خلال حروب الردّة التي خاضها أبو بكر الصديق ضدّ تاركي الزّكاة، تحت شعار “و الله لأقتلنّ من فرّق بين الصلاة والزكاة” باعتبار أنّ رافضي الزكاة لم يعلنوا خروجهم عن الإسلام، قتل خالد بن الوليد مالك ابن نويرة رغم إدلائه بالشهادة، ونزا على زوجته ليلى ودخل بها في نفس الليلة. وفي الإسلام لا تنكح المتوفى زوجها إلا بعد إتمام العدّة.
وكان عمر ابن الخطاب يقول لخالد بن الوليد:“يا عدوّ الله قتلت مسلما ثم نزوت على امرأته والله لأرجمنّك بالأحجار”، ولكن أبا بكر دافع عنه قائلا: “هبه يا عمر تأوّل فأخطأ فارفع لسانك عن خالد”.
تكلم عمر ابن الخطاب باسم الرّعية التي يطبّق عليها القانون باحترام قدسي، أما أبو بكر الصديق فقد تكلم باسم ضرورات السلطة، التي كان عثمان بن عفان يلخصها بقوله: “إنّ الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن”، فقد كان الخليفة أبو بكر حينها في حاجة ماسّة إلى خدمات الجنرال خالد.
وعبارة “ارفع لسانك” أو أغلق فمك، هي أمر سيادي يدخل في وظيفة الرقابة. إنه حكم بالصمت على “الموقّعين عن الله” من المعارضين. و هو نفس الأمر الذي وجّهه وزراء الداخلية العرب إلى مؤسسة الإفتاء غير الرسمية بدعوى ضرورة توحيد مصدر الفتاوى، معترفين بذلك رسميا بالحرب الباردة الدائرة رحاها بين فقهاء السلاطين وفقهاء الرعيّة.
فما الذي أزعج السلطة العربية الرسمية يا ترى؟ هل هو فوضى الإفتاء، كما تم تبرير ذلك إعلاميا، أم هو تآكل السلطة التشريعية الرسمية الوضعية والدينية، إلى درجة أصبح معها نظام السّلطات الثلاثةالحديث، المدعّم والمبارك من فقهاء السلاطين، مهددا بالانقراض ؟
وانقراض المؤسسة التشريعية الدستورية، التي لا تعني في الحقيقة بالنسبة لمنطقتنا أكثر من مؤسسة حكم بني أمية أو العثمانيين، أمر غير مسبوق في تاريخ الدولة الإسلامية، التي استطاعت لقرون، أن تدافع عن نفسها من دعاة تطبيق دولة الخلافة الراشدة المتخيلة.
وتكمن مشكلة دولة الخلافة النظريّة المثاليّة في كفايتها المحدودة، حيث لا يجيز مبدأ الحاكميّة لله، حق التّشريع للبشر. وبما أن أحكام الله محدودة والوقائع غير محدودة، اضطرّ المسلمون منذ بداية الرسالة إلى اللجوء إلى إعمال الرأي الذي يسمونه اجتهادا، بدعوى أنه لا يخرج عن مقاصد النص. وهو كلام نظري، لأنه يحصل كثيرا أن يتجاوز المجتهد حكم الله، في الواقع الفعلي. وقد وقفنا على ذلك في قضية خالد ابن الوليد وغيرها من الوقائع الموثّقة والخاصة بالخلفاء الراشدين، ناهيك عن الملوك والسلاطين و رؤساء الدّول حديثا. وقد قال عبد الله بن مسعود: “إن الذي يفتي الناس في كل ما يستفتونه لمجنون”، للدلالة على استحالة الإجابة عن كل الطوارئ من داخل النص. كما تسلّحت العامّة، بشيء من الحكمة وشيء من الخبث و كثير من اليأس، ضدّ هذه الاستحالة بمقولة: “علقّها في رقبة عالم” فيتخلص المستفتي من الذنب بسؤال المفتي وتحليل الأخير أو تحريمه للمسألة.
