تدخل الحركات النّسائيّة - كما هو معروف - ضمن أشكال حركات التّحرّر التي عرفها القرن العشرين بجميع صورها السّياسيّة والثّقافيّة والفنّيّة... إنّها حركة حديثة العهد، بل إنّ تاريخها قصير جدّا، ولكنّها مع ذلك استطاعت أن تحقّق مكاسب عديدة، وأن تقيم قطيعة مع العهد البائد، إذ كانت المرأة تعتبر تابعة للرّجل وذيلا له. ففي العديد من الثّقافات ومن بينها الثّقافة العربيّة، كانت مجرّد ملحق للرّجل وشيء كباقي الأشياء، لا ينظر إليها كشخص له قيمة في حدّ ذاته، بل ينظر إليها انطلاقا من المردوديّة، أو المتعة التي يمكن أن تجلبها للرّجل .
لقد خلّصت حركات التّحرّر النّسوي المرأة من الدّائرة الضّيّقة التي كانت تتحرّك فيها طوال عقود تاريخيّة، ومن ذلك الإكراه الذّكوري الذي خضعت له، وها نحن نلاحظ في المجتمعات المتقدّمة وكذا السّائرة في طريق النّمو، كيف أنّ التقدّم والحركيّة الاجتماعيّة، تساهم فيها النّساء بقسط وافر إن لم يكن يتجاوز أحيانا مساهمة الرّجال أنفسهم. لقد استطاعت الحركات الاحتجاجيّة النسائيّة، التي انتقلت من السّياق العفوي إلى الانتظام داخل إطارات مهيكلة أن تمنح للمرأة حضورا قويّا في الكثير من مجالات الحياة العامّة، وهو أمر لم يرق على أيّ حال بالنّسبة إلى عديد من الشّرائح الاجتماعية الذّكوريّة التي يهيمن عليها الفكر السّلفي والتّقاليد القروسطيّة العتيقة.
يهمّنا إذن في هذا المقال مساءلة هذا النّجاح والكشف عن منطلقاته وغاياته. لقد أنتجت الحركات النّسائيّة خطابا قويّا أصبح يعلن عن حضوره في كلّ المناسبات، لكن هل تمارس هذه الحركات فعلا سيادتها وهيمنتها من خلال هذا الخطاب أم أنّنا يمكن أن نقول العكس بمعنى أنّ الحركات النّسائيّة هي التي توجد اليوم في قبضة هذا الخطاب الذي أنتجته، ففي كثير من الأحيان يبدو أنّ كلام النّاس وإنتاجاتهم المعرفيّة، وحركتهم التّاريخيّة وفعلهم الواقعي كلّ ذلك ينفلت من وعيهم المباشر به، نقصد تملّكهم لخطابهم، ووضعهم الأصابع على التّخوم التي يرمي إليها. إنّ الخطاب في وعي الأفراد والجماعات ليس عبارة بريئة ينتهي أفقها بنقطة يضعونها في آخر كلامهم. إنّهم يعتقدون أنّ حدود الخطاب الذي أنتجوه هي حدودهم، لذلك فهم يتوهّمون تغيير هذه الحدود وقتما شاؤوا وكيفما أرادوا، ما دام لديهم يقين صادق عن مطابقة خطابهم للعالم، واعتقادهم أنّ كلّ ما يقولونه عن أنفسهم وعن الحياة هو الحياة نفسها، وهو ينفد إليها مباشرة من أجل المعرفة أو من أجل السّلطة.
إنّهم يتوهّمون أنّهم هم وحدهم المالكون لهذا الخطاب، أسياده الذين باستطاعتهم السّيطرة عليه، بقوّة هذا التّملّك أو بقوّة وعيهم به. من أجل هؤلاء يجب أن نقول إنّنا فعلا ننتج خطابا لكنّه أبدا لن يكون عبارة شفافة، ثمّة أصوات أخرى تسكنه، بل ثمّة ذوات أخرى هي غير ذوات زماننا، ومع ذلك فقد ساهمت ببناء هذا الخطاب الذي نعتقد أنّنا أسياده، بل لربّما هذه الأصوات هي التي وضعت تخومه التي نجهلها نحن. إنّنا نمضي في طريق ليست بدايته هي بدايتنا ولا حتّى أيضا - ويجب أن نعترف بذلك - نهايته هي نهايتنا. إنّ الخطاب لا يمسّ زماننا إلا كتقاطع، ولا يطابق حياتنا إلاّ كاختلاف. لذلك لا نستطيع أن ننتج أبدا يقينا بصدده، ولا حتّى توهّم ممارسة سلطة عليه، وكلّ ما بوسعنا هو إعطاء تحليل لمجمل هذه التقاطعات وهذه الاختلافات، وبالتّالي ندرك موقعنا من الخطاب وليس موقعه في أيدينا.
