجود” الأمة العربية، والأمة الإسلامية والطبقة العاملة وصراع الطبقات، واستعان، في سبيل ذلك بجميع “النظريات القومية”، والاشتراكية وبالتراث الفقهي، الديني والماركسي، من دون أن يلتفت إلى المبدأ البسيط، الذي يؤسس النظر العقلي من جهة، ويؤسس الأمة من جهة ثانية. أعني من دون أن يلتفت إلى حقيقة أن البسيط هو أساس المركب، وأن المعيَّن هو أساس المجرَّد، وأن المتناهي هو أساس اللامتناهي، وأنه لا تشابه ولا تماثل بلا اختلاف، ولا انتظام بلا عشوائية، ولا قانون بلا حرية ... وأن الفرد الطبيعي هو أساس المجتمع المدني، التجسيد العياني للأمة، وأن المواطن هو أساس الدولة الوطنية.. وأن المبدأ البسيط هو المبدأ العام، الذي يحمل بذرة القانون، وأن العلاقة بين كل حدين من هذه الحدود وغيرها هي علاقة جدلية، ديالكتيكية. الديالكتيك، أو منطق العلاقة ومنطق الصيرورة، كما كان يصفه إلياس مرقص، يذهب عميقاً في عملية / عمليات تملك العالم، بالعمل والمعرفة، بل بالعمل / المعرفة، ويكشف عما هو جوهري في عالم الإنسان (المجتمع والدولة، والمجتمع الدولي، مجتمع الأمم والدول)؛ فإن ما هو جوهري في عالم الإنسان هو الإنسان ذاته، بتعبير ماركس. الإنسان، الذي يتعين في الفرد الطبيعي (الكائن الاجتماعي) وفي المواطن (الكائن السياسي والأخلاقي)، الفرد الذي ينتج ذاته في العالم وفي التاريخ، ويستعيد موضوعية العالم وموضوعية التاريخ في ذاته مرة تلو مرة.
ثمة حدان جدليان: الحد الأول هو الإنسان في العالم وفي التاريخ؛ والحد الثاني هو عالم الإنسان وتاريخ الإنسان. ليس بوسعنا أن نتوصل إلى الإنسان في واقعه الفعلي إلا من خلال عالم الإنسان وتاريخه، وليس بوسعنا فهم عالم الإنسان وتاريخه إلا بدلالة فاعلية الإنسان الحية، الواعية والهادفة، وبدلالة خصائصه النوعية، بصفته طبيعة تعي ذاتها أولاً، وبصفته صانع عالمه وتاريخه ومحكوم بهما ثانيا،ً وبصفته كائناً عاقلاً وأخلاقياً بالتلازم الضروري ثالثاً؛ فالأنسية هي وحدة العقل والأخلاق؛ فإن ما هو عقلي هو أخلاقي؛ وما هو أخلاقي هو عقلي. فلا يستقيم الحديث عن الإنسان والإنسية من دون القبض على البعد الأخلاقي للواقع المعطى، لا على ما فيه من عناصر عقلية فحسب.
أعني بالبعد الأخلاقي للواقع الأساس الأخلاقي للتعامل بين الناس، أي للعلاقات الاجتماعية وللأعراف والعادات والتقاليد وللشرائع الدينية، السماوية وغير السماوية، وللقوانين الوضعية، والأساس الأخلاقي للنظام الاجتماعي المعني وللنظام السياسي المعني وللنموذج الثقافي المعني. وليس من المناسب اختصارها جميعاً في ما نسميه “منظومة القيم”، بسبب الإيحاء المنظومي للتسمية، أي الإيحاء باستقلال هذه المنظومة عما عداها من “منظومات”. البعد الأخلاقي للواقع هو حضور الله في حياة البشر وفي تاريخهم. “إذا كان الله غير موجود فكل شيء مباح”. لعلنا بذلك نقارب فكرة الروح، وفكرة الحياة الروحية، عند إلياس مرقص، وهما فكرتان تعينان حدود العقل وحدود الحياة العقلية، وتنفتحان لا على المشاعر والأحاسيس والرغبات والأهواء والنزوات والأشواق والأحلام وعلى عوالم العاطفة والخيال وعوالم الحب فحسب، بل تنفتحان على عوالم العشوائية والمصادفة والاحتمال، التي تضع النظام، وعلى عوالم الحرية التي تضع القانون، فضلاً عن انفتاحهما على عوالم الحق والخير والجمال.. فإذا كان العقل هو عقل النظام والقانون، على كل صعيد، فإن الروح أو النفس هي هذا وأولئك جميعاً. العقل، بخلاف الروح، لا يتعرف ذاته في الفوضى والعشوائية والمصادفة والاحتمال، بل في الكون والنظام، ولا يتعرف ذاته في الحرية الذاتية، بل في القانون بوصفه حرية موضوعية، ولا يسمح للشعور أن يجد الدفء في أعماق قلبه الخاص، بتعبير هيغل.