لم تكن إذن علاقة السلطة بالدين، تاريخيا، بالمثالية أو بالفسوق الذي يدّعيه أصحاب الدعوى إلى تطبيق الشريعة. فالحاكم في البلاد الإسلامية ليس بإمكانه تجاوز سلطة الدين المتمثلة في التشريع الإسلامي صراحة، وهو لا يتمتع بسلطة دينية بالمفهوم الغربي، بل بشرعية دينية فقط، بحكم الثقافة السياسية الإسلامية التي تشترط طاعة الفرد لأولي الأمر بطاعة هؤلاء لله. وفي الحقيقة، فإنه بقدر ما يصعب تحقيق هيمنة السياسة على الدين في المجتمع الإسلامي، فإنه يصعب كذلك عمليا فرض الدين على السياسة. ولقد أظهرت محاولات تطبيق مفهوم فصل الدين عن الدولة حدودها أكثر من مرّة تاريخيا، بدليل كثرة الفتن والثورات التي تخللت تاريخ الحكومات الإسلامية المتعاقبة، منذ فترة حكم الخليفة عثمان إلى حكومة الشاه. وهي صراعات ناتجة عن محاولات الحكام المستمرة للتخلص من هيمنة الدين، وعن بروز عناصر من المجتمع تعمل على تذكير هؤلاء الحكام بوجود كتاب الله، وضرورة الاحتكام إليه والخضوع لأحكامه.
لذلك لم يحصل أن كانت العلاقة بين رجال الدين ورجال السياسة في المجتمعات الإسلامية بالوضوح الذي تورده الأدبيات السياسية الإسلامية. فقد كانت في الأغلب علاقة هيمنة ورضوخ من الطرفين في نفس الوقت. فبقدر ما كان الحاكم واعيا بأهمية خضوعه، ولو ظاهريا، لشرع الله لضمان طاعة الرعية، كان علماء الدين واعين بصعوبة فرض هيمنتهم على صاحب الملك وبضرورة الخضوع “لأهواء الرؤساء وأصحاب السلطة الذين ترجى عطاياهم وتخشى رزاياهم” حسب التعبير الطريف والدقيق للشيخ يوسف القرضاوي.
إن ما لم يدركه بعد، أو ما يتجاهله فقهاء المعارضة، هو المنطق الخاص لكل من السلطة الرسمية والسلطة المضادة. فقد أنبأنا التاريخ الإسلامي أن مسؤولية الدنيا خصصت للحاكم، في حين خصص الدين للرعية، تستعمله سلاحا للمعارضة السياسية. إنه مجرد تقسيم أدوار فرضه التاريخ. فمهما كان ورع الحاكم و تقواه فإنه مضطر إلى اللجوء إلى القانون الوضعي وإلى التحايل على النص، لكي يمكّن دواليب الدولة والمجتمع من مواصلة السّير. لذلك ترى المعارضين الإسلاميين حين يمسكون بزمام السلطة يتصرّفون بالضبط مثل سلفهم المنبوذ.
ألم ينصح ابن تيميّة الرعيّة، حين كان فقيه السلطان، بالصبر على جور الأيمّة، معتبرا في كتاب “السياسة الشرعية (...)” أن “ستون سنة من إمام جائر أصلح من ليلة بلا سلطان” ؟ ألم يدعُ الغزالي في “المنقذ من الضلال” إلى وجوب تفضيل الحكم القاهر على حالة الفتنة ؟ و في المقابل ألم يخلق الشيّعة، الذين كانوا ينعتون بالرّافضة أي المعارضة، قرآنهم وكافيهم في الحديث ونظريتهم السياسية وكنيستهم؟
واليوم، يعارض رافضة الرّافضة ولاية الفقيه، كما عارض قبلهم الخميني، حين كان ثائرا، مبدأ التقّية. وعارض بورقيبة الثائر على الاستعمار الحملة على الحجاب في الثلاثينات، ثم عاد في الخمسينات لينزعه بيده الرّئاسيّة من على رؤوس النّساء. وعلى ذكر بورقيبة الذي يتّهمه الإسلاميّون بالكفر، لأنه، حسب تعبيرهم، حرّم ما حلّل الله بإلغاء تعدد الزوجات، فإنّه لم يفعل أشنع ممّا فعله عمر ابن الخطاب الذي حرّم، بعد تولي الإمارة، الزواج من الكتابيّة، بل و طبّق قانونه بأثر رجعي عندما أمر المتزوجين بالكتابيات بتطليقهن. ويبدو أن عمر ابن الخطاب قد غفل عن تحليل القرآن للزواج بالكتابية وعن ارتباط الرسول ذاته بالقبطيّة ماريّة وباليهودية صفيّة.