يحقّ لنا أن نتساءل في هذا السّياق هل التّحرّر النّسائي اليوم هو حقّا نسائي؟ ألا تنطوي هذه الحركات في العديد من مطالبها على تكرار للنّزعة المركزيّة الذّكوريّة؟ كيف تحوّلت النّسويّة اليوم من الرّغبة في تحقيق الذّات إلى نوع من التّفكيك البطيء لها نتيجة التّحوّل من مجال تأسيس المختلف إلى السّقوط في التّماثل والمطابقة؟
بين النّموذج الأمومي والنّموذج العمومي
أكيد أنّنا لسنا أمام الأدوار الاستثنائيّة الذي كانت تلعبها المرأة عبر التّاريخ في قيادة المعارك وصنع الانتصار (جان دارك مثلا) أو في التّأثير على النّشاط السّياسي والاجتماعي العام رغم أنّهن أصبحن اليوم “سلطانات منسيّات”.
1. بل نحن أمام تحوّل جذري في تاريخ الحركات النّسائيّة، إذ تظهر المرأة كما لو أنّها تجاوزت مرحلة النّضال من أجل مطالب محدّدة لتحسين أوضاعها الاجتماعية، وتكسير القيود التي تصنع “استعباد النّساء”.
2. إنّها تقدّم نفسها اليوم ككائن جديد يبحث عن كينونة جديدة، وهذا هو ما تقوم به بالخصوص الموجة الثّالثة للنّسويّة (النّسويّة المعاصرة).
تتحرّك المرأة اليوم في شدّ وجذب بين نموذجين تحنّ فيهما إلى الأوّل بينما هي تنجرف نحو الثّاني، وهذين النّموذجين هما كما يلي.
أوّلا النّموذج الأمومي: الذي يجعل المرأة ربّة بيت وليس ربّة أسرة، فمكانها محصور هاهنا تحديدا فيما تمليه عليها طبيعتها وخصوصيّة جسدها، إنّه فضاء الأمومة، والعواطف العشقيّة التي لا تعترف بمنطق العقل أو المردوديّة النّفعيّة التي وضعتها الحضارة المعاصرة كمبدأ أعلى.
ثانيا النّموذج العمومي: الذي يفرض عليها بفعل الانتصارات التي حقّقتها شكلا محدّدا من الوعي بذاتها وبالتّالي طريقة نمطيّة في الوجود، وهو فضاء لا يعمل إلاّ على ضياع الفعل الحرّ والتّلقائي للذّات والانجراف القسري في شبكة من العلاقات المؤسّساتيّة التي تتعالى عليها وتجعلها مثل ذرّة تائهة مجبرة على ضرورة الكفاح من أجل العثور لها على مكان داخله.
أليس لكلّ هذه الأسباب وغيرها حاول الفيلسوف الألماني يورغين هابرماس في مشروعه الفلسفي إعادة تعريف الفضاء العمومي بما يجعله أكثر إنسانيّة وحتّى يتجاوز الأزمات الدّاخليّة للحداثة.
بين النّموذج الأمومي والنّموذج العمومي يقع الوعي الشّقّي للنّسويّة المعاصرة، فالمرأة تتأرجح اليوم بينهما، وهو تأرجح ينتهي إلى نوع من التّمزّق في الكيان والوجدان، فهي تصطدم يوميّا مع المجتمع الذي يطاردها ويريد أن يدوس على خصوصيّتها ويتنكّر لجسدها، لكنّها أيضا في صراع مع نفسها لأنّها لا تريد أن تخسر معركة راهنت عليها بكلّ كيانها.
أحيانا تريد المرأة أن تكفي نفسها بنفسها، وأن تعيش خارج إكراهات النّموذج الأمومي، من خلال رفعها لشعار الحريّة والعمل والاستقلالية... غير أنّها تكشف في نهاية المطاف الثّمن الذي دفعته في سبيل تحقيق مثل هذا النّموذج وهو الأمومة والعزلة وأحيانا الإقصاء الاجتماعي الذي لا يرحم خاصّة في المجتمعات الشّرقيّة.