العثور على المبدأ البسيط أو المبادئ الأولية، البسيطة، المؤسسة لكل نظر ولكل كائن، والتي تُدرَك بالبداهة العقلية، هو العثور على سر تربية الروح الإنساني الحر، الذي يتأبَّى على الانحلال والذوبان في “جوهر” غير جوهره أو في ماهية غير ماهيته، كالدين أو العرق أو اللغة أو الطبقة أو الحزب... ويتأبى على التأطير والتنميط. لذلك لم يكن إلياس مرقص ينظر إلى المفكرين العرب (وغير العرب) إلا بصفتهم أشخاصاً “نظلم الحقيقة إذا أدخلناهم في دروج، (فلا) معنى (عنده) لصيغ مشهورة من نوع”فكر ديني“و”فكر علمي“و”فكر ماركسي“و”فكر قومي“، (وغيرها من الصفات) التي أكلت الموصوف وتأكله كل يوم على نحو متعاظم” (14). ولذلك كانت دعوته للعرب حارة وصريحة: “انهوا ثالوث الوثنية والمثنوية والحلولية، فهو قاتلكم. لقد وصلت البشرية إلى أكبر مفترق في تاريخها الطويل. أنتم منها وهي منكم. يوجد عالم، ليس فقط نوع بيولوجي انتروبولوجي واحد، بل يوجد عالم أكثر فأكثر؛ أنتم منه؛ هو منكم. اجعلوا الإنسان حاكماً على كل أمة، اجعلوا التاريخ حاكماً على التواريخ؛ ثمة تقدم بعد أمة العرب، لماذا تخلفتم بينما تقدم غيركم؟ واجهوا الموقف آلان مع العالم بتناقضاته.” (15)
المبدأ هو “أنا أفكر إذاً أنا موجود”، مبدأ أولي، يعيِّن مقولتين وعلاقة: مقولة الفكر، ومقولة الوجود، وعلاقةً ما بينهما. العلاقة هي موضوع الحكم؛ لا الوجود في ذاته، ولا الفكر في ذاته. الوجود الفعلي المتعيِّن هو الفرد والمفرد (الكائن). ماهية الفرد الإنساني هي الفكر، وماهية الفكر هي الحرية؛ الحرية هي ماهية الإنسان، وماهية وجوده في عالم الضرورات التي يعيها شيئاً فشيئاً ويوماً بعد يوم، هذا هو الأساس. الحرية بصفتها وعي الضرورة هي المؤسَّس، لا الأساس. والفكر، من ثم، ليس فكر المنظرين والفلاسفة، على أهميته وضرورته، بل هو ملكة الحكم لدى كل فرد يعمل وينتج، فلا فكر بلا عمل ولا عمل بلا فكر. ملكة الحكم، أو العقل، “أعدل الأشياء توزعاً بين الناس، لأن كل فرد يعتقد أنه قد أوتي كفايته منه...” ذلكم هو الأساس الأنطولوجي المكين للمساواة، مع الاختلاف، ومع التفاوت في ما لا مساواة فيه، لا مع التفاضل. الإنسان كائن عاقل وأخلاقي؛ والناس جميعاً متساوون، لا في الحيثية الإنسانية فحسب، بل في الملكات والاستعدادات والقابليات. المبدأ العقلي هو ذاته المبدأ الأخلاقي. هذا الأساس الأنطولوجي ضروري للتفكير في الديمقراطية وحقوق الإنسان، لكي لا تكون الأولى مجرد استثمار “سياسي” في الكم أو في قوة العدد، ولكي لا تكون الثانية استنسابية، كما هي الحال عندنا.
