نرى كِبَر وعظمة الطموح عند النبي محمد (570- 632 م) في أشد لحظات الضعف، كما حصل بعد وفاة خديجة (عام 620 م) وأبي طالب (عام 620 م)، الشيء الذي يجسده “الإسراء والمعراج”- الحاصل في ذلك الوقت – بمعانيه الرمزية، أو وعده لسراقة بن مالك (عندما لحق به ليقتله، هو و أبا بكر، أثناء الهجرة في يوم 16 تموز 622 م، لينال مكافأة قريش) بأن يكون له تاج كسرى إن تركه، الشيء الذي تحقق له في عهد عمر ابن الخطاب، بعد عقد ونصف من الزمن: ذلك الحلم الضخم لرجل ضعيف تائه في الصحراء، و الذي لولا ذلك المنظور البعيد والعنيد ما استطاع تحقيق ذلك الانقلاب السياسي والفكري الهائل الذي هزَ التوازنات العالمية، وما يزال.
إن عظمة الطموح لا تتنافى مع المرونة، بل إننا نلاحظ أن الذين يمارسون السياسة، وفق منطق القبول بالأمر الواقع والعمل في ظله، ليسوا مرنين، بل يمثلون نوعاً من النموذج الإداري الذي يقوم بتصريف أعمال اعتيادية، يفتقد فيها الرابط بين الحركة والهدف، بشكل يذكرنا بعبارة مُنَظِّرِ “الاشتراكية الديموقراطية” إدوارد برنشتين (1850 – 1932): “الحركة هي كل شيء، والهدف لا شيء”. إنهم أقرب إلى النموذج المستكين وغير المبادر، مما يجعلهم عملياً، و بوصفهم لا يرون سوى اللحظة، نوعاً من المحافظين على الراهن، بالقياس إلى المحافظين على تقاليد الماضي، أي أنهم من نفس النوع، وإن كان الأخيرين يمتازون عنهم بنوع من المنظور والهدف يستمدونه من ذلك الماضي، الشيء الذي لا تستطيع تقديمه “سياسة الأمر الواقع”... إن رعبهم من المستقبل هو الذي يفقدهم المرونة ويجعلهم يخافون ويحذرون التغيير.
إن هذا الفقدان للرابط بين الجزء و الكل، أي بين اللحظة الراهنة والمستقبل، بين الحركة والهدف، لا نجده عند أصحاب المنظور البعيد، مما يجعل الأخيرين مرنين وديناميكيين ومبادرين، يجمعون بين التصلب المنظوري والمرونة في الحركة التي تحصل فيها تعرجات كثيرة، ومطبّات، و مدّ و جزر، أثناء توجهها إلى الهدف. إن “مرونة” سياسيي الأمر الواقع تظهر، فقط، عندما يتنازلون للخصم، وبالتالي هي مرونة، فقط، بالنسبة لهذا الأخير، أو هكذا يوحي بها هذا لذاك كنوع من تصدير الوهم له، مع أنها في السياسة هي استسلام وانكسار (تشمبرلن–هتلر، السادات–بيغن، غورباتشوف– ريغان).
إن هذا الجمع للمنظور مع الحركة هو الذي يجعل الإنسان ثورياً بالنسبة للواقع القائم، خاصة عندما يستطيع استغلال وإضافة ركيزة من الماضي إلى سياسته الواقعية الراهنة التي تراعي التوازنات وتلعب فيها وعليها، ولكن من أجل تجاوزها إلى الهدف المأكول في المستقبل، عبر استغلال ثغراتها و ما يطرأ من مستجدات تأتي بها عوامل متعددة، و تآكل قوى الخصم بشكل ذاتي، أو بفعل عامل خارجي بالنسبة له، أو تأتي به عوامل نمو العامل الذاتي المتحين و المتوثب، دائما، للحظة الانقضاض من أجل الوصول إلى الهدف. الجمع بين تلك اللحظات الثلاث هو الذي يقي دائما من داء المحافظة السياسية، ومن الوقوع في نزعة المغامرة الطائشة (الخوارج، التروتسكية) التي هي مثل الأولى غير قادرة على الجمع بين هذا الثالوث، الذي يمثله تركيب “الماضي – الحاضر- المستقبل”، حيث تتجاهل توازنات الحاضر، و لا ترى سوى “الهدف” الموجود في المستقبل.