هكذا حينما خرجت المرأة إلى الفضاء العمومي تاركة وراءها الفضاء الأمومي، وجدت نفسها أمام فضاء جديد لم تعهده من قبل، فضاء يهيمن عليه الرّجل أساسا، فاندمجت فيه ببنيته الذّكوريّة وبمعاييره العامّة دون أن تحدث تغييرا في هذه البنية، وذلك لأنّ عملا من هذا القبيل يفترض أوّلا وقبل كلّ شيء طرح سؤال الهويّة: من أنا وكيف ينبغي أن أكون، غير أنّ هذا السّؤال تحوّل إلى رهان حول القدرة والمقدرة: أنا أستطيع أن أفعل هذا أيضا. أنا قادرة بدوري أن أكون هكذا.
إن نجاح النّسويّة يكمن في بحثها عن غيريّة جذريّة، أي عن اختلاف تتميّز به عن النّموذج الذّكوري، لكن مادام هذا الاختلاف لا يعاش إلاّ كممارسة نديّة فإنّ هذه الغيريّة تتحوّل في نهاية المطاف إلى تشظّي للذّات وألم غير قابل للبوح.
النّسويّة اليوم لا تتعرّف على نفسها إلاّ في هروب مستمرّ وجامح إلى الأمام، عبر إنكار مستمرّ للذّات، أو عبر تعالي محدّدة معالمه بشكل قبلي من طرف أشكال السّلطة المؤسّساتيّة للذّكوريّة.
الموجات الثّلاثة للحركات النّسويّة
يمكن أن نصنّف تاريخ الحركات النّسائيّة إلى ثلاثة موجات أساسيّة:
- الموجة الأولى:
بدأت بنهاية القرن التّاسع عشر وبداية القرن العشرين، والتي ظهرت في بداية الأمر كحركة سياسيّة بالأساس ترمي إلى النّضال من أجل مطالب اجتماعيّة وسياسيّة محدّدة مثل الحقّ في التّصويت والمشاركة السّياسيّة والحقّ في العمل... ويمكن أن نمثّل لهذه المرحلة بأسماء مثل...
- الموجة الثّانية:
فقد بدأت في السّتّينات والسّبعينات من القرن العشرين، وهي مرحلة انتقلت فيها الحركات النّسائيّة من الكفاح الميداني إلى الاهتمام ببناء النّظريّة النّسويّة التي تركّز على تفكيك ونقد الثّقافة البطريركية، وهنا تحضر سيمون دوبوفوار كرمز لهذه المرحلة بكتابها “الجنس الآخر” الذي اعتبر عمدة الحركات النّسائيّة في هذه الفترة.
- الموجة الثّالثة:
فتبدأ منذ الثّمانينات وتستمر إلى اليوم وهي موجة تهتمّ بالخصوص بطرح مسألة الاختلاف بين الجنسين، وهويّة الأنثوي وهي الموجة التي تمثّلها حاليّا المحلّلة النّفسيّة والفيلسوفة لوس إريغاراي.
وإذا ما تجاوزنا المرحلة الأولى التي كانت نضاليّة وسياسيّة أكثر ممّا هي تنظيريّة فإنّ مجمل تاريخ الحركات النّسائيّة يكمن في الانتقال من مرحلة محو الاختلافات بين الرّجل والمرأة طبقا لمبدأ المساواة العام، حيث كانت الرّغبة في دفع المرأة إلى الفضاء العمومي وفرض ذاتها في ميدان الفعل والعمل تقتضي بالضّرورة تجاوز القول باختلاف الجنسين. إلى مرحلة الاعتراف بالاختلاف الجذري الموجود بين النّوعين والدّفاع عنه.
المرحلة الأولى تمثّلها من النّاحية الفكريّة سيمون دوبوفوار، أمّا المرحلة الثّانية فهي تضمّ أسماء كثيرة مثل هيلين سيسكو وجوديت باتلر ولوسي إريغاراي حيث تظلّ هذه الإخيرة بشهادة العديد من المتتبّعين أبرز صوت معبّر عن الموجة الثّالثة للحركات النّسائيّة.