العلاقة بين الفكر والوجود علاقة ضرورية، لا يقوم أحد طرفيها من دون الآخر، لا يقوم فكر من دون الوجود، لأن الفكر، بجميع منطوياته، هو شكل هذا الوجود. ولا يقوم الوجود الإنساني من دون الفكر، لأنه مضمون الفكر ومحتواه. الوجود الإنساني من دون الفكر (وسنضيف: ومن دون الأخلاق) هو مجرد وجود حيواني. ذلكم هو مغزى قول هيغل: الشكل، في مغزاه الأكثر عينية، هو العقل، بوصفه معرفة نظرية؛ والمضمون، في مغزاه الأكثر عينية، هو العقل، بوصفه الماهية الجوهرية للواقع، سواء كان واقعاً مادياً أو أخلاقياً. لا شكل بلا مضمون ولا مضمون بلا شكل. السؤال اليوم هو عن مضمون الفكر العربي: القومي أو الإسلامي أو الاشتراكي أو الليبرالي الجديد، فكر الحداثة وفكر ما بعد الحداثة، وعن مضمون الوعي الاجتماعي في هذا المجتمع العربي أو ذاك، أي عن علاقته بالواقع العياني، المادي والأخلاقي، وهو السؤال الذي ما انفك إلياس مرقص يطرحه ويحاول الإجابة عنه، في نقده للفكر القومي العربي وللماركسية الستالينية، في نسختها العربية.
الفلسفة في نظر الياس مرقص شيئان:
1 – طريقة فكر، (أو) فكر هو طريق، أوله الكلمة والمفهوم، الكلمات والمفاهيم، وغايته الواقع.
2 – تصور للإنسان وتاريخه ومصائره الآن.
وقد لاحظ أن هذا مفقود عند كثيرين من العرب. هؤلاء “عندهم”الوجود“،”الطبيعة“، عندهم”الأمة“، عندهم”الجماهير“و”الثورة“و”الاستعمار“، ليس عندهم الإنسان والفكر والحقيقة. يمكن أن يقولوا:”جماهير“،”أمة“،”ثورة“، «طبيعة”.. مثلما يقولون: طاولة، كرسي، جبل .. ويجهلون أن هذه الأشياء “العادية” وصولاً إلى المدن والمعامل والحقول والمواشي والأنواع النباتية والحيوانية الداجنة هي جميعاً من صنع الإنسان واختراعه". (16).
ويضيف: “مثلي الأعلى ليس”العلمية“بل”الحقيقة“. الحقيقة مع الفكر والكلي، مع الروح والإنسان. لحني لحن سقراط، وليس بتاتاً لحن أوغست كونت والماركسية الستالينية ولوي ألتوسير والسوربون، ولا سيما سربنة العرب. أقيم موقفي ضد جوامع السوربون وموسكو والأزهر بلا فرق ...” (16). الوضعية الإيجابية ضرورية، ولكنها لحظة من لحظات الديالكتيك، هي لحظة الفهم، لأنها منقوشة في روح الكائن، في الكينونة؛ والكينونة لحظة فحسب من لحظات الصيرورة، لحظة فحسب من لحظات الديالكتيك. الديالكتيك هو منطق الصيرورة، وهو الذي ينصف الوضعية الإيجابية ويعين حدودها، ويحول دون صيرورتها مذهباً.