وقريبا منا في الزّمن، أفتى فقهاء إيران الإسلامية بتحريم الزواج من الأميركية، بسبب الصراع السياسي المفتوح بين بلدهم و بلد الأميركياّت، ثم عادوا ليقبلوا، أيام الحرب مع العراق، صفقة أسلحة أميركية، في إطار ما سميّ بقضية “إيران كونترا” أو “إيران غيت”. ووصلت شحنة الأسلحة إلى إيران عن طريق إسرائيل. فأثبتت إيران الإسلامية، بتحالفها مع “الشيطانين الأكبر والأصغر”، صعوبة “استكبار” السلطة، مهما كان اللقب الذي تحمله، على البراغماتية السياسية.
ولا أعرف شخصيا، و كاستثناء لهذه القاعدة، أصدق من العقيد معمّر القذّافي والرّئيس أحمدي نجاد. غير أن الصّادق في السياسة الرّسميّة وخاصّة في أوضاع غير متكافئة، تكون نهايته كنهاية الحمار الذي قال للأسد الجبّار أن رائحة فمه كريهة. أما المعارض فإن كلمة “طزّ في أميركا” مثلا، تقبل منه و لو على مضض.
إنها لعبة السياسة الممجوجة التي تقسم الأدوار بين الثورة التقيّة النقية والدولة الغارقة إلى عنقها في أوساخ دار الدّنيا. يبدو أنه من الصعب صنع توليفة بينهما على أساس، مثلا، المبدأ الحديث للتفريق بين السّلطات، بتسليم البرلمان والقضاء لجماعة الإفتاء البديل. فالقضاء الحديث يجب أن تكون قوانينه مدوّنة بدقة لضمان سلامة الأحكام، وعندما نعلم أن الشريعة تتكون من مدونة تاريخية ضخمة
ومتعبة، يستحيل الخروج منها بحكم غير قابل للطعن، وهو ما نرى نموذجا منه في الفتاوى المتضاربة، نفهم سبب عدم تطبيق معظم الدول العربية لما تنص عليه في دساتيرها من أن الشريعة هي مصدر من مصادر التشريع، ونتفهم ألاّ يكون هذا التنصيص أكثر من إعلان نوايا. وكل من مارس السلطة، سواء كان إسلاميا أو غير إسلامي، يعلم جيدا مدى صعوبة بل واستحالة تطبيق الشريعة. وقد أثبتت ممارسات كل من السعودية والسودان وموريتانيا وإيران و باكستان ذلك.
ولا يختص عصرنا بهذه الاستحالة، فلنا في هذه القصة التاريخية الطريفة دليل على التباين الحاد بين منطق قيصر ومنطق الله. “يحكى أن سلطان العلماء، الشيخ العز بن عبد السلام، سار إلى مصر فأكرمه ملكها، وولاه الخطابة والقضاء. وكان الحكم في مصر في ذلك الوقت للمماليك، فنظر الشيخ فرآهم لا يزالون في نظر الشّرع عبيدا، لم يتحرروا، فضلا عن أن يحكموا الأحرار. فأعلن بوصفه القاضي، أنهم سيباعون بالمزاد العلني. وكان نائب السلطنة من المماليك، الذين حكم الشيخ ببيعهم، واعتقدوا أنه يمزح، فإذا هو جاد. فشكوه إلى السلطان، فنهاه فلم ينته. فقال له السلطان كلمة فيها غلظة، فما كان من الشيخ إلا أن حمل أمتعته على حمار، وأركب أهله على حمار آخر. وخرج من مصر”.
أما بقية القصّة فهي تبرهن على الصّراع التقليدي المستفحل بين السلطان والرعية في الدول المستبدة من خلال الحرب القائمة بين فقهاء كل طرف. وتقول بقية القصة أن أهل مصر خرجوا وراء سلطان العلماء يصرخون حتى خاف الملك على عرشه فأعاده وعمل برأيه.
والغريب في أمر هذا الصراع هو أن كل طرف “يرى القشّة في عين أخيه ولا يرى العارضة التي في عينه” حسب تعبير عيسى ابن مريم.
