لا نعرف عن طائر الخّفاش رغبة إلحاق الضرر بالإنسان ورغم ذلك حوّلنا خصوصيته الطبيعية إلى صفة سلبية نلصقها بكل من يفضّل الظلام على النور لحاجة في نفس يعقوب. وهذه الحاجة يعبر عنها المثل التونسي الشعبي بما معناه أن نور الشمعةعدو السارق. لذلك يحصل للسارق أن يقنع من يسرقهم بضرورة عدم استعمال النور بدعوى أنه مخالف للعقيدة، أي عقيدة كانت، حزبية أو دينية. و يتحول ضحايا السرقات أوّل المدافعين عن حق السارق في الاستيلاء على ممتلكاتهم. هكذا مثلا نرى بعض الصحفيين يدافعون بضراوة عن حقهم في الرقابة الذاتية، كما حصل قديما أن رفض الناس إضاءة الشوارع.
سنة 909 هجري قرر محتسب القاهرة “الزيني بركات بن موسى” تعليق فوانيس كبيرة تضيء بالشحم على كل حارة حتى تنام المدينة آمنة، و هي التي تنتهك حرمتها ليلا من طرف المماليك. وفرح العامة بذلك. لكن الخفافيش، بالمعنى المذكور أعلاه، شنوا عليه دعاية، يخجل من ذكائها صحافيو القنوات الرسمية، جعلت المضطهدين أنفسهم يتراجعون عن موقفهم الإيجابي ويستنجدون بالسلطان لدفع بلاء هذه البدعة عنهم، إذ ربما “أخذت البدعة البركة من الناس”/
وخطب الوعاظ في المساجد وعارضوا قرار تعليق الفوانيس. و قد أورد جمال الغيطاني في روايته “الزيني بركات” نقلا عن كتاب المؤرخ المصري محمد بن أحمد بن إياس “تاريخ مصر المشهور ببدائع الزهور في عجائب الدهور” جزءا من خطبة الجمعة المتعلقة بواقعة الفوانيس.
تقول الخطبة: “يا أهل مصر، يقول رسول الله صلعم”لا يستحي العالم إذا سئل عما لا يعلم أن يقول لا أعلم" نقول هذا لمن أحلّوا تعليق الفوانيس أمام البيوت والدكاكين يدّعون العلم بالتواريخ والأحداث التي جرت وينقصهم القول بما سيجيء، هنا ندخلهم في زمرة الكافرين، قالوا سبق لعديد من الأمم أن علق حكامها الفوانيس في شوارعها، فهل ذكروا لنا مثلا بعينه؟ أهل كان رسولنا يمشي على هدى الفوانيس؟
وفي رحلتي الصيف و لشتاء إلى الشام و اليمن هل أضيء طريقه بفوانيس صنعها بشر؟ نقولها عالية، نقولها بلا حرج، نقولها ورقابنا على أيدينا لهؤلاء الذين يدّعون العلم بالحكم التاريخية، والأحاديث النبوية، و المتون الخفية، و الأصول المرعية، و هم جهلاء يخفون جهلهم، نقولها و لا نهاب لا نخاف، لانخشى، يا أهل مصر لم يحدث تعليق الفوانيس من قبل، لقد أمرنا رسولنا الكريم بغض البصر عن عورات الخلق، والفوانيس تكشف عوراتنا، خلق الله ليلا ونهارا، ليلا مظلما، ونهارا مضيئا، خلق الليل ستارا ولباسا، فهل نزيح الستار؟ هل نكشف الغطاء الذي أمدنا الله به؟ هل نتطاول ونبدد سواد الليل من كل شبر في المدينة؟ هذا كفر لا نقبله، هذا خروج عن الحد لا نرضاه (...) قوموا إلى بيت “الزيني بركات” و طالبوه بمنع الفوانيس التي تهتك السرّ وتشجّع النساء على الخروج بعد العشاء، (...) الفوانيس علامات آخر الزمن، من علامات دنيا تخرج عما رسمه الباري عز وجل، طالبوا سلطاننا بتوسيط كل من أوحى بهذا، بحرقه، وبرجمه، هؤلاء الجهلاء دعاة العلم، آه من يوم تسود فيه الفوانيس اللهم قنا شره، اللهم أبعدنا عنه، اللهم لا تمد أجلنا حتى نراه".
وهنا تعالى بكاء الناس في الجوامع، وزعق بعضهم: “اللهم اهدم الفوانيس، اللهم اسحق الفوانيس”
وحده قاضي الحنفية قال رأيا محالفا: “الفوانيس تطرد الشياطين، وتنير المسالك في الليل للغرباء، وتمنع مماليك الأمراء والمنسر من الهجوم في الليل على الخلق الأبرياء” فأقصي عن منصبه. و تراجع السلطان عن قراره وعادت الخفافيش تغزو بيوت الناس وتخطف نساءهم.