عالم الإنسان (المجتمع المدني والدولة السياسية والمجتمع الدولي) هو من إنتاج الإنسان ذاته. فالإنسية لا تنحل في تقريظ الإنسان والتمدح به، بل في الاعتراف بأنه معيار جميع القيم، وبأنه غاية ذاته، وغاية في ذاته، مع فكرة استقلال الوجدان وجهاد المعرفة وجهاد النفس، والاعتراف، مع ذلك، بأنه خطَّاء ونفسه أمارة بالسوء، ومفطور على النقص والاحتياج، معرفته ناقصة دوماً وعلمه ناقص دوماً، ما يضع حاجته إلى الاجتماع، وإلى الاكتمال بالآخر، والاعتراف مع ذلك بفاعليته الحرة، الخلاقة، وبذاتية الفرد وفرادته. وتتأسس على مقولة العمل والإنتاج الاجتماعي، وعلى مقولة التملك، لأن كل إنتاج هو تملك. وهذا يتعدى الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، وانقسام المجتمع مالكين وغير مالكين، إلى تملك العالم بالعمل والمعرفة، لكي يصير العالم إنسانياً شيئاً فشيئاً، وجديراً بالإنسان. المجتمع المدني والدولة السياسية هما معاً الإنسان مموضعاً بتعبير ماركس، وهما قابلان للتحسن قابلية الإنسان لذلك. إلياس مرقص على هذا الخط. “إن ما هو عقلي متحقق بالفعل، وما هو متحقق بالفعل عقلي. عند هذا الاقتناع يلتقي الفيلسوف والرجل البسيط، ومنه تبدأ الفلسفة دراستها لعالم الروح ولعالم الطبيعة على حد سواء” (هيغل، أصول فلسفة الحق، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، ص 114). التأويل اليساري أو اليميني لمقولة هيغل هو بالأحرى تأويل أيديولوجي، لا علاقة له بالفلسفة. العنصر الفلسفي يكمن في واقع أن الفكر يتموضع، أي يتحقق بالفعل، بتوسط العمل. وما هو واقعي يُدرك بالفكر، فيغدو فكراً، هو فكر الواقع ذاته، الذات تتموضع والموضوع يتذوَّت. تلكم هي البذرة التي تحمل شجرة الديالكتيك، وهنا تجد الإنسية أساسها المكين؛ الإنسان يضع ذاته في جميع منتجات عمله المادية والروحية، يضع ذاته أو يموضعها في العالم. جميع منتجات عمل الإنسان تستمد قيمتها من الإنسان، خالق جميع القيم. لذلك كان الياس مع إلعقل ضد “العقل السليم”، مع الفكر ضد العقيدة والمذهب، مع الفرد ضد محاولات تذويبه وإلغاء ذاتيته في أي جماعة، مع الاختلاف ضد محاولات السيطرة على الاختلاف وطمس الفروق وإلغاء الحدود، مع الحرية ضد جميع أشكال الاستبداد والولاية على البشر والوصاية على عقولهم وضمائرهم.
وكان، مرة أخرى، مع العقل ضد “العقل السليم”؛ لأن العقل السليم هو مجموعة الأحكام والأحكام المسبقة لعصر من العصور، (كوبرنيك ذهب ضد “العقل السليم”، وكذلك أينشتاين وأمثالهما)، وضد “العقل العربي” و“العقل الإسلامي”، لأن الصفة تقليص وتحديد، وهي هنا تقليص وتخفيض للعقل، وتقليص وتخفيض للعروبة وللإسلام، إنها ضرب من نسبوية ثقافية تفترض أن الحقيقة عند العرب أو عند المسلمين هي غيرها عند غير العرب وغير المسلمين. الحقيقة غير الرأي وغير الحكم، الأولى لجميع العقلاء، والثاني لصاحبه أو أصحابه فحسب. هذا لا يعني تسفيه جميع الآراء وازدراء جميع الأحكام، بل يعني أن في الرأي عنصراً عقلياً لا ينجلي إلا بالحوار، وأن في الحكم عنصراً عقلياً لا ينجلي إلا بالنقد. الحوار في ذاته قيمة تسمو على كل قيمة. والنقد في ذاته سلطة تسمو على كل سلطة. هكذا يكون الإنسان حاكماً على التاريخ.