وإلا كيف لم يتنبه ممثلو السلطة العربية الذين نعتوا الإفتاء غير الرسمي باللاعقلانية، إلى أن القوانين الرسمية لا تتميز، هي الأخرى بكمال العقل؟
ولماذا لم يتساءلوا عن الأسباب التي جعلت الناس يتوجهون إلى مفتي معارض لحل مشاكلهم العالقة، عوض الاستنجاد بأعضاء البرلمان كما يحصل في الدول الحديثة الحقيقية؟
وكيف ينعتون الفقه المعارض بالفوضوية وتاريخهم مكتظ بفقه الحيل، الوضعي منه والديني؟
ولو ألقوا نظرة على بعض المواقع الخاصة بالإفتاء البديل، لاكتشفوا أن الاستفتاء في مسائل العبادات يفوق بكثير السؤال في قضايا المعاملات، مما يدل على فقدان الناس الثقة في الموقّع الرسمي عن الله حتى في قضايا أكل عليها الدهر وشرب من مثل نواقض الوضوء وما شابهها. والأدهى أن الاستفتاء لا ينحصر في قضايا العبادة، بل يتعدها إلى مسائل معاصرة من نوع مدى إسلامية استعمال الهاتف النقال أو زرع الأعضاء البشرية التي أجاب عنها القانون الرسمي في معظم الدّول العربية.
ولو تركت السلطة العربية الرسمية جانبا فوضى الفتاوى وما تجرّه مضامينها المضحكة من بلاوي، وأخذت بالاعتبار قيام الفتوى بوظيفة سدّ فراغ تشريعي، أي الإجابة عن إشكال جديد لا يوفر له القانون إجابة، لتبيّن لها أنّ الناطق بالفتوى ليس هو صانعها الحقيقي، وإنما هو السّائل الذي يكون في حاجة حقيقية أو مصطنعة إيديولوجيّا، عجزت الآلة الجبارة التشريعية الرسمية الحديثة عن تأطيرها قانونا، أو تعامت عنها لأسباب سياسية، أو تخلت عنها ببساطة للفقهاء نظرا لطبيعتها الدينية. وفي هذه الحالة الأخيرة بالذات، يمكن التساؤل حول سبب اعتراف السلطة الضمني بمبدأ التفريق بين قانون قيصر وقانون الله، الذي سمح للمعارضة السياسية الإسلامية بتشييد كنيسة في دار الإسلام السنّي.
وقد قرأت على الإنترنت استفتاءالشاب أردني يستنجد بمفتي معارض لمعرفة مدى شرعية عمله المدني مع الجيش الأميركي في العراق، بعد أن اعتذر موقع استفتاء رسمي عن الإجابة “بحجة الحرج الشرعي” كما ذكر الشاب.
وقد استفحلت ممارسة تجاهل حاجات المواطن، حقيقية كانت أو إيديولوجية، منذحرب الخليج لسنة 1991، وبدأ الإفراط في تسييس الفتوى يستفزّ العلمانيين والإسلاميين على حدّ سواء.
ولنتذكر أنه في السّنة المذكورة، حين لم تكن وسائل الاتصال العجيبة، من فضائيات وإنترنت، قد وقعت بعد في يد الإفتاء البديل، صدرت الفتوى الشهيرة لفقيه سعودي رسمي، التي برّرت مشاركة جيوش المسلمين مع الأميركان في الحرب على العراق. وهي فتوى مخالفة نصا وروحا للآية الصريحة (28 سورة آل عمران) “ألا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء”.
غير أن الشيخ عبد العزيز عبد الله بن باز، صاحب الفتوى المذكورة، خرج من الورطة بالاتكاء على آية “وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ”، مما اضطرّه هو الآخر إلى مقارنة حلفائه الأميركان بالميتة والدّم والخنزير، و كلها أخف وطأة على المسلم من “الملحد صدام” حسب تعبيره. فقد قال الشيخ حرفيا: :“إن الدولة في هذه الحالة قد اضطرت إلى أن تستعين ببعض الدول الكافرة على هذا الظالم الغاشم ( يقصد صدام حسين) لأن خطره كبير(...) وأنت أيها المسلم المجاهد في هذه الحرب، إن أصلح الله نيتك، تقاتل عن دين الإسلام وعن نفوس المسلمين وأموالهم وبلادهم، وعن عامة المسلمين وحرماتهم، وتصد عنهم عدوا ملحدا، أكفر من اليهود والنصارى(...) والمقاتل مع صدام متوعد بالنار؛ لأنه أعانه على الظلم والعدوان، ويخشى أن يكون كافرا إذا وافقه على بعثيّته وإلحاده”
وبعد ستة عشرة سنة، اعتبرت نفس المؤسسة السياسية صدام “الكافر” الذي بشّرته الفتوى السّابقة بالخلود في أسفل درك من النار، والذي يجوز لعنه، ولا تقبل منه توبة، شهيد الأمتين العربية والإسلامية، انتُهكت بإعدامه يوم العيد حرمة الإسلام والعرب.