لقد كانت سيمون دوبوفوار تعتقد أنّ الوضع البشري واحد بالنسبة إلى الجميع ذكرا كان أو أنثى، وكانت تدافع عن ضرورة تجاوز الاختلافات؛ التي لم يصنعها سوى السّياق الثّقافي والتّاريخي، وهذا هو ما تدلّ عليه القولة الشّهيرة: “إنّ المرأة لا تولد امرأة ولكنّها تصير كذلك”. أمّا اليوم فإنّ المقاربات الجديدة تميل أكثر إلى الاعتراف بالنّوع وإلى إبراز مفهوم الأنوثة كهويّة ضروريّة للنّسويّة، وكما ترى إيريغاراي فإنّ فكرة المساواة ذاتها هي فكرة ذكوريّة لأنّها تعني بكلّ وضوح أنّ المرأة ينقصها شيء يمتلكه الرّجل وأنّه من حقّها الحصول عليه لأنّها تستحقّه3.
وبالتّالي فإنّ هذه المساواة تتمّ تسويتها ضمن المنظور الذّكوري، أي ضمن الشّروط والمقاييس التي يفرضها الرّجل. هكذا ضدّ الفكرة الشّهيرة لسيمون دوبوفوار القائلة بأنّ المرأة لا تولد امرأة ولكنّها تصير كذلك ترى إريغاراي أنّ المرأة عليها أن تضع رهانها من أجل أن تصير امرأة فالأمر يتعلّق ببناء الذّات وتأسيسها في هذا الاتّجاه تقول:
“أنا أولد امرأة لكن يجب عليّ مع ذلك أن أصبح هذه المرأة التي أكونها بالطّبيعة”4.
وكيفما كان الحال نستطيع أن نقول إنّ المساواة لا تعني أن يلتحق الرّجل بالمرأة، أو المرأة بالرّجل، بل أن يتمكّن كلّ منهما من أن يكون ذاته وأن يفرض ما يخصّه وأن يتمّ الاعتراف به من طرف الآخر على أنّه آخر غير قابل للاختزال في هويّة واحدة أو تطابق واحد.
إن إحدى الأخطاء الكبيرة التي سقطت فيها النّسويّة هو الخطأ المتعلّق بتنميط صورة المرأة على المستوى العالمي، سواء في السّياق السّياسي أو في السّياق الرّأسمالي التّجاري، يبدو عالم المرأة وهويّتها وكينونتها أصبحت واحدة. لقد جعلت الرأسماليّة من جسد المرأة صنميّة سلعيّة لها نفس المقاييس في جميع الثّقافات غير أنّ الحديث عن الأنثويّة هو حديت عن قيم إنسانيّة عليا، وليس مجرّد حديث عن جماليّات حسيّة ينبغي للمرأة أن توفّرها كما يوهمنا بذلك خطاب الموضة المعاصرة. أو بطريقة مباشرة ليست الأنثويّة عطر وتنّورة ورموش مهزوزة وإنّما الأنثويّة تعيين من تعيينات الوجود. وهكذا لم يعد الجسد قوّة محيية للذّات، بل أصبح عبئا ثقيلا ينبغي نحته وإعادة تشكيله حتّى يتطابق مع المعايير الكونيّة التي يفترضها منطق السّوق الاستهلاكي.
ونفس الأمر يحدث على المستوى السّياسي والاجتماعي حيث يصبح نموذج المرأة التي نتوق إلى تحريرها يقتضي بالضّرورة طمس الاختلافات الثّقافيّة والحضاريّة والعمل على ابتكار نموذج واحد لها هو نفسه هنا أو هناك، إنّها المساواة التي تلغي الاختلاف وتصنع الصّنميّة.
في ظلّ ظروف كهذه فإنّ الإبداع الحقيقي هو إبداع الذّات ضمن سياقات غير منتظرة، ومنفلتة عمّا تمليه قوانين الفضاء العمومي ذو الجذور البطريركية، نقصد أنّ المساواة الحقيقيّة ستكون هي إبداع الاختلاف الجذري بكلّ ما يقتضيه هذا الاختلاف سواء تعلّق الأمر بالبحت عن لغة جديدة لقول ما يصعب قوله بلغة الرّأسمال واللّيبراليّة الاجتماعية. أو تعلّق الأمر بالبحث عن مواقع اجتماعيّة جديدة لتصريف هذا الاختلاف على شكل سياسات تضمن الدّفاع عن ضرورة تأسيس مواطنة جديدة ومقلقة.