الكونية والإنسية صنوان، الثانية مضمون الأولى. حقوق الإنسان غير حقوق الإنسان العربي، أو المسلم، الأولى تضمن حقوق العربي والمسلم، والثانية تهدرها مرتين: مرة حين تفصل العربي أو المسلم عن ماهيته الإنسانية الكونية، والثانية حين تقصر الحقوق على العربي أو المسلم اللذين لا يتحددان إلا بحكم المتكلم، فتصير الحقوق استنسابية، تقتصر على من أعده أنا عربياً أو على من أعده أنا مسلماً. أليست الحصرية مبدأ التكفير والتخوين واستباحة حقوق الآخرين والاستهانة بحياتهم؟
إلياس مرقص كان مع الحقيقة ضد الرأي؛ الحقيقة الواقعية الأكثر سفوراً هي الإنسان، الذي لا يتجلى إلا في الفرد، والعمل المجرد، الذي لا يتجلى إلا في العمل المشخص، عمل الفلاح والنجار والحداد والحذاء .. وهي أيضاً المجتمع والشعب والدولة والسلطة السياسية، بغض النظر عن رأينا في أي منها. الإنسان لا يقل حقيقية عن الفرد، الذي يمكن أن يكون ضد الإنسان، والعمل المجرد لا يقل حقيقية عن العمل المشخص، الذي يمكن أن يكون ضد العمل وضد الإنسان ( إنتاج الأسلحة والسموم والمخدرات والجراثيم والفيروسات) والدولة، هذا المفهوم المجرد والكائن السياسي والأخلاقي اللامحسوس ليس أقل حقيقية من المجتمع. الحقيقية هي المفهومية. المادة لا تقل حقيقية عن الشيء وكذلك الحركة. الزمان بوصفه شكل حركة المادة، والمكان بوصفه شكل وجودها من أهم الحقائق وأكثرها تجريداً. لكن هذا لا يعني تبخير الواقع في مجردات أثيرية؛ المادة محض خلق من الفكر، وتجريد محض، أو هي المجرد على وجه الامتياز، ولكنها “متعالقة ومتشاركة مع الحسية (قابلية الشيء لأن يحس) ومع الحركة، ومع الكم. المادة هي الخارجية وهي الامتداد. وكل مادة هي مادة معينة، إذن، هي مادة وشكل. المادة بلا أي شكل هي عدم، فيما عدا إحالتنا على الخارج، على الكون – المكان، على الامتداد. كل الأشياء مادة = عدم، إعدام الكيفات، الفروق، اختلاف الكائنات، واختلاف المواد. هذا الخط بدأ قبل أرسطو، أرسطو نهاية وانطلاق، إنه محرز نهائي. الوجود مادة وشكل، المادة بلا الشكل عدم وجود أو عدم واقع. الفكر شكل العالم” (28).
مقولة الروح شقيقة مقولة المادة. الروح الإنساني لا شيء بلا الفرد، ولا شيء بلا اختلاف الأفراد. الجملة الخبرية: سقراط إنسان، تلخص الموضوع. لا وجود فعلياً للإنسان إلا في الفرد، ولا وجود فعلياً للعام إلا في الخاص؛ الإنسان في واقعه الفعلي هو الفرد. والفرد في ماهيته الجوهرية هو الإنسان. عدم الاعتراف بقيمة الفرد وذاتيته وحريته وفرادته وكرامته الإنسانية هو عدم اعتراف بالإنسان وتبديد للمجتمع والأمة. الفكر القومي والفكر الإسلامي لا يعترفان إلا بالأمة العربية والإنسان العربي، وبالأمة الإسلامية والإنسان المسلم، والفكر الاشتراكي لا يعترف إلا بالطبقة والطبقات والكادحين، والحزب الثوري لا يعترف إلا بالرفيق أو الأخ، وهذه جميعاً تنويعات على العدمية، وأساس مختلف صنوف الإعدام، التي شهدنا والتي نشهد في غير مكان. فمن أين يأتي التسامح إذا كنا لا نعترف بالكرامة الإنسانية للفرد وباختلاف الأفراد؟
الإنسان مقياس جميع الأشياء. والتاريخ هو تاريخ ارتقاء الإنسان. (34)
في بحث “المغايرة والكون والتاريخ” وضع الياس مرقص ثلاثة مبادئ أولية وأساسية:
1 – ليس في الوجود، مقابل الفكر، شيئان متماثلان، متهاويان، متساويان. كل الأشياء مختلفة. (35) ... “في بداية علم الظاهرات، ليس لدينا سوى الفكر مع الهوية إزاء الموجود مع الاختلاف. هذا ما يقوله فويرباخ. هنالك رجال عرب مفكرون لا يريدون بداية! يبدو أنهم يريدون”ثورة“أو يريدون”علماً“أو الاثنين معاً. هؤلاء لا يعرفون معنى الظاهرة، فكرة الظاهرة phenomene إنهم مع”الظهور“، التظاهر والمظاهرة، والظهور العجائبي. العلم حوّل الظهور إلى ظاهرة، هم يعتقدون أن الثورة كاشتعال عود ثقاب، إنها النار أو النور والنار. أما العلم فيحول اشتعال عود الثقاب إلى ظاهرة، إلى منطق وسيرورة، إلى عقل وزمنية مليئة. والعلم يقول لنا: التنفس احتراق والتصدؤ احتراق .. إذاً مبدؤنا الأول قدم الوجود، والاختلاف. كل الأشياء غير كل الأشياء” (37).