و لم يستهجن الناس كثيرا فتوى فقيه السلطان ولا هذا التغيير الجذري لموقف السلطان، فقد تعودوا على تحمل ما لا طاقة لهم به منذ الخليفة الأول كما رأينا، إلى الفتوى التي اعتبرت اتفاقية “كامب ديفيد” شبيهة بصلح الحديبية، حتى جاء فيما بعد الفقه المضاد ليعتبرها استمرارا لهزيمة أحد.
وبعد الإفتاء السعودي بجواز أكل لحم الخنزير الأميركي لضرورة مقاومة “الكافر” صدام، ثم بعدم جواز أكل لحم خروف العيد حدادا على صدام الشهيد، جاء دور شيوخ الأزهر ليفتوا في الأمر
و نقيضه بطريقة أصبحت تدعو إلى الاستهزاء أكثر من السّخط. و يتمّ غالبا اتخاذ المواقف ليقع فيما بعد استدعاء النصوص والأدلة الشرعية، لا للتحاكم إليها، وإنما للاستظهار بها بعدما استلت من سياقها الشرعي التكاملي، حتى أن الناس أصبحوا قادرين على التنبؤ بمضمون فتاوى أزهر مصر كلما اندلعت معركة سياسية.
هذه الممارسات التي تطعن في ذكاء المواطن، و تلك التي تنسف مفهوم الدولة الحديثة، والتي استنفد في الكتابة فيها أطنان من الحبر، هي التي أنتجت الحاجة إلى قانون شعبي بديل، وهذه الحاجة هي التي ولدت مؤسسة الإفتاء المارقة عن السلطة، مما سمح في النهاية ببروز ظاهرة دولة في دولة. ويكفي أن نتجول في شوارع المدن العربية وفي أريافها لنعرف من هي الدولة التي التهمت الأخرى.
والمهم هو أن ظاهرة الاحتماء بمؤسسة الإفتاء غير الرسمية التي تستجيب في الأغلب إلى حاجيات أنشأتها الإديولوجيا، وهو ما لا ينفي عنها صفة الحاجة على كل حال، وتآكل مصداقية المؤسسة التشريعية السلطانية، هي التي جعلت السلطة العربية الرسمية تقول لمؤسسة الإفتاء غير الرسمية :“ارفعي لسانك عن خالد”.
صحيح أن عمر ابن الخطاب، و بأمر أميري، رفع لسانه عن خالد، لكنه عندما تولى الإمارة كان أوّل قرار اتخذه هو عزل الجنرال خالد وهو في قلب معركة.
أما مؤسسات الإفتاء المتنطعة، فهي لم تنتظر وضع اليد على السلطة، فقد أولتها الإنترنت و الفضائيات إمارة المسلمين، تديرها بين الفضاء والهواء بمهارة فائقة. وهي لم تكتسب هذه المهارة عن جدارة، كما يدلّ على ذلك سخافة مضامين الفتاوى التي تصدرها، بل بفضل هجانة الفتاوى السياسية لفقهاء السلاطين، فضلا عن تناقضاتهم.
يقول “المقريزي في”إغاثة الأمّة في كشف الغمّة: “من تأمّل هذا الحادث من بدايته إلى نهايته، وعرفه من أوّله إلى غايته، علم أنّ ما بالنّاس سوى سوء تدبير الزّعماء والحكّام وغفلتهم عن النّظر في مصالح العباد” (انتهى)
إذ لا يمكن طبعا لظاهرة القصف بالفتاوى والفتاوى المضادّة أن تنشا في غير البلاد التي يتكرّم فيها الحاكم على الناس ببيع حرية التعبير بالتقسيط والفوائد.