على ضوء ذلك التركيب، يجب أن نفهم أحداثا مثل توجه المسلمين الأول بصلاتهم نحو القد س في بداية الدعوة الإسلامية، وبعد التوق الإلحاحي إلى العودة عقب الهجرة، عبر التوجه نحو هدف فتح مكة، توجيه القبلة نحوها قبل شهرين من معركة بدر (عام 2 هـ)، أو استمرار الإسلام في عادة تقبيل الحجر الأسود، وتأكيد الإسلام على كونه استمرارية للتوراة والإنجيل، وعلى أن “الناس معادن. خياركم في الجاهلية هم خياركم في الإسلام، إن فقهوا”، وكذلك مرونة النبي في صلح الحديبية (6 هـ)، وتكريمه لقريش وزعيمها أبي سفيان في يوم فتح مكة (8ﻫ)، أي يوم هزيمتها العسكرية، وتحويل هذا اليوم إلى نوع من النصر السياسي لقريش مما أزعج زعيم الأنصار سعد بن عبادة: إنه أبعد من التسامح الذي يقدم في لحظة القوة، ليرقى إلى الإدراك المنظوري البعيد بأن هذا المهزوم عسكرياً هو وحده القادر على أن يشكل العصب المركزي للحركة المستقبلية الهادفة إلى تحقيق الهدف الرئيسي، و هو هزيمة بيزنطة و فارس للسيطرة على العالم، حيث كان النبي مدركاً بأن الإسلام لا يمكن أن يأخذ بعده العالمي إلا بعد السيطرة على العراق وبلاد الشام، الشيء الذي تحقق بعد “القادسية” و“اليرموك”، مما أدى إلى السقوط التلقائي لكل من مصر وفارس بعدهما. وقد كانت الإشارة التمهيدية، على ذلك النهج التقربي من الأمويين السفيانيين الزعماء لقريش، متمثلة في زواج النبي من رملة بنت أبي سفيان، بعد صلح الحديبية وقبل عام من فتح مكة، حيث عادت للمدينة من الحبشة مع المسلمين الآخرين، بعد أن تركت هناك زوجها الأول، الذي تحول نحو النصرانية.
من هنا أيضاً، يجب أن ندرك مغزى حصة "المؤلفة قلوبهم التي انتهجت مع المسلمين حديثي العهد أثناء توزيع الغنائم إثر غزوة حنين، الحاصلة بعد فترة قصيرة من فتح مكة. إنه نوع من سياسة تجميع ما يمكن جمعه، وفق توازن اللحظة الراهنة الحساس والدقيق والسريع العطب، للوصول إلى أبعد منه. لذلك، لم يكن مستغربا إلغاء عمر بن الخطاب لهذه الحصة، التي مثلت ذلك التوازن الهش للحظة محددة، وصلت إليها الحركة، عندما تم الوصول إلى حالة القوة. كما أننا على ضوء ذلك، يجب أن ندرك معاني قبول النبي لإسلام الشهادتين، الذي أداته الأساسية اللسان، وعدم تركيزه على إيمان القلب، ولكن دون أن يتخلى عن هذا الأخير ومتطلباته، حيث كان يدرك أنه إضافة إلى المراهنة على المستقبل، فإن الممر المؤدي من اللسان إلى القلب يتمثل في تحقيق المصلحة المادية، التي أداتها الفتح العسكري والسيطرة السياسية، لبلوغ السيطرة الاقتصادية على البلاد المفتوحة .
إلا أن تلك المرونة المنهجية، أي الموضوعة ضمن سياق متكامل الأجزاء، لا تستبعد العنف المبرمج، أي الذي تتطلبه الضرورة السياسية، ولو وصل إلى حدود القسوة الشديدة، كما حصل مع يهود بني قريظة بعد موقعة الخندق (شوال عام 5 ﻫ) نتيجة تواطئهم مع قريش، أو مع يهود خيبر (محرم عام 7 ﻫ)، حيث يُستخدم العنف والمرونة في الحالتين وفق وظيفية محددة للوصول إلى الهدف من خلال قطع خطوات متقدمة نحوه عبر الطريقين المذكورين.