إنّ كل هذا يعني بالضّرورة أنّ الحديث عن سياسة الاختلاف La politique de la différence لا تعني بتاتا خفض مكانة المرأة في المجال الخاصّ بها ألا وهو المجال الأمومي والقول بأنّ الفضاء العمومي هو شأن رجاليّ ولا علاقة للمرأة به، بل يعني بالأساس أنّ المرأة حينما تحضر في الفضاء العمومي عليها أن تحمل الإضافة، ولا نقصد هنا فقط المردوديّة والإنتاجيّة التي تسمح لها بتأكيد ذاتها، بل نقصد الإضافة التي تخلخل القواعد التّاريخيّة لهذا الفضاء، أن تبدع قيما جديدة مضادّة للقيم الذّكوريّة، وأن تتحدّى المنطق لإلحاقي الذي يجعلها تابعة للقيم السّائدة.
الإنسان الكلّي والإنسان الزّمني
بين سلطة النّموذج وصعوبة تأسيس المختلف يقع هذا الأنين الخافت للنّسويّة المعاصرة، فقد تتمكّن هذه الحركات من تحقيق إنجازات قويّة في ميدان الفعل والعمل، وهو أمر لا شكّ فيه بالنّظر إلى لائحة المطالب التي تحقّقت على أرض الواقع، غير أنّ مسألة تحقيق الذّات تظلّ مسألة أخرى. ففي كثير من الأحيان يبدو أنّ المرء يختفي وراء تحقيق نجاحات موضوعيّة حتّى يجنّب نفسه طرح السّؤال الحقيقي حول معنى حياته وحول ما إذا كان العمل الذي يقوم به يسمح له بانفتاح الذّات ونموّها الدّاخلي.
إنّ الأمر يشبه ما أشار إليه هوبير بونوا حينما ميّز بين مفهومين أساسيين لديه هما: الإنسان الزمني والإنسان الكلّي، فهذا الأخير تكون حياته بشكل عام موجّهة من أجل: “تحقيق الكينونة”، بينما الثّاني يميل أكثر إلى الاستجابة لما تمليه عليه تحدّيات الواقع الخارجي، هكذا بالنّسبة إلى الإنسان الكلّي: “تكون الحالة الدّاخليّة للتّحقق هي الهدف الأساسي، ويكون الموضوع المتضمّن في الفعل هو الهدف اللاّحق ليس من حيث الزّمن بل من حيث تكوين الفعل، فإنّ الموضوع الخارجي عند الإنسان الزّمني هو الهدف الأساسي، والحالة الدّاخليّة للتّحقيق هي الهدف اللاّحق”5.
إنسان زمنيّ وليس إنسان كلّي هذا هو الوضع الذي تحتلّه المرأة اليوم، والسّبب يعود إلى أنّ الرّأسماليّة التي أصبحت كميتافيزيقا اقتصاديّة تريد محو الاختلافات بين البشر، ونشر النّموذج الواحد، النّمطي، الجاهز والمشترك بين الجميع، إنّها تكره كلّ ما هو نوعي وخاص، متفرّد، غير منضبط للنّسق، ميّال إلى خلق الفرادة والتّميّز.
لكن مع ذلك في هذه العمليّة تكمن مفارقة عجيبة يجب كشفها، فالرّأسماليّة التي تحاول أن تجعل كلّ شيء “زمانيّا” وليس “كيانيا” بحسب التّمييز السّابق لبونوا، تحوّل في الآن ذاته الإنسان إلى ذات قلقة مغلقة على مصيرها، منسحبة إلى الوراء باحثة عن مكان لها خارج الدّائرة النمطية، وبالتّالي فهي تعيش وجودها منزعجة خائفة دوما عمّا إذا كانت ستتمكّن بالفعل من تحقيق هذا المشروع الاجتماعي الذي رسم لها سلفا.
هكذا فغياب الطّمأنينة والسّكينة وضعف العلاقات البشريّة القائمة على التّضامن والألفة، والسّباق المحموم نحو التّملك، والرّغبة في التّفوّق عن طريق مراكمة البضائع، وتدمير الآخر بأيّ ثمن بغية الوصول إلى تحقيق النّجاحات الماديّة مهما كانت صغيرة... كلّ ذلك هو ما يجعل المرأة اليوم عالقة في الأزمة الحضاريّة العامّة التي تميّز المجتمعات المعاصرة.
إنّ هذا هو ما يجعلنا نشكّ في طبيعة المشروع التّحرّري النّسائيّ اليوم، فقديما كان وجودها برمّته يتمثّل في الخضوع والطّاعة والامتثال المطلق للرّجل، أمّا اليوم فكينونتها تتحدّد في التّماثل والتّماهي مع التّجربة الرّجاليّة دون أن تتمكّن بالفعل من الدّخول في صيرورة “تذويت نسائي” sujétion féminine ينبع من كيانها الخاصّ وذلك مادام النّموذج العمومي قد حدّد للرّجل معالمه الأساسيّة في حين تجد النّسويّة اليوم نفسها دون مضمون أنثوي حقيقي.