2 – لا تغير بلا التغاير. لا تغير بلا الاختلاف، لا يمكن أن نتصور التغير بدون الاختلاف، التباين، الفرق. ... المثال الأشهر هو داروين: الاختلاف، اختلاف أفراد النوع، أساس للتغير والتطور، شرط مطلق لظهور أنواع جديدة“.”... الغوا الأفراد، الاختلاف، التصادفات، أكدوا “الهوية” ولن يكون لدينا أي تطور ستكونون غلَّبتم عقلكم وضرورتكم على العقل والضرورة. بموجب الكون والعقل لا هوية بلا فرق وفروق. المقولة تفرض ضدها“. (38). ...”يجب على الفكر العربي أن يدرك أن مقولات التناقض والتعارض أو التقابل تحيل لا على الوجود وعلى المحسوس وعلى الصراع، بل بالضبط على القول والكلام، وعلى عملية المعرفة. الفكرية شرط مطلق لمعرفة الصراعات، بلا تسويف أو خداع“. (39). ...”في ديالكتيك ستالين، ذي المبادئ الأربعة، إذا كانت المبادئ الثلاثة الأولى مملكة التهافت واللاتلاحم، فإن المبدأ الرابع، التناقض وصراع الضدين، هو البسط الأعلى للاعقل. التناقض الستاليني ليس له أي فضيلة، أي قدرة على معرفة أي شيء. خلاصته: الجديد يغلب القديم، الفتى يأكل الشيخ، الطبقة العاملة تهزم البورجوازية، الحزب يهزم بوخارين والمجتمع. لا تصالح، لا مهادنة، بل السياسة الطبقية البروليتارية الثورية ...". (39)
3 – لا تاريخ لولا التفاوت. لولا التفاوت بين البشر لما كان هناك أي تاريخ، أي تقدم، أي نمو للإنسان، لبقيت البشرية في شبه الحيوانية، مع تعداد يدور حول عشرة ملايين من النفوس، لبقيت في الافتراس وأكل لحوم البشر، دون العبودية، مع شريعة الغاب، في الطبيعة الحيوانية البشرية الخاصة والنوعية. (39). “المجتمع البشري هو مجتمع الاختلاف والتفاوت، مجتمع الطبقات، بالمعنى الواسع، الملكية وأضدادها، هكذا التاريخ. أساسه وقوامه إنتاج البشر لوجودهم اجتماعياً. المجتمع ليس بديهية أصلية ...”العائلة والملكية الخاصة والدولة" أفضل ألف مرة مما قبل. ما قبل هو الهمجية والبربرية. إن كبار رواد الاشتراكية الطوباوية أدركوا ذلك تماماً، أكدوه بلا مواربة. إن أحداً منهم لم يعتبر الطبيعة = خير، والتاريخ = شر، كلهم كانوا في ديالكتيك الطبيعة والتاريخ.
ماركس في مخطوطات 1844 الفلسفية والاقتصادية، أي في الكتاب الأشد راديكالية ضد ثالوث الشغل والملكية الخاصة والانخلاع، يشن حملة لا هوادة فيها على ما يدعوه “الاشتراكية الفظة” أو “الشيوعية المساواتية”. المساواتية عدمية. المساواة تقيم الاستبداد، دولة السلطان فوق السواد ... المجتمع المدني هو مجتمع الشغل وتقسيم الشغل، مجتمع الأعمال والتفاوت والملكية الخاصة ... مجتمع الاستبداد الشرقي هو مجتمع العامة المتساوية. والإمبريالية الجديدة تتضافر معه في عملية نهب فضل القيمة. مهراجات هذا العصر مرتبطون ببنوك وصناعات الغرب، وعبيد هذه الحالة المتنامية بلا أرض ولا شغل. قطبان ضد الاختلاف، ضد الحرية، ضد التدرج، ضد ديالكتيك الواقع والمجتمع والنمو. سقوط القانون، سقوط العقل، سقوط المجتمع ". (40 - 41)