وبعد حادثة الفوانيس جاءت بدعة التلفون فأفتى رأس السلفية الوهابية بتحريم الآلة الشيطانية. غير أنه لم يعد من الممكن الوقوف في وجه البدع الضرورية للتقدم، بحجة أن الرسول لم يكن يستعمل التلفون وكان يكتفي بالرسائل، لذلك لجأ المتنوّرون إلى حيلة طفوليّة تليق بعقل المفتي، فأسمعوه هاتفيا آيات من القرآن وذكّروه بأن الشيطان لا يقرأ القرآن، فاقتنع بجواز استعمال الآلة العجيبة صنيعة الكفار. وشاعت من وقتها عادة افتتاح برامج الإذاعة ثم التلفزيون “بآيات بيّنات من الذكر الحكيم” كما شاعت في ما بعد عادة تحليل باقات قنوات فضائية دنيويّة، كأشد ما تكون الدناءة السياسية والاجتماعية، بتخصيص واحدة منها لله. فيهلل أحفاد مفتي التليفون ويكبّرون ويرسلون برقيات الشكر والامتنان للأمراء. ويتساءل الدكتور سيف الإسلام بن سعود بن عبد العزيز آل سعود في رواية “طنين”: “كيف تعرف الشعوب المغلوبة على أمرها طرق النجاة من فساد حكام مستبدين؟ و كيف تفصل الأمة بين معتقداتها الدينية، ولجوء هؤلاء المستبدين من الحكام لهذه المعتقدات نفسها، عندما يرغبون في تبرير مظالمهم واستعبادهم لرعاياهم ؟”
والحقيقة أنه لولا الهاتف و الإنترنت التي سمحت لشباب ذاك البلد بالتواصل مع الآخر المختلف جنسيا، لأصبحت المثليّة الجنسية القاعدة هناك (انظر رواية صبا الخزار “الآخرون”).
وجماعة السلفية الوهابية التي اعتبرت نفسها جماعة المسلمين وليست جماعة من المسلمين، والتي أنكرت دوران الأرض و كرويّتها وحرمّت الهاتف والراديو والتلفزيون وقيادة السيارات واستعمال الإنترنت بدون محرم على النساء، وما زالت ترجم وتقطع الرؤوس و الأيادي، لم تنتج فقط ظاهرة رفض الآخر المختلف جنسيا وظاهرة القنوات الخليعة، بل فرّخت كذلك المنادين باعتناق أفكار أكثر تشددا بدعوى أنهم “جماعة المسلمين” الحقيقيين.
ويروي صاحب رواية “طنين” التاريخية مسيرة أحد أمراء آل سعود بعد أن هدّم محمد علي والي مصر عاصمة السّلفية الوهابية “الدرعية” على رؤوس حكامها وسكانها ونفى أمراء العائلة المالكة إلى مصر.
ويصف على لسان الأمير المنفي خالد بن سعود مدينة القاهرة كالتالي: “رأينا بشرا يشبهوننا، وحتى أجمل، خارجين من مساجدهم، وسبق أن قيل لنا في”الدرعية“إن عوالم ما وراء الجزيرة لا يصلّون، وأن أشكالهم تقلّب بين القردة والخنازير عقابا لتركهم الصلاة. ورأينا غابات النخيل والفاكهة الممتدة، والمرويّة من نهر ليس هناك أوسع ولا أطول منه، وقد نصحنا عندما كنا نشاهد نخيل نجد والإحساء بأن نطلب استمرار النعيم الذي هو صورة مصغرة من نعيم الآخرة. رأينا الناس في مصر يوم دخولنا لعاصمتهم يتذمرون من المطر متذرعين بأن نيلهم وهو يفيض تلك السنة، يغنيهم بتدفقه الساحر غير المعروف المصدر عن الغيث والرجع. وقد قيل لنا في بلادنا إن في الآخرة فقط هناك نهر وعيون جارية. شاهدنا العامة رغم فقرهم المشابه لفقر عامتنا، يعملون ويزرعون، ولكنهم يزيدون على هذا باللعب والضحك... ومغازلة النساء... أعاذنا الله من سوء المصير. شاهدنا حدائق غلبا ذات بهجة، وأبنية ذات صروح ممردة، وقد قيل لنا في بلادنا ألا وجود لمثل هذه المتع إلا عند الجبارين أو في جنات عدن.”
وتقوم اليوم “جماعة المسلمين” الجديدة بذبح المسلمين في العراق والأردن والجزائر والمغرب، وهي بلدان تشبه إلى حد كبير ما وصفه الراوي.
ويضيف راوينا بحسرة وتعجب: ’“قيل لي ولأمثالي من شبيبة آل سعود، أن دولتنا السلفية لا يمكن أن تهزم، وأن حدودها لا يمكن أن ترسم، لأنها تتوسع في كل يوم قامعة الشرك والبدع”.
في زمن القول ذاك، أي بعد هزيمة الدولة السلفية، كان السلطان “الغوري” الذي منع الفوانيس في مصر قد قتل على يدي العثمانيين وجاء الألباني محمد علي الذي لا يحسن اللغة العربية وأشعل فوانيس العلوم التي أضاءت العالم العربي كله بما فيه دماغ أمراء السلفية المنفيين في مصر.
و ظلت فوانيس محمد علي تضيء إلى أن ظهر حسن البنا.