أن تتعرّف المرأة على نفسها من خلال الآخر وليس من خلال طرح السّؤال الخاصّ بكينونتها، فهذا هو ما أسّس التّاريخ الحزين للحركات النّسويّة. ولكن علينا أن لا ننسى مسألة أساسيّة وهي أنّ التّفكير في الوضع النّسائي لا ينبغي النّظر إليه مطلقا على أنّه تفكير مناهض لمسألة العدالة التي ينبغي أن تحلّ بين الجنسين، فمن ينتقد التّقنية مثلا لا ينطوي فكره بالضّرورة على نزعة مضادّة للعلم، ومن يكشف عن انزلا قات الحداثة لا يدعو حتما إلى “التّقليدويّة” Le traditionalisme . علينا أن لا نفهم الدّعوة إلى الاختلاف على أنّها دعوة للحفاظ على ما يميّز النّموذج التّقليدي القائم على تمجيد الخضوع والتّبعيّة، فمثل هذا الاختلاف يصنع هويّة ميّتة غير متحرّكة، وهو ما يمكننا أن نسمّيه بالاختلاف الدّغمائي La différence dogmatique الذي يقوقع الذّات حول وهم الهويّة بدل أن يجعل هذه الذّات تعيش قلق الهويّة.
وهكذا أيضا من ينتقد أوهام الحركات النّسائية لا يتوقّف ضدّ تحرّر المرأة، فمسألة الحقوق مثل حقّ التّصويت، وحقّ العمل، والحقوق المدنيّة الأخرى كلّها تبدو لنا أمورا لا ينبغي أن نشكّ في جدواها بالنّسبة إلى كلّ مجتمع أراد بالفعل أن يتخلّص من ثقل الماضي.
النسوية بين مطلب الاختلاف ومطلب المساواة
في كتابه: “باراديغما جديدة لفهم عالم اليوم” 6، يبيّن ألان تورين أنّ مجمل تاريخ الحركة النسائيّة يمكن أن يقسّم إلى قسمين:
- الأوّل: يدافع عن المساواة أي على ضرورة إدماج مشاركة المرأة في المجتمع مثلها مثل الرّجل تماما.
- الثّاني: فهو يدافع عن الاختلاف أي عن ضرورة امتلاك المرأة لهويّة خاصّة بها ووضعا اعتباريّا يميّزها كذات مخصوصة.
السّؤال إذن هو كالتّالي: هل للمرأة الحقّ في الاختلاف أم الحقّ في المساواة؟
والحقّ أنّ الكاتب يشير إلى صعوبة التّوفيق بين المطلبين حتّى أنّه يستعير من السوسيولوجيين لويس ديمون وكليفورد غيرتز استعارة بالغة الدلالة وهي أنّ التّوفيق بين الاختلاف والمساواة يشبه التّوفيق بين المربّع والدّائرة. غير أنّ ألان تورين مع ذلك ورغم هذه الصّعوبة يرى أنّ مسألة الاختلاف هذه ينبغي أن لا يتمّ التفكير فيها بلغة سيكولوجيّة بل بلغة اجتماعيّة تطرح الهويّة والوعي الذّاتي للمرأة في سياق التّفاعل الثّقافي والاجتماعي وبالتّالي سيصبح هذا الاختلاف له طابع مؤثّر على التّراتبيّة الاجتماعيّة7. أي باختصار ينبغي الدّفاع عن اختلاف يصنع مركزيّة جديدة للمرأة. إنّنا نتفهّم تهرّب ألان تورين من تناول مسألة الهويّة من جانبها النّفسي فهو كعالم اجتماع لا يريد أن يقحم نفسه داخل لغة فلسفيّة، في نظره ينبغي إذن تجاوز المساواة والدّفاع عن الاختلاف ولكن بطبيعة الحال فهذا الاختلاف ليس جوهرا ميتافيزيقيّا متعاليا بل هو إنتاج لعلاقات اجتماعيّة جديدة. ولكنّ الإحراج الذي يمكن الاعتراض به على ألان تورين هو: هل من الضّرورة لهذه الذّات الفاعلة الجديدة على المسرح الاجتماعي أن تقوم بإنتاج وتكرار مركزيّة جديدة؟
إنّ الأطروحة التي يدافع عنها الكاتب هي أنّنا: “لا نتقدّم نحو مجتمع مساواة بين الرّجال والنّساء ولا أيضا، نحو مجتمع خنثوي، لكنّنا دخلنا في ثقافة ـ أي في حياة اجتماعيّة ـ موجّهة وبالتّالي محكومة من قبل النّساء لقد دخلنا في مجتمع نساء”8.
لا يقصد ألان تورين أنّ الهيمنة الذّكوريّة قد اختفت وأنّ المرأة قد أصبحت هي المتحكّمة في مصيرها، إذ أنّ الرّجل مازال حاضرا وهو يمسك بمفاصل اجتماعيّة أساسيّة مثل الأجور والسّلطة ومراكز القرار...
لكن مع ذلك تمتلك المرأة في نظره شيئا هامّا ألا وهو الثّقافة النّسويّة الصّاعدة، والقدرة على التّعبير الحرّ عن الذّات. إنّنا نفهم من جانبنا أنّ المرأة أصبحت تمتلك اللّغة وهنا يبرز جوهر القضيّة ماذا ستفعل بهذه اللّغة: هل ستستعملها من أجل بلورة قيم إنسانية جديدة وبديلة، أم أنّها ستكتفي بالسّعي نحو احتلال مواقع اجتماعيّة والصّراع حول السّلطة أساسا. إنّنا نخشى عمّا إذا كان تأسيس “مجتمع نساء” كما أطلق عليه ألان تورين بدل “مجتمع رجال” البطريركي البائد فإن القضيّة النّسويّة لن تكون في نهاية المطاف سوى مركزيّة جديدة تضاف إلى باقي المركزيّات الأخرى.
هويّات نسويّة جديدة
أمام وضعيّة كهذه ما هو الحلّ الذي تطرحه النّسويّة المعاصرة؟
إنّ الحلّ الذي تنادي به هذه الحركات هو “الجندر” Gender وهو مفهوم ينطلق من ضرورة إلغاء الاختلاف البيولوجي بين الرّجل والمرأة، وتقديم الكائن البشري كما لو أنّه كائن مجرّد، كائن محايد على استعداد لأن يؤدّي الدّور الذي تتطلّبه الظّروف دون ارتباط بالخصائص التّشريحيّة الجسديّة.
أو بطريقة بسيطة إذا ما وجدت المرأة نفسها أمام ظروف تتطلّب منها أن تكون رجلا، وأن تلعب الوظائف الاجتماعيّة التي تلعبها فهي تقوم بذلك دون انتباه إلى خصوصيّة جسدها، والعكس صحيح أيضا إذا وجد الرّجل نفسه أمام سياقات تتطلّب منه أن يلعب وظائف المرأة فعليه أن يقوم بذلك بصدر رحب ودون تذمّر كما تقول تنظيرات هذا المفهوم .
يرفض “الجندر” إذن الاعتراف بالاختلاف البيولوجي بين الرّجل والمرأة، أو هو بالأحرى يقول إنّه علينا أن لا نستند إلى ما هو بيولوجي من أجل تعريف هويّتنا. هذا معناه أنّ هذا المفهوم لا يعترف بخصوصيّة الأمومة أو الأنثويّة أو الأبويّة أو غير ذلك من المشاعر الطّبيعيّة المألوفة.
ليست هناك سوى جنوسيّات، كائنات مجرّدة، أنواع محايدة لا هويّة لها سوى ما تمنحه لها الظّروف وتقلّبات الحياة. إنّ الخوف من غياب التّكافؤ والمساواة بين الجنسين أدّى بالحركات النّسائيّة إلى التّنكر نهائيّا لمسألة الاختلاف ورفض تجنيس قضاياها.
هكذا أصبحنا نعيش عودة لأسطورة الأمازونيّات اليونانيّات اللواتي ذهبن إلى جزيرة نائية فقمن بقطع أثدائهن رغبة منهن في أن يصبحن رجالا. إنّ المرأة / المحاربة، والمرأة / الأمازونيّة، والمرأة / الجندر كلّها أنماط جديدة ظهرت إلى الوجود نتيجة العمل الطّويل الذي قامت به هذه الحركات من أجل تفكيك البنيات التّاريخيّة للمركزيّة الذّكوريّة، فكانت النّتيجة هي تثبيت مركزيّة جديدة لا تختلف في شيء عن المركزيّة السّابقة عليها، وذلك مادام أن النّسوية المعاصرة ما هي إلا ذكوريّة خفيّة Une Masculinité déguisée لأنّها لا تقوم بشيء آخر سوى تكرار القيم الأساسيّة التي قام عليها النّظام البطريركي، ولنتأمّل المجال السّياسي ماذا استطاعت المرأة أن تغيّر فيه.
إنّ أسماء مثل غولدا مائير أو مارغريت تاتشر أو كونداليسا رايس... وغيرهن كثيرات لم يقمن سوى بتكرار قيم القوّة والسّلطة والإقصاء والحلول العسكريّة المباشرة وهذه كلّها قيم بطبيعة الحال لم تستطع أن تضيف أي جديد للحقل السّياسي الرّجالي الذي عرف على هذا النّحو عبر التّاريخ، والأمر لا ينطبق فقط على المجال السّياسي بل هو يحضر في الاقتصاد والإدارة والصّناعة وفي غيرها من مناحي الحياة، تبرز سلطة المرأة على أنّها لا تختلف في شيء عن سلطة الرّجل. هكذا يبدو أنّ الحركات النّسائيّة في الكثير من اتّجاهاتها وخاصّة المتطرّفة منها تعمل على تنصيب مركزيّة جديدة مكان المركزيّة البطريركية التي تريد مناهضتها والحال أنّ الأمر لا يتعلّق بإلغاء وجود الرّجل من طرف المرأة، أو إلغاء وجود المرأة من طرف الرّجل، أي لا يتعلّق الأمر بخلق التّبعيّة والهيمنة وأشكال السّلط والمركزيّة بل بإدراك ثقافة الاختلاف وقيم المغايرة. وكما لاحظ العديد من المتتبّعين للفكر النّسوي المعاصر فإنّ فكرة القول أنّ المرأة هي الأصل كما تقول نوال السّعداوي لا تختلف كثيرا عن الطّرح البطريركي الذي يقول إنّ الرّجل هو الأصل.
لقد صاغت الحداثة العلاقات الاجتماعيّة والمؤسّساتيّة والرّمزيّة بشكل تجعل فيه التّفوّق دائما للرّجل، غير أنّ الحداثة بما هي مجاوزة مستمرّة لذاتها ولمشاريعها الخاصّة، تجد نفسها اليوم أمام ذوبان هذه العلاقات التي أنتجتها فالثّقافة الأنثويّة أصبحت تتقدّم حثيثا وببطء من أجل فرض ذاتها ضدّ القيم الذّكوريّة البائدة. ويبدو لنا أنّ هناك بعض الأمل في أصوات جديدة تريد أن تترك بصماتها في ميادين مثل الإيكولوجيا والعلم والأدب... إنّ كلّ هذه الاعتبارات تدفعنا اليوم إلى الحديث عن حداثة أنثويّة، أو عن حداثة ناعمة soft Modernité ضدّ الحداثة الذّكوريّة الأنواريّة، إنّ الموجة الثّالثة للحركات النّسائيّة عليها أن تسير في إطار التّفكير في اتّجاه الحداثة النّاعمة، وهي حداثة لا تتأسّس على منطق القوّة والسّلطة والرّغبة في تشميل العالمLatotalitarisation du Monde ، بل تتأسّس على منطق الاختلاف والغيريّة والنّسبيّة والتّسامح وثقافة الاعتراف...
والآن ماذا بعد، لقد حاولنا الاقتراب من طبيعة الخطاب النّسائي لنسائله في منطلقاته وأهدافه، وأن نكشف في الآن ذاته حدوده، ولكن ألا يكون التّساؤل عن قضيّة المرأة هو بشكل أو بآخر طرح لقضيّة الرّجل نفسه، وتنقيب في هذه التّجربة الحداثيّة الرّجوليّة. ألا تذكّرنا المرأة في هذا السّياق بحقيقتنا الجذريّة، أي بتناهينا، فمهما بالغنا في تبجيل العقل وقدرته على استخراج مكنونات الوجود، ومهما بالغنا أيضا في الاعتداد بالقدرات المهولة التي يتضمّنها العلم والتّقنية في إمكانيّة السّيطرة على الطّبيعة، وعلى الهاوية التي تنتظر مجرّتنا، تصادفنا المرأة لتعيدنا لحقيقتنا الجذريّة، تناهينا الأساسي ، وهو ما يجمعنا في نه